نشر بتاريخ: 08/12/2019 ( آخر تحديث: 08/12/2019 الساعة: 13:52 )
الكاتب: عوني المشني
الانتخابات في النظم الديمقراطية هي سياق ومنظومة مجتمعية متكاملة توفر الفرصة لتداول السلطة بطريقة سلمية واختيار شعبي حر ، وحتى يتحقق الهدف منها فانها تأتي في سياق منظومة قانونية تسمح بحرية التعبير والتشكيل السياسي الحزبي وتاتي وفق نظام دوري منتظم . وهناك الكثير من المحددات التي تترافق مع هذه العملية .
في الحالة الفلسطينية يلتبس الأمر كثيرا ، بالتجربة فان الانتخابات لم تنتظم وفق القانون مطلقا ، القانون يحدد الانتخابات كل خمس سنوات وفي واقع الحال جرت مرتين خلال ربع قرن اي بمعدل كل اثنى عشر عاما ، وفي كلا المرتين التي جرت فيهما كانت عوامل خارجية هي الدافع الرئيس لاجراءها ، في المرة الأولى كانت بفعل اتفاق أوسلو الذي ينص على انتخابات لمجلس حكم اداري ذاتي وبدون تلك الانتخابات لا تشريع قانوني لقيادة تلك السلطة ، وفي المرة الثانية كان هناك ضغط أمريكي جاد لادخال حماس " الإسلام السياسي " في منظومة السلطة وهو ما ينسجم مع السياسة الأمريكية في المنطقة في ذلك الوقت . بمعنى اننا لم نمارس التداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات الا بالضغط الخارجي وفي مناسبات غير منضبطة وفق القانون.
أما مفهوم حرية الرأي والتشكيل السياسي فهما امران جرى عليهما الكثير من المتغيرات فقبل الانقسام ربما كانت المساحة من الحرية اوسع إلى حد ما مع كونها مساحة غير مقنعة وفق النظم المكتوبة ، وهنا يتدخل العامل الخارجي مرة أخرى ليضيق المساحات فالتنسيق الأمني وان كان قانونيا موجه ضد " الإرهاب " الا انه فعليا ضيق المساحات وساهم في اعتقالات بناء على الانتماء السياسي وحد من حرية الرأي إلى حد ما ، ولكن بعد الانقسام فان كلا السلطتين في غزة ورام الله ضيقا المساحات بصورة واضحة وصريحة وان كان بشكل نسبي ، حيث شهدت غزة تضييقا اكبر بكثير مما جرى في الضفة الغربية .
هذا يقودنا إلى حقيقية ان ممارستنا للديمقراطية والانتخابات ليس لها علاقة مطلقا بالنظام المكتوب ، وان منطق الاستحواذ هو السائد وما الديمقراطية والانتخابات سوى اجراء مفروض لإعطاء تشريع لهذا الاستحواذ .
وماذا عن الانتخابات التي ستجري حاليا ؟؟!!وفي اي سياق تأتي ؟؟؟
تأتي الانتخابات الحالية في سياق اكثر تعقيدا . من حيث التوقيت تأتي الانتخابات في ظل انقسام سياسي امتد ليتحول موضوعيا إلى انقسام جغرافي مدعوم بقوى خارجية وبالتحديد بالعامل الاسرائيلي على اعتبار ان الانقسام مصلحة اسرائيلية معلنة ، وثانيًا فانه يأتي بضغط العامل الخارجي كما الانتخابات السابقة حيث الضغط الأوروبي واضح في هذا المجال ، وحتى اللحظة فان الموقفين الاسرائيلي والأمريكي من هذا الأمر يكتنفه الغموض . كما ان الانتخابات تأتي في ظل هجمة أمريكية اسرائيلية غير مسبوقة على الكيانية الفلسطينية بكل مظاهرها وجوانبها وهذا ما يجعل الموقف الأمريكي الاسرائيلي من تلك الانتخابات مرتبط بما يحقق الرؤية تلك التي تتلخص بضرب واضعاف الكيانية الفلسطينية الموحدة .
كل تلك الظروف تجعل التساؤل عن إمكانية حصول تلك الانتخابات مشروعا ، ومشروعية السؤال تزداد وتتعزز اذا ما أضفنا ان رغبة الفصائل المهيمنة " فتح وحماس " في تلك الانتخابات تعوزها الكثير من المصداقية ، فكلا الفصيلين في وضع مريح إلى حد كبير بعدم وجود جسم رقابي تشريعي لانه يحررهما من اي رقابة او محاسبة .
