الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

سقوط داعش المدوي بين الأطماع الإقليمية والأدوار الدولية

نشر بتاريخ: 29/01/2018 ( آخر تحديث: 29/01/2018 الساعة: 20:53 )

الكاتب: د. فادي الحسيني


هل إنتهى داعش؟ قد يكون من الصعب الجزم بأن داعش قد إنتهى بعد إستعادة الرقة والموصل من سيطرته، ولكن الصعود السريع والسقوط المدوي شق جرحاُ غائراً في خاصرة تاريخ المنطقة، بجرائم دموية، ودمار هائل، وبذور صراع طائفي يُنذر بمستقبل أسوأ مما تشهده منطقتنا الآن. يمكن الجزم بأن أحد أهم المخرجات الإستراتيجية الرئيسة من فترة وجود تنظيم داعش هو فتح الباب على مصرعيه لعودة نوعية وتدخل ونشاط كمي لعدد من القوى العالمية والإقليمية.

يرى تنظيم القاعدة أنه من الصعب أن يُهزم الفكر والأيديولجية، على عكس الأهداف الجغرافية التي يسهُل إستهدافها. ولهذا السبب، وعلى الرغم من الخلاف بينهما، حذر تنظيم القاعدة داعش من مخاطر إعلان فعلي على الأرض للخلافة أو لدولته المزعومة. وبالفعل، بحلول عام 2014 سيطر تنظيم داعش على ما يقارب 34,000 ميل مربع في سوريا والعراق، وامتدت سيطرته من شواطئ البحر المتوسط إلى مناطق جنوب بغداد. اليوم، تبدو الأمور مختلفة حيث تغيرت الجغرافيا وتبدلت خرائط توزيع النفوذ في سوريا والعراق.

إحتاج كل من النظام السوري (مدعوماً من روسيا والقوات الإيرانية وحزب الله)، وقوات سوريا الديمقراطية (مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية)، والجيش السوري الحر (مدعوماً من تركيا)، والجيش العراقي وقوى الحشد الشعبي وقوات الباشمرجة الكردية والميلشيات الإيرانية، إضافة للتحالف الدولي الذي ضم 69 دولة، أكثر من ثلاث سنوات لوضع حد للوجود الفعلي للدولة التي أعلنها تنظيم داعش.

لم يتجسد الدور الدولي والإقليمي في سقوط داعش فقط، بل كانت البصمات الإقليمية والدولية جلية في تأسيسه وصعوده. فقبل بضعة سنوات وتحديداً إبان حقبة الإحتلال الأمريكي للعراق، لم يكن داعش سوى فصيل صغير من تنظيم القاعدة، حمل إسم القاعدة في العراق وأسسه أبو مصعب الزرقاوي آنذاك. وبعد إغتيال الأخير، أعلن أبو أيوب المصري القائد الجديد تأسيس ما أسماه الدولة الإسلامية في العراق عام 2006. خلف المصري أبو عمر البغدادي الذي قاد التنظيم الإرهابي حتى مقتله، وأخذ مكانه القائد الجديد أبو بكر البغدادي عام 2010. إحتاج البغدادي ثلاث سنوات ليحتوي جبهة النصرة التي كانت تدين بالولاء لتنظيم القاعدة. وبعد أن إستكمل عملية الإحتواء هذه أعلن عن تأسيس دولة الإسلام في العراق والشام. وفي عام 2014 قرر البغدادي أن يخلع عباءة تنظيم القاعدة الذي قام بدوره بقطع علاقاته مع هذه الكيان الجديد، وخاصة بعد معارك داخلية بين قوى التنظيم الجديد مع جبهة النصرة.

ومن ذلك الحين، إستطاع تنظيم داعش أن يسيطر على مساحات شاسعة ومدن كبرى في العراق وسوريا. ولكن، نقطة التحول الحقيقية في دورة حياة التنظيم كانت حادثة الهروب الكبرى من سجن أبو غريب سيئ السمعة. ففي يوليو 2013 حدثت عملية هروب كبرى مشبوهة من سجن أبو غريب العراقي والمعروف بحراسته المشددة من الناحية النظرية، حيث إستطاع ما يقارب من 500 قيادي من تنظيم القاعدة محكومين بالإعدام، من الهروب في عملية شابها الكثير من الشكوك. عملية الهروب هذه أفرزت – وفقاً للعديد من المراقبين – لبنة رئيسة لجميع عمليات داعش اللاحقة وضاعفت من قوة التنظيم في سوريا والعراق. فلم يمض إلا بضعة أشهر على الهروب من سجن أبو غريب حتى إستطاع التنظيم أن يُحكم قبضته على ثُلث مساحة العراق، وقبل أن يمضي عام إستطاع داعش من السيطرة على الموصل وتكريت في يونيو 2014.

