الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

بيت لحم تلملم شظايايَّ وتوحد ذاتي في الذكريات

نشر بتاريخ: 13/05/2019 ( آخر تحديث: 13/05/2019 الساعة: 11:55 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

بعد يومين من مشاركتي في نشاط ثقافي في الجامعة العربية الأمريكية في جنين بتنظيم وزارة الثقافة، شاركت في مؤتمر "نقد النقد" الذي عقدته دائرة اللغة العربية في جامعة بيت لحم، حيث قدمت ورقة بحثية بعنوان "نقد النقد في التجربة الثقافية والإبداعية للمعتقلين الفلسطينيين".
وبين المشاركتين عدت بالذاكرة إلى سنوات بعيدة، حينما كان الطلبة يتوقون لحضور أي نشاط ثقافي، بل ينتظرون الموعد بفارغ الصبر. وعلى خلفية النشاطين المذكورين، لا أدري كيف أغرقت في المقارنة، بين حالة قديمة كانت الثقافة فيها حاضرة بشكلٍ مكثف في البرنامج اليومي للطلبة، وبين حالة التشتت التي يعيشها طلبتنا اليوم، وخضوعهم لثقافة استهلاكية تقودهم إلى التزحلق على سطح الحياة دون أية محاولة للتوغل قليلاً نحو العمق.
في جامعتي جنين "العربية الأمريكية" وبيت لحم، أثلج صدري التطور على مستوى البنايات والتجهيزات وتعدد التخصصات والكفاءات، لكن المطلوب بموازاة ذلك العمل لاستعادة الدور الثقافي والمجتمعي للجامعات، بما يدعم ويعزز ويعمق البعد الأكاديمي، ودعوتي هذه لا تقلل بأي حالٍ من الأحوال من الجهد الذي يبذله مبادرون في هذه الجامعة أو تلك لعقد مؤتمر أو ندوة، فهم وكأنهم يكورون قبضاتهم ويطرقون الجدران، مذكرين بأهمية الفعل الثقافي، أو ان ما يقومون به عبارة عن خطوات ولو أنها متباعدة على طريق استعادة بعض من الدور الثقافي للجامعات الفلسطينية، لاسيما وأن مؤسسات التعليم العالي كانت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي تضطلع بمهمتين مزدوجتين متكاملتين (التعليمية والثقافية)، ولطالما أن كلاً منهما دعمت الأخرى، ليتناغم ويتناسق العطاء.
بين جنين وبيت لحم مسافة طويلة جغرافياً، بيد أن الطريق إلى جنين في فصل الربيع مفروش بالخضرة ومطرز بأشجار الزيتون ومزدان بقرى تحفر بأظافرها في الصخر لكي تظل صامدة. ولكل قرية من هذه القرى قسماتها ولونها وأسلوبها في الإعلان عن نفسها، مع أن المشترك بينها، التتشبث بحضن الأم – فلسطين. أما الطريق إلى بيت لحم بالنسبة إليّ وإنْ كان صعباً وملتوياً وإشكالياً من "وادي النار"، إلا أنه يظل مفروشاً بالذكريات، حيث إن مجرد التوجه إلى هذه المدينة، إيذان للذكريات لكي تهطل، تروي وتغسل الجسد والعقل والروح، وتفتح النوافذ والأبواب على مصاريعها من المرحلة العمرية المعاشة لتطل على مرحلة الشباب، غير أن دخول بوابة جامعة بيت لحم له معنى مختلف على المستوى الشخصي، لأن الذكريات انتقلت من المطر الناعم، إلى المطر الغزير بل شديد الغزارة. حيث دهمتني دفقات لا حدود لها من الأسماء والمواقف والأحداث، ورحت أبحلق في الساحة، البنايات، لتتلقفني غرفة في الواجهة، كانت مخصصة لنا ونحن أعضاء في مجلس الطلبة، وقد تحولت الآن إلى "كافتيريا"، تخيلت أصدقائي في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات يتحركون هنا وهناك، يتحدثون، يتناقشون، يدقون بأقدامهم الأرض، وكأنهم يستحثون الزمن ليأتي إليهم بالتغيير، الاستقلال والتحرر.... ومنهم من أصبح يعمل في الجامعة ذاتها إدارياً أو محاضراً، ومنهم من سافر للعمل في الخارج، أو غيبه الموت ورحل عن هذه الحياة، دون أن يكحل عينيه بتحقيق ولو شذرات من حلم.
