الإثنين: 18/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

الشهيد سامي أبو دياك السامي إلى "سيلة الظهر"

نشر بتاريخ: 26/11/2019 ( آخر تحديث: 26/11/2019 الساعة: 18:30 )

الكاتب: المتوكل طه


منذ ثماني عشرة سنة ، وشرارة النار في قلب سامي أبو دياك . وقد خرج اليوم محمولاً على كلمات أُغنياته التي لم تصل لأحد ، بعد أنْ قبع وراء البرق الأسود في الزنازين ، ولم ينصت لقلبه أحدٌ .. أيضاً ! فماذا عسانا نقول لأُمّه التي ربطت نَوْمَها بأحلامه المقتولة ، ولم تُحقّق العناق الساحر بين الفؤاد ونبضه ؟
لقد كان سامي بين قلبها وعمودها الفقريّ ،فأطلقته لفلسطين مثل حمامة السماء ، وكانت الأجراس ترنّ بين ضلوعه ، إذ أنّ مَن يحبّ بلاده يرى الله !
لم تأتِ ، اليومَ ، السعادةُ راقصةً إلى سيلة الظهر ، بلدة الشهيد ، بل هو الصمت الحارق ، الذي ينبغي أن يدبّغ وجوه الصامتين والقتلة المحترفين ، الذين صعد من تحت هراواتهم المجنونة أكثر من مئتين واثنين وعشرين معتقلاً شهيداً طازجاً ، وصلوا الفردوس بأمان ، لكنّ أرضهم ما زالت على خوفها ودمها وفجائعها .
لقد آن الأوان لفهود الجبال أن يعودوا ليضربوا المذعورين بالعصيّ المتوهّجة .فلطالما سمعنا سامي وهو يناغي حنّون السفوح ، وقد ترسّم خُطى الشقائق ، إلى أن أعطاها معناها الأزليّ البهيّ .
ولقد أصاخ المعتقلون لنداءات الشهيد ، ولذلك الصراخ المكتوم الذي همهم وراء الخرسانة المتجهّمة .. وقالوا ؛ لقد انخلعت قلعة السجن، وتفلّعت الجدران، وتشقّف السقف، وتعرّى القيد عن ذراعي الغضب الغولي الذي فتّت الكلبشات الحديد، ولم يتهاطل الدمع سخياً خشناً على وجه السجين، بل حمحمات ألف حصان ناري نَفَرَت من جسده الحيّ ، لتشقّ العتمة الصلدة.
واليوم ، يحقّ لمَن يستطيع الحزن أن يغضب ، وأن يتنهنه ، ويسمح لعينيه لتذرفا زهر الحنظل المخضلّ بالفجيعة، ولا بأس إنْ جاح وناح ولفّت به أرض الرطوبة والبرودة ، التي أمست سجناً بحجم الوطن .
ومدّوا أيديكم إلى قضبان الزنزانة، فهي الوحيدة التي شهدت الموقف معه، ومن واجبنا أن نقدّم لها العزاء.
إنّ أُمَّكَ يا سامي لن تبكي، لأنها ستخرج إلى عروسك المنهوبة.. وستضع رأسكَ بين كفّيها وتشهق بماء النار.
ولسيلة الظهر ؛ أم الرايات والأسوار والنايات والشجر والشرفات وأكاليل الدم الحرّ، وسيِّدة الأغاني والهتاف العنيف في وجه الغزاة، ووالدة الأقواس والزفّات الساخنة والعيون النافذة وشبابيك الصلاة ، الثائرة الحائرة، المجبورة المكسورة، الهادرة النادرة، الجديرة بالشهداء وأمّهات المواقد والسكّر المحترق على الطرقات، لهذه البلدة القاصمة، الصابرة المثابرة، المغدورة .. ولهذه البيوت والطرقات والحجارة الأقمار.. أن تطوي ثنيات قلبها على الشهيد ، وتمجّ هواءها مثل زهرة الجمر، وتنفثه نيازك تتناثر في سماء أم القرى الأنيقة الشقراء، العروس التي لم تجد لها ندّاً من الرجال سوى أولادها، الذين يحملونها على أكتفاهم جدائل عاصفة، وأعراف أسطورة فذّة، فوق صدورهم العارية، في مسيرتهم الحاسمة نحو الخلاص.
استشهد سامي المناضل الجسور في زنازين المجرمين ، ليعلم القاصي والداني أن أهل فلسطين : إما في السجون وإما في الرباط وإما في الاعتصام وإما في المقابر أو على الحواجز أو في المنافي المخيفة...
وللبلدة أن تجد نبعاً جديداً في جسدها يمدّها بما يليق من ماء يصلح للبكاء، وَلَهاً على لحظة واجبة الوجود، أن يكون فيها الأسير في حضرة أمه المذهولة على ابنها الذاهب إلى الأبدية الغائمة.
اليوم، تنخلع زيتونة من مصاطب الصخور والحواكير المُمرعة. واليوم سنملأ
صحن الدمع ونرنّق وشاح الشمس والتراب ،على خيبة تدوّي فينا لأننا تركنا فرساننا يسّاقطون في العتمة وحدهم .
ولأُمّ الشهيد أن تقبل قُبلتي على اليد التي مسحت رأس الراحل الباقي ، مثلما مسّدت حجارة البلدة وحبّات زيتونها، وربّت الأبواب، وعانقت الأعمدة والشواهد، وتناسخت غيماً في كل دار.
وسامي أبو دياك ؛ اسم آخر يليق بالحرّية والأرض، وحلم ينبغي أن تراه العيون، لينجلي المشهد كاملاً بكل دمه وزغاريده ومناديله الراعفة.