إحتلال الموصل بحد ذاته شكل علامة إستفهام كبرى، فالموصل ثاني أكبر مدينة في العراق كانت محمية من قبل 60,000 رجل أمن عراقي (فرقتي جيش قوامهما 30 ألف جندياً - 30 ألف رجل أمن وشرطي محلي). في الجهة الثانية، فكانت التقديرات لعدد المهاجمون من تنظيم داعش بين 800 إلى 1500 محارب، وهو الأمر الذي يعني بأن النسبة بين المهاجمين والمدافعين 1 إلى 15، ناهيك عن حقيقة أن معركة الموصل إستغرقت ستة أيام، أي أنه كان بوسع بغداد تزويد المدافعين عن الموصل بالعتاد أو حتى مهاجمة داعش جواً من قبل سلاح الطيران العراقي أو الأمريكي أو غيره. هنا، يبدو أن سقوط مدينة الموصل الغنية بالنفط والتي كان يتوفر فيها ما يقارب على 400 مليون دولار – تسليم وليس سقوط.

إذاً، هناك العديد من التطورات التي تدفعنا بقوة في التفكير بأن القوى العالمية والإقليمية كان لها دور ريادي في تمدد وإنكماش تنظيم داعش. فعلى سبيل المثال، حزب الله أرسل آلاف من قواته عبر حدود دولية من لبنان إلى سوريا. الأمر المثير للشك هنا هو أنه كيف للحزب أن يُرسل مقاتليه، ويتحركوا من دولة لأخرى بعتادهم وعددهم دون أن نرى رد فعل حقيقي أو إنتقاد أو تدخل من هنا أو هناك وهو الحزب الذي تصنفه كتنظيم إرهابي الكثير من العواصم الغربية، وبعض الدول العربية، وترى إسرائيل في الحزب خطراً محدقاً بها.

وبشكل مشابه، فقد أعير القليل من الإهتمام لحقيقة أن عشرات الألوف من المقاتلين الأجانب إنضموا لتنظيم داعش، ودخلوا إلى سوريا والعراق في الوقت الذي نعلم أن البلدين محاطين بجيوش العالم، وبأن أعين أجهزة إستخبارات معظم عواصم العالم تراقب عن كثب أي تطور أو تحرك في هذه البقعة من العالم. يقول الكولنيل رايان ديلون المتحدث بإسم التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية في مؤتمر صحفي يوم 17 أكتوبر 2017 بأن تدفق المقاتلين الأجانب إلى سوريا والعراق قد إنخفض من 1500 مقاتل ليصل إلى صفر. هذا التصريح يؤكد شبهات التواطئ الدولي والإقليمي ليس فقط في وصول هؤلاء المرتزقة إلى مناطق القتال في هذين البلدين، بل في مغادرتهم أيضاً.

وفقاً لتقرير نشرته شركة الاستشارات الأمريكية (Soufan) بأن عدد المقاتلين الأجانب في تنظيم داعش وصل في عام 2014 إلى 40,000 من أكثر من 110 دولة. هنا، يقول رضوان السيد الكاتب والأكاديمي اللبناني إن إفترضنا أن المقاتلين المحليين (أي من سوريا والعراق) يكون على الأقل مشابهاً لهذا الرقم، فإن العدد المنطقي لقوام جيش داعش يقارب من 80,000 مقاتل. ووفقاً لأرقام وإحصاءات أمريكية محدثة فإن عدد جثث مقاتلي داعش التي عُثر عليها في الموصل والرقة لا يتجاوز 2000، وأن من تبقى من مقاتلي داعش على قيد الحياة لا يتجاوز 15,000 مقاتل، فهل هذا يعني أن ما يقارب من 60,000 داعشي قد تم القضاء عليهم! بالطبع لا، فهذا الأمر لا يمكن أن يكون منطقياً، والأمر الأكثر واقعياً هو إما أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد ضخمت من الأرقام والإحصاءات التي قدمتها، مما أدى لتعظيم قوة داعش والخطر القادم منه، أو أن هناك من ساعد في هروب المقاتلين الأجانب خارج سوريا والعراق (أو على الأقل خارج المناطق التي سقطت).

