نشر بتاريخ: 27/12/2019 ( آخر تحديث: 27/12/2019 الساعة: 14:42 )
الكاتب: عدنان رمضان
الشعوب والأمم في حركة مستمرة وهي كما الظواهرالأخرى تخضع لقانون الحركة والتغير الدائم رغم ثباتها النسبي والتغيرات في المجتمعات معقدة ومتداخلة ويتم تفسيرها بطرق مختلفة فما تعتقد أنه تقدم قد يعتبره آخرين تأخر وتراجع وما تراه تقدما يعتبره البعض الآخر انحطاطا ، لكن ما شهدناه في حياتنا وما تعلمناه مما اختبرناه ورأيناه في العالم الذي نعيش به الآن هو ان نهضة الشعوب او تراجعها تحكمه مجموعة من العوامل الموضوعية والذاتية وان من اهم العوامل الذاتية المؤثرة هو دور القيادات السياسية والنخب الثقافية والاجتماعية والمؤسسات في بنية هذا المجتمع الفوقية
وفي هذه البنية تلعب القيادات السياسية والدينية وكذلك النخب الثقافية والاجتماعية دورا كبيرا في تحديد الهوية الثقافية للمجتمع والتوجهات والقيم التي تبنى عليها العلاقات ولهذا يكون دور هذه النخب في النهوض بواقع الشعوب او في انحدارها حاسما ومهما
صحيح أن هناك تغيرات كبيرة تجري على المستوى العالمي في القرن الحادي والعشرين تترك آثارا هائلة على المجتمعات وتمس بالبديهيات التي قامت عليها العلاقات الإنسانية في جوانبها المختلفة ان كانت سياسية او اقتصادية او ثقافية والتي نتج عنها كما أرى تحولات مست جوهر الوجود الإنساني كمنتج أو مستهلك مما يعتبر لحظة فارقة في تاريخ البشر
في ضوء ما سبق فإني أود تسليط الضوء على احد مظاهر التغيير التي نعيشها في فلسطين و تتمظهر بعدد من الأشكال والتجليات التي باتت ظاهرة للعيان والتي تؤشر حسب رايي الى حالة من الانحدار الخطير والتدهور في هوية وثقافة المجتمع الفلسطيني، بالتأكيد هذا الامر ليس محصورا في الفلسطينيين بل مظاهره تمتد الى الكثير من بقاع العالم وتظهر بشكل جلي في المجتمعات العربية لكن ما يهمنا في هذه الحال هو الواقع الفلسطيني الحالي
ان حجم الرداءة الكبير وتدفق وانتشار الممارسات السياسية والاجتماعية الفاسدة القبيحة وما يتخللها من سفاهة مستمرة و متعاقبة وهيمنة فئات من المجتمع في الغالب غير مؤهلة وغير متزنة ينقصها الإبداع والاصالة وتستمد قيمتها من الاشياء او من خلال تبعيتها للآخرين فلا تعبر قراراتها وسياساتها و مسلكياتها إلا عن حالة الخواء والفراغ والنزق والحمق وقد وجدت نفسها في مواقع القيادة والمسؤولية والتأثير نتيجة الحالة المشوهة التي يعيشها شعبنا من انقسام وتشتت وضعف وتراجع وهبوط وانكشاف كبير على المؤثرين الخارجيين أفراد ومؤسسات وشركات ودول ساهمت بقوة في إنتاج الحالة التي نعيشها الآن لحساب مصالحها واجنداتها المختلفة
عوامل تساهم في هيمنة التفاهة
إن هيمنة التفاهة وما ينتج عنها من تدفق مستمر لمسلكيات ومواقف رديئة ومحدودية في الخيارات هي ليست حالة عرضية او هامشية بل هي نتاج تحولات كبيرة عصفت وتعصف بالمجتمع الفلسطيني والعربي تم التعبير عنها في عدد من القضايا أهمها
اضعاف وتغييب وتراجع النماذج الايجابية وغياب القدوة واستحضار نماذج سطحية من مهرجين و فهلويين و رويبضة والتسويق لهم من خلال في الإعلام والسياسة وتوزيع الجوائز وشهادات التقدير واعطائهم مساحات لمخاطبة الناس في منابر مختلفة اعلامية او سياسية او حتى أكاديمية وثقافية و انتشار مظاهر الفساد والغش والتحايل وعدم المحاسبة
