الإثنين: 18/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

قصة قلمية لصورة صحفية.. كرتونة مأمون

نشر بتاريخ: 18/11/2019 ( آخر تحديث: 18/11/2019 الساعة: 17:20 )

الكاتب: محمد اللحام

في البداية كانت الحيرة قد تملكتني لبضع ثوان، هل احمل الطفل ام اساعد الام امام جنون وهستيريا وبطش جنود الاحتلال؟ بالامس في قمع الصحفيين على المدخل الشمالي لمدينة بيت لحم ..حوالي 100 متر هي المسافة الفارغة ما بين مكان وقوفي وزملائي مقابل قصر جاسر تقريبا وما بين جنود الاحتلال على بوابة المعسكر ..لاحظت سيدة ومعها صغارها العائدين من المدرسة والروضة يريدون المرور اتجاه بيتهم خلف المعسكر وصرخت اتجاه الجندي المصوب مدفعه الرشاش الام 16 المحمل بالرصاص وقنابل الغاز بان لا يطلق النار ووقفت مقابله وأشرت اتجاههم اصرخ (اطفال اطفال ) لكي لا يطلق مدفعه ..مع انه لا يوجد أصلا اَي خطر ولا صحفي ولا مواطن قريب والشارع خالي من اَي كائن بفعل وجبة غاز دسمة كان الجنود اطلقوها قبل دقائق لتفريق الصحفيين.
واذا به يرشق اتجاهنا ما بحقده من نار وغاز ..هربنا نحتمي بجسم سيارة متوقفة على يمين الشارع ودفعنا السيدة والأطفال ايضا للاختباء ..وعاد الجندي ليطلق ما يسمى قنابل الغاز الانشطارية التي تتوزع بسرعة بالمكان اتجاهنا مباشرة مما ادى لارتطامها بقوة بمجسم السيارة ولولاها لكانت أجسامنا والأطفال هي المستقبل لهذه القنابل المنطلقة بقوة.
في هذه اللحظة انتشر دخان الغاز السام ومع الخوف والهلع والإرباك وانكشاف أجسامنا للجنود الحاقدين وجدت السيدة تبكي وهي خائفة جدا على مصير الأطفال وتختنق معهم بالغاز.. فاخذت قراري بحمل طفل عمره حوالي 5 سنوات على اعتبار سن السيدة ياهلها اكثر من الطفل على التحمل ..وركضت حامله ومتحسبا من استهداف اخر اثناء قطع الطريق اتجاه الشارع المقابل المؤدي للمقبرة بمحاذاة سور الفندق ..فلمحت هناك باب مخزن مفتوح جاء اليه شاب من الداخل ليغلقه بفعل الغاز الذي يعبئ المكان ..صرخت عليه وانا لا أستطيع فتح عيوني كاملة ان ينتظر ولا يغلق الباب ..وانا الف جسدي لادخل من فتحة الباب الضيقة والطفل لا زال عالقا بين ذراعي لمحت الزميل المصور مامون وزوز ساقطا على الارض كالطير المذبوح وشبه مغمي عليه ،فقلت للشاب انتظر ارجوك ..صرخت على مامون الذي زحف بتثاقل حتى دخل المخزن الذي اغلق علينا ..تنفسنا هواء المخزن وما به من رطوبة عوضا عن الغاز السام الذي ذبح صدورنا وعيوننا ..ومع هبوط منسوب الالم والتعب فجأة تذكرت الطفل الذي وجدته قد بقي متعلقا في حضني متمسكا في لف ذراعه على خاصرتي وانا اجلس على صندوق داخل المخزن ولا زال يرتعد من الخوف مسحت على شعره وداعبته واذا بمامون بدموعه المنهمرة ساجدا على الارض يتناول قطعة من الكرتون حسبته سيحركها امام عيونه المدمعة ووجه المحمر واذا به يبتسم للطفل ابتسامة عريضة ويزحف من مكانه بالكرتونة ويحركها امام وجه الطفل ليخفف عليه الم الغاز .
مامون كباقي المصورين الصحفيين الذين أرعبهم فقدان الزميل معاذ عمارنة عينه برصاصة جندي محتل وقدموا لبيت لحم للمشاركة بتظاهرة للتعبير عن الخوف والغضب نعم فالصحفي انسان يخاف ويحب ويكره ويبتسم ويبكي ولكن اخلاقه المهنية ووعيه الوطني والإنساني يجعله يكسر حاجز الخوف ويواصل بالميدان رغم معرفته بحقيقة الاثمان للرسالة النبيلة.
بعد خروجنا شاهدت انتشار مقاطع فيديو يظهر بها اثنين من الزملاء الصحفيين الشباب للأسف لا اعرف اسماءهم ويبدو انهم من الخليل قد اظهرا شجاعة كبيرة امام كمية الغاز وساعدا السيدة على النهوض وادخلاها لسيارة مارة نقلتها للمستشفى بينما هم فقد سقطا على الارض وسط غابة من دخان الغاز السام في حالة من الاغماء والأعياء نتيجة الاختناق الشديد .
لا يمكن فصل إنسانيتك عن مهنيتك.. ان تقف على نفس المسافة من جندي يحمل البارود وطفل يحمل حقيبة دفاتره الصغيرة فهذه ليست حالة حيادية بل خيانية ..الصحفي المهني والوطني على يمين شعبه فلا يمكن فصل مهنيتك عن إنسانيتك ووطنيتك.