نشر بتاريخ: 23/12/2019 ( آخر تحديث: 23/12/2019 الساعة: 12:36 )
الكاتب: ابراهيم ملحم
على وقع صوت المطرقة الممتزج بنداء قاضي المحكمة، يُقاد المجرمون مخفورين، ليمثلوا أمام المحكمة الجنائيّة الدوليّة التي ستنظر بعد ثلاثة أشهر باحتمال ضلوعهم بجرائم حرب ارتكبوها بحق ضحاياهم، ووسط صمتٍ جليلٍ يلفُّ القاعة التي ضاقت جنباتها على رحبها بشهود الإثبات، وبالمحامين المتطوعين الذين تنادوا من أربعة أرجاء الأرض، يحملون الوثائق والشواهد والبراهين، يحدوهم اليقين بإنصاف موكليهم، وبذوي الشهداء الذين يرفعون صور أبنائهم وهم بكامل ضحكاتهم وتعلقهم بالحياة، فيما يلوح في مآقيهم وميض دمع لم يجف بعد، حزناً على أحبائهم الذين قضَوْا في لحظة جنون القوة الهمجية، تحت أنقاض بيوتهم في غزة، وعلى أرصفة الشوارع، وفي ساحات المدارس والجامعات، وفي باحات المساجد، وأمام أبواب الكنائس في القدس وفي الضفة الغربية، وفي مشهد مهيب يهز النفس من أقطارها يتقاطر إلى ساحات المحكمة آلاف الجرحى والمصابين بينهم نساء وأطفال وشيوخ لم يحصد اليأس من عزيمتهم شيئا، يغالبون دموعهم، ويحملون أوجاعهم، ويضمدون جراحهم، ويتوكأ بعضهم على أكتاف بعض، بينما يستند آخرون إلى عصي تساعدهم على حمل أجسادهم المثقلة بنزف الجراح، ووجع المعاناة، فيما يجلس بعض من فُقئت أعينهم، وبُترت أطرافهم على عربات أحضرت خصيصاً من الجنائية الدولية لتسهيل دخولهم إلى قاعة المحكمة، مستفيدين من البناء المعماري الحديث الذي يراعي التنقل السلس والكريم لذوي الاحتياجات الخاصة في مرافقها وداخل أروقتها.
فما كان حلماً بات اليوم حقيقةً، وما كان بعيداً أصبح قريباً، وما كان مستحيلاً صار بعد اليوم ممكناً، وها هو يأتي اليوم الذي ظنه المجرمون لن يأتيَ قطّ، ليَمثُلوا مخفورين أمام القضاء الدولي لمحاسبتهم فيما اقترفته أيديهم بحق ضحاياهم من الأطفال والنساء والشيوخ، في قطاع غزة، والضفة الغربية بما فيها القدس العاصمة الأبدية.
إنه يومٌ عظيمٌ وانحيازٌ لقيم الحق والعدل والحرية، وانتهاءٌ لزمن الإفلات من العقاب، وفق وصف سيادة الرئيس محمود عباس صاحب الفضل الكبير في اتخاذ قرار الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، وتوقيع ميثاق روما، متجاهلا كلّ التهديدات الأمريكية والإسرائيلية التي حاولت عبثاً ثنيه عن هذه الخطوة التي سخّر لها كل الإمكانيات لإنجاحها، وكذلك الدعوة التي وجهها رئيس الوزراء الدكتور محمد اشتية إلى المحكمة الدولية بالإسراع في إجراءات فتح التحقيق الجنائي في الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في الأراضي الفلسطينية، إنصافاً للضحايا، ومنعاً لارتكاب المجرمين المزيد من الجرائم تحت شعورٍ وغرورٍ بقدرتهم على الإفلات من العقاب.