كذلك أنماط السلوك الفردي والدكتاتوري المنتشرة على كافة المستويات والمتمثلة بالشخصنة وبتغيب أشكال المشاركة ومهاجمة المعترضين والمنتقدين وفي انتهاج سياسات تعزز خلق الاتباع والرعايا وكذلك في استغلال مصادر القوة والسلطة لصالح الأفراد والمجموعات المهيمنة وفي في نشر المحسوبية والواسطة وتغييب دور الكفاءات واستثمار الإعلام بأشكاله المختلفة في تضخيم الإنجازات وفي التطبيل و تسطيح الامور ونشر الشائعات والتركيز على القضايا الهامشية
بالاضافة الى ما توفره أدوات التواصل الاجتماعي من فرص لإثبات الذات و لحضورها والتعبير عنها في سياق من التنافس لإرضاء النفس وفقا ل معايير مرتبطة بعدد الاصدقاء والمتابعين وعلامات الاعجاب وهذا كله في مجال عام تتحكم فيه الشكليات والجهل والسطحية والممارسات والمواقف الشعبوية حيث توفر مواقع التواصل الاجتماعي فرصة لعدد من المؤثرين كما يسمون، ينشرون الضحالة والتفاهة، يروجون للسطحي، ويهللون للفارغ الأجوف
والاهم هوالاحتكام الى ثقافة ماضوية ،وهي ان نضع انفسنا خلف قضبان التراث والعادات و السلفية مما يغيبنا عن حاضرنا ويطرح سؤال كبير حول كيف سنلج المستقبل إذا تمسكنا بالماضي وهل سنبقى نراوح في المكان نخرج من دائرة الفعل إلى الشيزوفرينيا ننفعل ونستهلك ما ينتج عن الحاضرين في التاريخ ونحن نبقى نلوك الكلمات ونعلق في دوائر اللاجدوى وكلما زاد عجزنا رفعنا من مكانة الماضي وهالته ل مستوى الأسطورة والقداسة نحن لم نشغل أنفسنا بصناعة السيارة أو تطوير الحاسوب او ابتكار العلاجات للامراض ولم نستثمر في البحث بل غرقنا في تفسيرات الأئمة والفتاوى والحلال والحرام والاقتتال وإشباع الغرائز
من مظاهر التفاهة المنتشرة
في الأوضاع الطبيعية تتحدد قيمة الشخص من خلال عمله وأخلاقه وعقله وحفظ كرامته واحترامه لذاته وللآخرين ومساهماته الفعالة وتواصله مع الآخرين وفي إطار انتمائه للجماعة ومساهمته في تقدمها وتجاوزها للعقبات وتوسيع خياراتها والتيسير على أفرادها للوصول الى اهدافهم لكن وفي ثقافة التفاهة يصير الرجل رجلا بطول لحيته ودشداشته وبيته وسيارته او حسابه البنكي او نسبه وعائلته أو علاقته بالمسؤول وعدد البوستات التي ينشرها والمناسبات التي يحضرها وصوره مع المسؤولين وفي ما نراه من دعم المتبادل بين التافهين وخصوصا إذا كانوا في موقع صناعة القرار السياسي والأمني والإعلامي والثقافي
ومن مظاهر التفاهة أن يشكوا الناس الفقر والحاجة والعازة وتراهم يتبارون في البذخ غير المبرر في الموائد وملاحقة الماركات في الملبس واقتناء الأحدث في أجيال الاختراعات الإلكترونية من هواتف نقالة وغيرها والاستعراض الفارغ خلف مقود سيارات الدفع الرباعي و التطاول في العمران بعض مظاهر المبالغة في الاحتفالات مثلا في التوجيهي حفلات تخريج الاطفال من الحضانات او في استعرض الحضور الاجتماعي في الاعراس والمناسبات وبذخ الموائد في شهر رمضان المبارك وانتشار أنماط التسوق كالية ترفيه و حملات التنزيلات فيما ما يسمى الجمعة السوداء .