في قاعة المؤتمر، استمعت إلى مداخلات واستفسارات واقتراحات، وبالرغم من ذلك ما انفك التداخل بين الحاضر والماضي يضعني في لبس بين الزمنين، فأحاول فك الاشتباك بينهما دون جدوى.
كيف أنجو من اشكالية التداخل بين مرحلتين؟ وقد كنا في الجامعة مشاريع أدباء "أربعة أصدقاء معين جبر وابراهيم جوهر وعبد الكريم قرمان وأنا"، وفي هذه الجامعة عرفنا الانتماءات السياسية، وعرفنا الانفتاح على الآخر المختلف سياسياً وفكرياً، وعرفنا التعصب والانغلاق والتقوقع السياسي أيضاً، وفي الجامعة أقمنا الأنشطة والفعاليات، لدرجة الاعتقاد، أن وجودنا هنا هو من أجل تنظيم الفعاليات الثقافية والوطنية ليس إلا!!!
وما جعل الحاضر والماضي يلتبسان عليَّ في تداخلهما الغريب فلا أستطيع تحديد الفواصل بينهما، وجود صديق وزميلي أيام الدراسة الشاعر د.معين جبر، الذي كان طالباً في الجامعة أواخر السبعينيات وما زال فيها حتى اليوم، كمحاضر خبير في تخصصه. بين معين عضو مجلس الطلبة، والناشط، والمشاكس، والشاعر، والمطرب، والقائد الطلابي، وبين معين المحاضر ، سنوات من جهد وتعب وحياة مثقلة بالهموم، إلا أنه وبالرغم من تقدم العمر ومنغصات المرض ما زال مسكوناً بوده وحميميته لأصدقائه، فقد احتفل بي، باذلاً كل الجهد من أجل تعريفي بالمتغيرات، وكان حريصاً على استنفار أصدقاء قدامى، نجح في استدعاء بعضهم، فيما كان من السهل مقابلة آخرين يعملون في الجامعة كالأخوين د.فؤاد وفريال بنورة اللذين سعدت بلقائهما، وكذلك الكاتب جميل حسين الحوساني الذي كانت انطلاقته في مسابقة لطلبة المدارس الثانوية نظمها النادي الثقافي في العام 1979 وكنت حينذاك رئيساً للنادي، وهو أحد أندية مجلس اتحاد الطلبة. قابلت أيضاً فناناً موهوباً، يعزف باقتدار ومهارة على عدد من الآلات الموسيقية، إنه الفنان سليمان اللوصي الذي خصصت له بضع صفحات في كتابي "البستان يكتب بالندى".
في الجامعة أيضاً حظيت بلقاء الدكتور قسطندي الشوملي الذي عمل محاضراً ورئيساً لدائرة اللغة العربية منذ أربعين عاماً، وخلال هذه الفترة علم وبحث وألف وأنتج وحصل على درجة الأستاذية، ومع ذلك بقي يتحدث بصوته الهادئ المتواضع، وكأنه التحق بالعمل في الجامعة للتو، أوكأنه لم يبدأ بعد مشوار إنجازه، وهذا ما يمكن توصيفه بتواضع الكبار.
انتهى اليوم الأول من المؤتمر، فيما أصر د.معين أن يصطحبنا إلى بيته "الكاتب جهاد صالح وأنا"، ثم لنلتقي بعد ساعتين مع الكاتب عيسى قراقع الذي أخبرني أنه نشر مقالاً بعنوان "رام الله لا تعرف الحب"، وقال لي "من المرجح أن لا تحب المقال لأنك تحب رام الله كثيراً ". قرأت المقال في اليوم التالي وقررت أن أكتاب رداً، كيف لا وأنا أصدرت كتاباً كاملاً عن رام الله بعنوان " رام الله تصطاد الغيم" .
في ختام اليوم الثاني لخص رئيس المؤتمر الصديق الدكتور سعيد عياد التوصيات، مع الإشارة إلى أن د.عياد تزاملت معه بضع سنوات في الهيئة الإدارية لنقابة الصحفيين، وخبرت عن قرب حيويته ورغبته الدائمة في العمل والإنجاز. واخيراً عدت وصديقي الكاتب جهاد صالح إلى رام الله، في حين استمرت أصوات زملائي الطلبة في أواخر السبعينيات تلاحقني بنبراتها وحماسها الشبابي، وكأنني لم أعد من مؤتمر كباحث، وإنما من يوم دراسي عادي كطالب أنهى محاضراته، ويفكر من موقعه كعضو في مجلس الطلبة، بأنشطة يجب أن تنجز في الغد.