السبت: 16/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

انتخابات مجلس العموم البريطاني: انطباعات فلسطينية

نشر بتاريخ: 17/12/2019 ( آخر تحديث: 17/12/2019 الساعة: 16:33 )

الكاتب: حيدر عيد

منذ البدء بفرز أصوات الناخبين في بريطانيا والإعلان عن النتيجة المفجعة لم أتوقف عن التفكير في الأسباب، بعيدا عن التبسيط المؤامراتي، بل في سياق تحالف قوى اليمين، حتى من داخل حزب العمل، وتحدي الرأسمالية في عقر دارها. والدور الذي لعبه الإعلام التعبوي "وإن كان يلبس ثوباً ديمقراطياً"، بالإضافة الى دور العنصرية البيضاء، الإسلاموفوبيا، والطبقية، والمناطقية، وقدرة الراسمالية البيضاء على خلق هكذا تحالف.
ولكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن هناك رسالة واضحة أرادت من خلالها، كل تلك القوى التي فازت في الانتخابات، توجيه ضربة موجعة ليس فقط لجيرمي كوربن والجناح الذي يمثله داخل حزب العمل، بل لكل القوى المناهضة للرأسمالية والعولمة والعنصرية والنيوكولونيالية وأيدولوجيات الكراهية السائدة في المجتمع الرأسمالي المتأخر. فالديمقراطية الليبرالية، الغربية بالذات، لها حدودها التي لا يمكن أن تسمح لتيار تغييري جذري بتخطيه من خلال الأدوات التي ابتدعتها هي نفسها.
كانت تجربتي، كفلسطيني عضو في حركة المقاطعة الفلسطينية التي توجه دفة حركة البي دي أس العالمية، وأحد سكان قطاع غزة المحاصر، مع جيرمي كوربن غاية في الثراء على الرغم من قصرمدتها. ففي العام 2010 قامت كل من لجان التضامن الأسكتلندية والشبكة العالمية اليهودية لمناهضة الصهيونية بالتنسيق لحملة توعوية خطابية في عدة دول أوروبية، من ضمنها الممكلة المتحدة، بعنوان "ليس مرة أخرى-من أوشفتس إلى غزة" تهدف "للتعلم من جرائم الماضي القريب وتثقيف العامة عن الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني". وكان الضيف المتحدث الآخر هو المناضل الناجي من الهولوكوست وأحد سجناء معسكر أوشفتس، الراحل "هاجو ماير". وتم اختيار مجلس العموم البرطاني ضمن إحدى الفعاليات لإلقاء الكلمات الرئيسية التي تناسبت مع "يوم ذكرى المحرقة" حيث ترأس الجلسه جيرمى كوربن كونه عضو برلمان، ومناصر مبدئي للقضية الفلسطينية، وناشط سابق في حركة مناهضة الأبارثهيد الجنوب أفريقي.
وفي عام 2018 تم استغلال هذه الفعالية كدليل على تأييده لفعاليات معادية للسامية، تلك التهمة "الجاهزة التعليب" والتي تستخدمها إسرائيل ومؤيدوها ضد أي حركة مؤيدة لنضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والعدالة والمساواة. و للحقيقة فإن كل ما قمت باقتباسه في كلمتي، التي ألقيتها تلفونياً بسبب الحصار الإبادي الذي قامت إسرائيل بفرضه على قطاع غزة منذ2007 كانت لنشطاء وكتاب يهود و/أو إسرائيليين من المناضل "روني كاسرلز" إلى "إلان بابيه" و "جدعون ليفي" وغيرهم من الذين أشاركهم رؤية دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين. دولة لكل سكانها بغض النظر عن الدين واللون والجنس.
استخدمت هذه الفعالية لاحقاً في شهر أغسطس 2018 من قبل اللوبي الصهيوني وغيره للتدليل على عداء جيرمي كوربن للسامية كونه قام بترأس تلك الجلسة التي تم تصويرها ونشرها للملأ على الشبكة العنكبوتية. وقام كوربن برد يحمل صبغة اعتذارية في صحيفة الجارديان ذائعة الصيت. والحقيقة أن رده كان مخيباً للآمال على الرغم من شراسة الحملة التي قادتها البي بي سي والتايمز، وحتى الجارديان نفسها. فقد كانت وجهة نظر العديدين من النشطاء، مثل المفكر البريطاني الباكستاني الأصل "طارق علي"، أنه كان يتوجب على كوربن المواجهة الواضحة والصدام مع اللوبي الإسرائيلي الذي عمل جاهداً منذ فوزه برئاسة حزب العمل على تشويه صورته وشيطنته.
لا غرابة إذاً أن ترحب إسرائيل بهزيمته في الانتخابات الأخيرة، وقيام رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو فور الإعلان عن النتائج بالتغريد والإعراب عن سعادته "بالفوز التاريخي لصديقه بوريس جونسون واعتباره "يوما عظيما للشعب البريطاني والصداقة بين البلدين". اما رئيس كتلة "أزرق- أبيض" بيني جانتس، أشار الى أن "نتائج الانتخابات في بريطانيا، التي خسر فيها جيرمي كوربين الذي سمح بنمو فقاعات معاداة السامية داخل حزبه- هي أخبار سارة لإسرائيل"، وباستمرار"تعزيز العلاقات الاقتصادية والأمنية والثقافية بين بريطانيا وإسرائيل".
والمرة الثانية التي قمت بها بمقابلة كوربن شخصياً كانت عام 2013 بدعوة من الرجل الثاني في الحزب وعضو مجلس العموم، السيد جون مكدونيل، للحديث عن القضية الفلسطينة، والوضع في غزة وحركة المقاطعة، والإجابة عن سؤال: ما هو المطلوب؟. وللأمانة التاريخية، فإن كوربن أبدى تفهماً كبيراً لم أعهده من أي سياسي بريطاني، وقام بإثارة العديد من الأسئلة "الصعبة" عن حركة المقاطعة وعن حلول سياسية أخرى تتوافق مع ما تواجهه القضية الفلسطينية. الانطباع الذي تركه هذا اللقاء في مجلس العموم أن هذا الرجل هو رجل مبدئي، "واحد منّا". مؤيد شرس للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، بالضبط كما كان مناصراً لنضال الشعب الجنوب أفريقي ضد العنصرية البغيضة. وتوافقت معه تماماً فيما يتعلق بقضايا العدالة الاجتماعية.
بعد هذه الهزيمة التي مني بها حزب العمال البريطاني، ولأن اليأس غير مطروح على الرغم من كل الغضب الذي يعتمرنا بعد الانتخابات التي فاز بها اليمين العنصري والمعادي لحقوقنا بشكل فج، وبعد متابعتي لأكثر من 10 سنوات لما يقوم به السيد جيرمي كوربن، ازددت اقتناعاً أننا ننتمي لنفس الحركة العالمية التي تنادي بالعدالة والكرامة الإنسانية والمساواة وضمان الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية لكل بني البشر. وهذا هو النقيض الرئيس لمصالح تلك القوى التي اجتمعت لضمان سقوطه المدوي في انتخابات مجلس العموم.
* محلل سياساتي في شبكة السياسات الفلسطينية الشبكة