نشر بتاريخ: 15/01/2018 ( آخر تحديث: 15/01/2018 الساعة: 19:40 )
الكاتب: د.محمود فطافطة
توجه رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتياهو، أمس، إلى الهند في زيارة تستغرق ستة أيام، تجيء بعد زيارة قام بها رئيس وزراء الهند ناريندا مودي إلى إسرائيل قبل نحو الثلاثة أشهر. وفي إطار هاتين الزيارتين المتبادلتين بين رئيسي وزراء تلك الدولتين، ينطلق السؤال الرئيس، وهو: ماذا تريد إسرائيل من الهند؟ هذا السؤال له امتدادات واسعة ومديدة، تنطلق منذ البدايات الأولى لاعتراف نيودلهي بتل ابيب في العام 1950، ومن ثم التبادل الدبلوماسي بينهما في العام 1992، وصولاً إلى العلاقة الوثيقة والاستراتيجية الراهنة بين الطرفين.
بداية، يجب التأكيد على التحولات الدولية والإقليمية في بداية التسعينيات من القرن الماضي انعكست على العلاقات الهندية ــــ الإسرائيلية، إذ أدى انهيار الاتحاد السوفيتي، ووقوع حرب الخليج الثانية، وبدء التسوية السياسية في المنطقة إلى تسريع إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين نيودلهي وتل أبيب. هذه التحولات التي جاءت في غالبية نتائجها لصالح واشنطن وتل أبيب دفعت الهند للتوجه نحوهما؛ أملاً في إيجاد دور لها في هذا النظام الجديد، والخروج من أزمتها الاقتصادية، بالتوازي مع العثور على منافع جديدة، وبديل يزودها باحتياجاتها العسكرية.
وبإقامة علاقات كاملة بين الطرفين بدأت مجالات التعاون تأخذ شكلاً مطرداً من النمو والتنوع والتوسع، سيما في المجالين الاقتصادي والعسكري . وفي مقابل ذلك، لم تعد القضية الفلسطينية تخضع لتلك القاعدة التي كان فيها تأييد العرب يُستتبع تلقائياً خصومة وقطيعة مع إسرائيل، إذ أن الهند نجحت في التوازن بين (الأضداد) من خلال إتباع نهج براغماتي مع سائر الأطراف المتعاملة معها.
إن اشتراك الهند وإسرائيل في العديد من الأهداف أسهم في التقارب والانسجام بينهما، إذ تعددت أهداف ودوافع الدولتين في إقامة علاقات كاملة ومتنوعة المجالات. فثمة جملة أسباب سياسية واقتصادية وإستراتيجية حكمت رغبة إسرائيل في علاقتها مع الهند، وإصرارها على الاستمرار في تحسين وتطوير هذه العلاقات نحو الأفضل، بما يخدم أهداف سياستها الخارجية في جنوب آسيا والعالم عموماً. وبالمثل، فإن للهند هي الأخرى مصالح وأهداف دفعتها نحو إقامة علاقات واسعة ومتنامية مع إسرائيل.
إن التحول اللافت في سياسة الهند الخارجية نحو إسرائيل دفعته مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي شجعت الهند على تسريع إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل. فلم يكن ممكناً تحقيق التبادل الدبلوماسي بين البلدين لولا تضافر عوامل داخلية وخارجية. وفي هذا الإطار، يمكن التطرق إليها باختصار. فبخصوص العوامل الداخلية فتوزعت على الآتي: الانفتاح الاقتصادي، صعود اليمين الهندي، الاعتبارات الأمنية، تغليب عامل المصالح على عامل الأيديولوجيا، وتراجع دور الأقلية المسلمة، في حين اشتملت العوامل الخارجية على: انهيار الاتحاد السوفيتي، نهاية سياسة المحاور والاستقطاب الدولي، حرب الخليج الثانية، التحولات في سوق النفط، انتهاج منظمة التحرير الفلسطينية الخيار السياسي، والتسوية السياسية.