أمّا عند نتنياهو، فإن المصائب لا تأتي فرادى، فبينما لم يفق "ملك إسرائيل"من الصدمة التي ألمت به، وظلّ يُغالب همومه من توجيه المدعي العام الإسرائيلي "أفيحاي مندلبليت" تهماً رسمية له تتعلق بتورطه في قضايا فساد خلال سنيّ حكمه الطويلة الماضية تهدد بإيداعه السجن، وتسبَّب في جرِّ إسرائيل إلى انتخاباتٍ ثالثةٍ في آذار المقبل هروباً من المصير السيئ الذي ينتظره خلف القضبان، حتى جاءه إعلان المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق في احتمال ارتكاب إسرائيل جرائم حرب وقعت خلال فترة حكمه قبل نحو خمس سنوات، وهو ما دفعه لوصف القرار بأنه يومٌ أسود في تاريخ إسرائيل.
ليس لهذا فحسب، بل إنّ مجيء قرار "فاتو بنسودا" بعد قرارٍ أُمميٍّ عظيمٍ تم التصويت عليه بأغلبية 170 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة يقضي بتجديد التفويض لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" الأونروا"، وما سبقه من قرارٍ أصدرته محكمة العدل الأوروبية بوسم بضائع المستوطنات، وما يستبطنه إعلان المدعية العامة للجنائيّة الدولية من معانٍ ودلالات سياسيّة لا تخطئها العين عبر تحديد الولاية القضائية للمحكمة الدوليّة على مسرح الجريمة المتمثل بالأراضي الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس المحتلة، كل ذلك كان وراء ذلك السّواد العظيم الذي اتشح به قلب نتنياهو بعد هذا القرار، الذي يُنعش الأمل في نفوس الفلسطينيين باقترابهم من لحظة الحرية، وفق وصف دولة رئىس الوزراء الدكتور محمد اشتية.
من يريد أن يعرف أكثر قيمة القرار الذي اتخذته المدعية العامة للجنائية الدولية، فما عليه إلاّ أن يرصد ردود الفعل الإسرائيلية الهستيرية إزاءه، والتي بلغت حد تهديد وزير النقل والمواصلات الإسرائيلي "بتسلئيل سموتريتش"، بالشروع بتدمير قرية فلسطينية كلّ يوم، لإجبار السلطة على سحب القضية من ملفات الجنائية الدولية، وهو تهديد سيضاف إلى ملفات المحكمة عند شروعها بعد نحو ثلاثة أشهر من صدور القرار بإجراءات المحاكمة للمجرمين.
واللّافت أن قرار المحكمة الجنائية ذو القيمة القانونية والسياسية العالية، يأتي رغم كل الهدايا الأعطيات والرشاوى التي أغدق بها ترامب على نتنياهو لإنقاذه والتغطية على فساده، ورغم حوائط الصد الدفاعية القوية التي بناها ترامب أمام المرمى الإسرائيلي مستعينا بالكعب العالي لحذاء "نيكي هايلي" مندوبته السابقة في الهيئة الدولية، فإن اللاعب الفلسطيني استطاع اختراق كل تلك الحوائط وتسجيل الهدف الذهبي في شباك المرمى الأمريكي الاسرائيلي في الهزيع الأخير من عام قاسٍ عانى فيه الشعب الفلسطيني من نقص في الأموال والأنفس والثمرات، وتجرّع فيه مراره الظلم الأمريكي، والبطش الإسرائيلي.
ولا بد من الإشادة هنا بالجهود الكبيرة التي بذلتها الدبلوماسية الفلسطينية طيلة خمس سنوات من العمل الجاد والدؤوب الذي انكبت عليه طواقمها الفنية، والإدارية، واللوجستية، في سبيل تقديم الملفات المدعومة بالوثائق والأدلة الدامغة لإدانة القتلة.
ليس سوى الدمع وصلاة الشكر يليقان بهذه اللحظة التاريخية التي يرى فيها ذوو الضحايا قاتلي أبنائهم وهم يَمثُلون مخفورين أمام المحكمة الجنائية الدولية لينالوا قصاصهم العادل جرّاء ما اقترفته أيديهم من جرائم لا تسقط بالتقادم، وطوت وإلى الأبد ذلك الزمن الذي كان فيه المجرمون يفلتون من العقاب... فاهتفوا بصوتٍ واحد: "يحيا العدل".