كل تلك العوامل تبقى في في دائرة الفهم ، لكن ما يجعل الموضوع مربكا ان الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية وقبول فلسطين كدولة مراقب في الأمم المتحدة يجعلنا أمام تساؤل حقيقي : هل نحن أمام انتخابات لدولة فلسطين او لسلطة الحكم الإداري الذاتي ؟؟!!!! وحتى لو حاول البعض عمدا التغاضي عن الفرق في كلا الحالتين فانه سيواجه جملة من الحقائق المفترض التوقف أمامها ، اذا كنا بصدد انتخابات لمجلس الحكم الإداري الذاتي فان الانتخابات تجري تحت ذات المظلة القانونية والإجرائية التي حكمت الانتخابات السابقة . لكن اذا كان الأمر يتعلق بدولة فلسطين التي أسست على أساس وثيقة الاستقلال التي اعتمدها المجلس الوطني عام ١٩٨٨ والاعتراف الدولي بها كدولة مراقب في الأمم المتحدة فان الأمر مختلف ، هنا ووفق وثيقة الاستقلال فان الدولة الفلسطينية لكل الفلسطينيين وهذا يفترض ان يعكس نفسه على الانتخابات بحيث يسمح بل تفرض مشاركة الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم في هذه الانتخابات اذا لا يعقل ان يكون لجزء من شعب فلسطين وهم سكان الضفة والقطاع الحق في اختيار مجلس تشريعي لدولة كل الفلسطينيين !!!! . قد يقول البعض ان المجلس الوطني هو من يمثل الفلسطينيين كل الفلسطينيين ، بينما المجلس التشريعي يمثل سكان الضفة والقطاع وعندما يتعلق الأمر بالتمثيل يصبح أعضاء التشريعي أعضاء في المجلس الوطني ، هذا القول فيه تناقض صارخ ، حيث حيث انه برفع صيغة السلطة إلى صيغة دولة تغير الوضع القانوني للدولة بحيث أصبحت لها صفة التمثيل السياسي ويلاحظ مثلا ان مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية التي تمثل الفلسطينيين تحولت باغلبها إلى سفارات تشغرها الدولة كذلك تمثيل فلسطين في الأمم المتحدة انتقل من منظمة التحرير إلى الدولة ، وهنا يصبح عن تمثيل منظمة التحرير للفلسطينيين موضع شك كبير في ظل احتلال الدولة المساحة الأكبر في التمثيل ، وحتى الرئيس الفلسطيني يتحرك في كل نشاطاته السياسية بصفته رئيس الدولة وليس رئيس منظمة التحرير . وهذا امر طبيعي ان تصبح الدولة ذات صفة تمثيلية وتحتل مساحات اكبر من منظمة التحرير باعتبارها دولةلكل الفلسطينيين لا يجوز تجزئة التمثيل . ومسألة أخرى تبرز وهي اذا كان للفلسطينيين في الضفة والقطاع الحق في انتخاب ممثليهم في المجلس الوطني فلماذا يحرم فلسطينيي الشتات من حق انتخاب ممثليهم ، والسؤال الأهم لماذا يحرم فلسطينيي عام ١٩٤٨ من اي تمثيل لهم في المجلس الوطني وهم بالطبع جزء اصيل من الشعب الفلسطيني ، وربما الجزء الأكثر أصالة ؟!!!!
ان انتخابات وفق مفهوم انتخابات سلطة الحكم الإداري الذاتي هو تراجع سياسي عن الاعتراف الدولي بفلسطين كدولة مراقب ، وهو تمسك من طرف واحد باتفاقية أوسلو ، لهذا فان رفع سقف الانتخابات بإتاحة الترشح والتصويت للفلسطينيين في الشتات حيث يمكن لهم المشاركة هي خطوة أخرى باتجاه تعزيز مفهوم الدولة وحتى لو خلق هذا حالة اشتباك ، فهو اشتباك إيجابي يخدم مفهوم الارتقاء بالدولة خطوة أخرى إلى الإمام .
وهذا لا يمكن تحقيقه بسهولة ، بعض او الكثير من الدول لن تسمح للفلسطينيين بالمشاركة وهناك اشكاليات تقنية ، ولكن حتى لو شارك عدد رمزي من الفلسطينيين وحيث أمكن فهذا اختراق سياسي كبير وتقدم باتجاه مفهوم الدولة وتجاوز مدروس لاتفاقيات أوسلو وسلطة الحكم الإداري الذاتي .
مرة أخرى ان التوقف عند موضوع انتخابات دولة او سلطة حكم اداري ذاتي هو الفيصل لإعطاء تلك الانتخابات طابعها فإما ان تكون تكريس للوضع القائم او انها ستكون خطوة تراكمية باتجاه تكريس دولة الفلسطينيين كما جاء في وثيقة الاستقلال .
انه امر صعب ولكن يمكن تحقيقه ، والاشتباك هنا ليس اختلاق معركة بل اجراء الانتخابات وفق الأسس السابقة هو هروب من معركة نحو تكريس واقع الحال .