أصبحت كل من الهند وإسرائيل بحاجةٍ ماسة إلى تمتين علاقاتهما الدبلوماسية. فعلى الجانب الهندي كانت هناك خسارات استراتيجية في النظام الدولي تمثلت في انهيار الاتحاد السوفيتي، بينما كانت إسرائيل بحاجةٍ ماسة إلى توسيع دائرة علاقاتها الدولية خارج المنظومة الغربية (أميركا وأوروبا)، إضافة إلى الاعتبارات الاستراتيجية الأخرى التي تهم الإسرائيليين والهنود على حدٍ سواء، ومنها: توسيع دائرة التحالف الاستراتيجي في وجه مخاطر خارجية، كانتشار السلاح النووي، وتصاعد الإرهاب العالمي بشكلٍ لافت على الساحة الدولية، فضلاً عن الاعتبارات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية.
ورغم ان العلاقات بين الدولتين بقيت قوية ومتينة في عهد مانموهان سينغ إلا أن وصول ناريندرا مودي رئيس الحزب القومي الهندوسي إلى منصب رئيس الوزراء في الهند في العام 2014 لاقى ترحيباً كبيراً في إسرائيل نظراً لاهتمامه البالغ في تطوير العلاقة مع إسرائيل. وفي الوقت الذي أكد فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، عقب اتصاله بمودي لتهنئته بالفوز بالانتخابات على متانة العلاقة بين البلدين، فإن مودي قد حظي بأوصافٍ حسنة من قبل أمنيين وسياسيين إسرائيليين مثل (ودود، حازم، صريح جداً، مباشر جداً، ذكي جداً جداً، وإسرائيلي جداً).
ويُعتبر نتنياهو أول مسؤول أجنبي يتصل بمودي لتهنئته بالفوز، حيث صرح :" إن التحولات في العالم بعضها ايجابي جداً بالنسبة لنا، وأحد هذه التحولات هي نتائج الانتخابات في الهند، وبشكلٍ عام يبدو لنا أن التعامل مع آسيا أفضل من التعامل مع أوروبا". وبمناسبة عيد الفصح اليهودي، غرد مودي عبر "تويتر" باللغة العبرية والإنجليزية قائلاً :"عطلات سعيدة، أصدقاء" بمناسبة عيد الفصح، فأجاب نتنياهو بالتغريد: "شكرا يا صديقي، على تحية العيد الكريمة. إن شعب إسرائيل ينتظر بفارغ الصبر زيارتك التاريخية".
وخلال اجتماع الرجلين على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2014 وصف نتنياهو العلاقة مع الهند بالوثيقة والمتميزة، وأنها ستتواصل بشكلٍ أعمق مستقبلاً. وأضاف:" هذه فرصة لإسرائيل والهند لاستمرار وتوسيع العلاقات بيننا، نحن شعبان قديمان، من الأقدم بين دول العالم، ونحن أيضاً ديمقراطيتان، ونعتز بتراثنا القديمين، ولكننا ننظر للمستقبل، وإذا عملنا معاً فإننا سنحقق رفاهية الشعبين، أود دعوتكم لزيارة إسرائيل، نحن منفعلون من إمكانيات تعزيز العلاقات مع الهند، والسماء هي الحدود".
وفي المقابل، رد مودي على نتنياهو قائلاً:" اتفق معك أن العلاقة بين إسرائيل والهند هي تاريخية، التقيت مع أعضاء المجتمع اليهودي، والمجلس اليهودي الأميركي، وكليهما يقدرون حقيقة أن الهند هي الدولة الوحيدة في العالم التي لم تسمح بتطوير اللاسامية، وفيها لم يُهان اليهود، وعاشوا دائماً كجزءٍ لا يتجزأ من مجتمعنا".
وفي هذا الإطار، نجد تشابه بين الرجلين، فمودي معروف بعنصريته تجاه الأقلية المسلمة في الهند، وكذلك نتنياهو معادٍ للأقلية العربية في إسرائيل. كلاهما مؤمنان باقتصاد السوق، مع تطويرهما سياسات قومية تربط الدول بالمجموعة الاثنية _ الدينية المهيمنة، كما ويواجهان دولاً إسلامية نووية، فالهند لها صراع مع باكستان النووية، وإسرائيل لها صراع مع المشروع النووي الإيراني، عدا عن أنهما يعتقدان أن (الإرهاب الإسلامي) هو الأخطر.