وتداولت وكالات الأنباء العالمية خبر عملية إنزال سرية نفذتها القوات الخاصة الأمريكية قبل بضعة أشهر في منطقة دير الزور، ووفقا لـ inforeactor، فإن الإستنتاج الأقرب للمنطق هو أن القوات الأمريكية لم تكن مهمتها القضاء على مسلحين، وإنما أخذ شيء ما أو أحد ما معها من دون إيذائه جراء الضربات الجوية، أو ربما مسح بعض الأدلة أو أخذها معها. إذا، قد يكون سبب هذه العملية الخطرة هو إخلاء مندوبين أمريكيين أو عدد من المقاتيلن الأجانب في صفوف داعش وذلك قبل وصول القوات الروسية وحلفائها. في ذات السياق، إتهمت روسيا الولايات المتحدة الأمريكية بالعمل مع داعش لتسليم المناطق الشرقية من دور الزور والفرات للقوات الأمريكية قبيل وصول قوات النظام وأعوانه. هذا الأمر يتسق تماماً مع واقعة دخول قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكياً لحقل العمر النفطي، أيضاً، قبل وصول قوات النظام السوري.

من ناحية إستراتيجية، يمكن القول بأنه تحت شعار محاربة الإرهاب، مكّن تنظيم داعش الأمريكيين من العودة بشكل واضح للمنطقة، كما سمح لتدخل كمي ونوعي للروس في سوريا، ودشن تدخلاً رسمياً (على الرغم من الوجود غير المعلن سابقاً) لإيران في سوريا والعراق، إضافة لأدوار متفاوتة لقوى إقليمية على رأسها تركيا وإسرائيل. في الواقع، كان لإطالة أمد عُمر دولة داعش لثلاث سنوات سبباً مباشراً وشكّل خدمة كبرى لتحقيق أهداف ومصلحة جميع الدول المتدخلة.

فعلى سبيل المثال، تم إضعاف القدرات العسكرية في بلدين عربيين كبيرين – قد يمثلان تهديداً يوماً ما – كما تم إنهاكهما إقتصادياً، وبشرياً، ومجتمعياً، وتم إستنزاف قدرات حزب الله، إضافة إلى الزج بتركيا في صراع مفتوح، وإبقاء العنصر الكردي كتهديد مفتوح لإستقرار مستقبل أربعة دول بعد أن تم تقديم العون العسكري والدعم السياسي لهم، وتم تقسيم مناطق النفوذ وحصص الدول الكبرى في هذه المنطقة من جديد، إضافة لمضاعفة حجم الإعتماد على الدعم السياسي والعسكري الخارجي بعد أن أصبحت معظم العروش مهددة من هذا الخطر، ناهيك عن المكاسب الإقتصادية وإستغلال خيرات المنطقة، بداية من نفطها. وقد أبرزت الكثير من التقارير الإخبارية والتحليلات أهمية تجارة النفط التي كان يستغلها تنظيم داعش حيث كان يجني ما يقارب من 3 ملايين دولار أمريكي يومياً، وذلك من تصدير النفط بشكل شبه رسمي، أو عبر تهريبه للعديد من الدول والأنظمة في المنطقة، ومن بينها النظام السوري نفسه الذي كانت تُكلفه حاوية النفط – أو ما كان يُطلق عليه تنظيم داعش "الحوت" – المليون ليرة سورية.

في الختام، يمكن القول بأن الفوضى والمآسي التي خلفها وجود تنظيم داعش كانت في الأصل بقرار دولي، وبعد تجميد الخطر الداعشي إلى حين، بدأت تلك القوى تبحث عن نصيب الأسد في المنطقة، بتواجد عسكري طويل الأمد أو بإمعان السطوة الإقتصاية وفرض قرارات وواقع تصممه تلك القوى. أما فيما يخص خطر داعش فأرى بأنه خطر ما زال قائماً، ولا يجب أن نستعجل الحُكم بأن داعش قد إنتهى، وإن كنّا قد تعلمنا شيئاً خلال تجربة ثلاث سنوات مأساوية فهو قدرة هذا التنظيم على تجنيد العناصر والمقاتلين من كافة أصقاع الأرض. وأخيراً، فإن الدول الفاشلة والهشة تشكل حاضنة وبيئة خصبة لتواجد ونمو التطرف والإرهاب، ومنه فيصبح تقوية دولنا وتماسك مجتمعاتنا أمر وطني خالص لا يخضع لأية مساومات.