ومنذ أن تولى مودي السلطة في مايو/أيار 2014 شهدت العلاقات بين إسرائيل والهند نشاطاً ملحوظاً، ووقع البلدان سلسلة من الاتفاقيات في مجالي الدفاع والتكنولوجيا، وفي الشهر ذاته وافقت حكومة مودي على إتمام عملية شراء، طال انتظارها، لصواريخ إسرائيلية. وتُعتبر الهند الآن أكبر زبون للسلاح الإسرائيلي، إذ تأتي إسرائيل في المرتبة الثانية في تصدير السلاح للهند بعد روسيا. وفي الأشهر التسعة الأولى من عام 2014 وصل التبادل التجاري بين الدولتين إلى 3,4 مليار دولار.
يمثل مودي جيلاً جديداً في السياسة الهندية التي تؤمن بالبراغماتية الاقتصادية، إذ بلور علاقات الهند مع دول العالم بموجب السياسة التي تتطلع إلى نمو اقتصادي، وهذا التوجه يتلاءم مع توثيق العلاقات مع إسرائيل التي تملك الخبرات في مجالات التكنولوجيا العالية والزراعة والاتصالات والأمن .
لم يكن تعميق العلاقة بين الهند وإسرائيل عقب وصول مودي إلى الحكم مفاجئاً، إذ أن له تصريحات عديدة قبل توليه السلطة تشيد بإسرائيل وأهمية تعزيز العلاقة معها في كافة الجوانب، وقد انتهج مودي سياسة مكشوفة في التقارب مع إسرائيل، وفي حكمه امتنعت الهند عن التصويت على تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي أدان العدوان الإسرائيلي على غزة، وذلك في تطور كبير لا مثيل له في ماضي العلاقات الإسرائيلية _ الهندية.
إلى ذلك، وفي ظل احتمال عودة الاستقطاب الدولي والتنافس الغربي ـــ الروسي أصبح هناك احتمال لتغير نهج السياسة الخارجية الهندية بإعطاء أولوية للمصالح الذاتية والبراغماتية على حساب نهج عدم الانحياز، وذلك للاستفادة من فرص التعاون العسكري والاقتصادي والتقني التي تتيحها محاولات استقطابها . ولعل إسرائيل تعد أهم الرابحين خارجياً من هذه النتائج، إذ تربطها علاقات شخصية واقتصادية وصناعية قوية مع مودي منذ توليه رئاسة غوجارات منذ عام 2001، وترتبط إسرائيل بعلاقات مميزة بحزب الشعب اليميني، خاصة أثناء توليه السلطة في الفترة (1998 ـــ 2004)، والأرجح أن تلك الروابط ستتعمق أكثر في المستقبل القريب .
وفي الإجابة عى سؤال العنوان، يمكن القول بأنه نظراً إلى أن الهند تحتل موقعاً استراتيجياً هاماً في وسط القارة الآسيوية، فإن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سعت، وبإلحاحٍ إلى إقامة علاقات دبلوماسية معها، سعياً إلى تطوير هذه العلاقات وتوسيع مجالاتها. وبسبب ما يتميز به موقع الهند الجيوسياسي بحدودها مع كل من باكستان وايران فإن إسرائيل بحثت عن موطئ قدم لها في الهند، يكون قريباً من هاتين الدولتين من جهة، والإشراف على الخليج العربي عبر حدود الهند الغربية من جهة أخرى .
وفي إطار هذه الأهداف الأساسية سعت إسرائيل إلى تطوير وتعميق علاقاتها مع الهند لتحقيق الآتي:
1. إنشاء تحالف هندي ـــ إسرائيلي في مواجهة باكستان التي تعتبرها تل أبيب دولة مواجهة مثل إيران، لا سيما أن إسرائيل تعتبر مجالها الحيوي يمتد حتى الحدود الباكستانية، وتخشى ممن تسميه بـ (القنبلة النووية الإسلامية)، قاصدة بذلك السلاح النووي الباكستاني، وتحرص على منع أي دولة عربية وإسلامية من امتلاك السلاح النووي، حتى لا يؤدي ذلك إلى معادلة السلاح النووي الإسرائيلي الذي ترى فيه الدولة العبرية الضمانة الأولى لبقائها مقابل التفوق البشري والاقتصادي العربي والإسلامي .
2. الحصول على دعم الهند للموقف التفاوضي الإسرائيلي من خلال الحد من تأثير العلاقات العربية ـــ الهندية، وهي السياسة ذاتها التي انتهجتها إسرائيل لتطوير علاقاتها بالصين، الأمر الذي ساعدها في تحييد (الفيتو) الصيني، لتكون بذلك ضمنت دعم الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن للتغطية على ممارساتها الدموية والتدميرية ضد الشعب الفلسطيني وممتلكاته .
3. الحصول على دعم الهند لتقوية علاقات إسرائيل بعدد من الدول الآسيوية، لا سيما في الموافقة على انضمام تل أبيب إلى المجموعة الآسيوية في الأمم المتحدة كي تحظى في المستقبل بعضوية مجلس الأمن، علماً أن إسرائيل ليست عضواً في أي تجمع جغرافي آسيوي حتى اليوم.
4. تخوف تل أبيب من أي تعاون عسكري هندي مع دول الشرق الأوسط، لذلك تسعى لقطع الطريق على أي محاولة في هذا الشأن، وهي الإستراتيجية نفسها التي اتبعتها مع الصين.
5. إنهاء حالة العزلة السياسية التي عانتها إسرائيل، إذ قال رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إسحاق شامير بعد إقامة علاقات دبلوماسية مع الهند والصين:" إن عزلة إسرائيل الدولية انتهت الآن"، باعتبار أن إسرائيل أصبح لديها علاقات دبلوماسية كاملة بالدول الأعضاء الخمس الدائمة في مجلس الأمن، وبأكبر القوى الإقليمية في آسيا.
6. اختراق الوطن العربي معنوياً ونفسياً عبر إقامة علاقات طبيعية مع دولة كانت تُعد حتى وقت قريب من أقوى أنصار العرب ومؤيديهم في العالم، خاصة مواقفها المتقدمة من القضية الفلسطينية والقضايا العربية الأخرى، ولما للهند من حدودٍ مجاورة للحزام الإسلامي الكبير الممتد من جنوب شرق آسيا إلى جنوبها، وصولاً إلى الخليج العربي وغرب آسيا.
7. إرسال رسالة واضحة إلى أمريكا وأوروبا وبقية القوى الدولية الفاعلة بأن دور إسرائيل ما زال مهماً في المنطقة والعالم، إذ تستغل علاقاتها المتنامية مع العديد من الدول المؤثرة في العالم لاحتواء "الأصولية الإسلامية" والإرهاب، مثلما كان دورها فاعلاً في احتواء الشيوعية .
8. استغلال إسرائيل العلاقة مع الهند بحكم دورها الحيوي في منطقة المحيط الهندي التي تشكل نقطة العبور إلى جنوب آسيا وشرقها، وما يرتبط بها من بوابات مائية وجغرافية حيوية مثل مضيق باب المندب، والبحر الأحمر، وقناة السويس، عدا عن هدف ضمان استمرار إمدادات النفط والغاز من وإلى منطقة جنوب آسيا .
في المحصلة، يمكن القول أنه وفي ظل تغير الواقع الدولي ببروز أقطاب جديدة ذات أوزان سياسية وإقتصادية معتبرة ظهر دور سياسي واستراتيجي لروسيا والصين وبعض الدول الصاعدة، وهو ما يدعونا إلى التساؤل عن إمكانية العمل على هذه التوازنات لصالح المنطقة العربية والعالم الإسلامي، بما يُعيد العمق العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية، واستعادة عنصر التأثير في العلاقة بين الهند وإسرائيل .
وهذا لا يمكن أن يتم إلا بعملٍ مشترك، وتنسيق متكامل بين الدول العربية والإسلامية وشركائهما من الدول الصاعدة على أسس السيادة واحترام القانون الدولي. وفي حال عدم تحقق ذلك فقد تتحول العلاقة الهندية ـــ الإسرائيلية من مستوى الشراكة الاستراتيجية إلى تحالف استراتيجي طالما بقي العرب منشغلين في صراعاتهم الداخلية، وغير مكترثين لتوابع علاقات إسرائيل المتنامية مع الهند وغيرها، على أمنهم القطري والقومي.