من الممارسات التي تنتج الهبل والتفاهة اجتماعيا أن يقتل الرجل المرأة دفاعا عن الشرف والدين وهو بذلك يرتكب واحدة من الكبائر "من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا " وتجد جزء كبيرا من المجتمع يهلل ويطبل له و يحوله إلى بطل وضحية خيانة المراة
ومن ممارسات إنتاج الهبل والتفاهة على المستوى السياسي أن ندعو لمقاطعة الاحتلال ونحن ننسق معه امنيا وان ندخل في تعاون مع الامريكان لمحاربة الإرهاب ومعظم فصائل الفلسطينية مصنفة أمريكا كمنظمات ارهابية وان نهب لنحارب في أفغانستان وسوريا والعراق وبقاع الأرض الشاسعة و أرضنا محتلة وحقوقنا منتهكة وترتكب الجرائم بحقنا وحق شعبنا المقهور والمظلوم في كل ساعة على امتداد قرن من الزمان
من مظاهر التفاهة أن تراهن على الجهل ونشر الكلام باسم العلم والدين وتوزيع المواقف النهائية والأحكام المطلقة على القضايا الكبرى بالاستناد الى لا شيء سوى المراهنة على جهل المتلقي واستثارة عواطف او ذكوريته أو عصبيته
ومن أشكالها أيضا انتشار مظاهر اللانتماء والركض خلف ما يركض الناس إليه لا داعي للتوقف والسؤال فهذا لا يجلب شيئا الا وجع الراس والموت مع الجماعة رحمة واذا انجن قومك عقلك ما بينفعك حيث تتعزز مظاهر اللانتماء وغياب الأفكار وضحالة الشخصية وقدرتها على الاندماج في مظاهر التطبيل والتسحيج و الببغائية
بعض الإشكاليات والأسئلة
إذا كان الواقع ردي وبذيء فهل على الثقافة أن تكون بذيئة ؟ هل الثقافة انعكاس للواقع فقط دون أن ترتقي به؟ ولماذا نجد من يبرر للبذاءة على أنها شكل من أشكال التمرد ؟ ،نعم قد تكون الخيانة شكلا متطرفا من البذاءة وكذلك الفساد والاستغلال و التعالي واحتقار الطبقات الادنى هي تجليات لقدر هائل من البذاءة خاصة إذا اجتمعت مع بعضها البعض وهل يكون ذلك مبررا لاشكال معارضة ومتمردة من البذاءة وكيف يسوغ لبعض الثورجيين بالإشادة بمظاهر الانحطاط على أنها متلازمة الفقر و الخلط المقصود بين الغث والسمين ، فجرأة الفقير واستعداده لتقدم الصفوف وتمرده على القوانين وهو بذلك يساهم في إضعاف سلطة القهر وليس لنشر ثقافة الفوضى حيث تختلط هذه في كثير من الأحيان بالدعوة للفوضى وتثليم القانون لتتسع فرص الكسب غير المشروع والاعتداءات ومظاهر البحث عن الأمان في الغيبيات وليس غريبا ان ترى بعض هؤلاء الفقراء قد ركبوا الموجات ليكونوا في وقت لاحق جزء من منظومة التفاهة المتمكنة
هل التفاهة شي جديد وغريب ؟ بالطبع لا فهذه المظاهر جزء أساسي من الوجود البشري واحيانا تكون التفاهة الية مجتمعية وثقافية للاسترخاء والراحة والاحتفال ، لكن ان تتحول التفاهة لأنماط من الفعل السياسي والاجتماعي والثقافي السائد هي المشكلة وان يجد المثقف نفسه على مسافة من الناس أو غير قادر على التواصل وبالتالي أن ينفصل وينعزل ومن ثم يعادي مما يصعب على على المثقفين في ظل هيمنة التفاهة وتدفق الرداءة في أن يكون المثقف عضويا ويتمكن من القيام بمهام التغيير الثوري والعمل لخلق الكتلة التاريخية اللازمة لهذا التغيير وتقديم النموذج والدفاع عنه دون السقوط في فخ الشعبوية والانحدار لكن عبر المواجهة مع القيم البالية و السطحية ومع التدليس والفهلوة ، و هي المعركة اليومية في كل المجالات وفي كل الامكنة وعلى مدى الحياة ، في الشارع والمدرسة والعرس وبيت العزاء وفي مواجهة الفساد بأشكاله المختلفة والتخلف وتجلياته الذكورية الأبوية والداعشية
تميز الإنسان عن غيره من الكائنات بملكة العقل التي تخوله التفكير وتمنحه حرية اتخاذ المواقف والقرارات وتحمل المسؤولية لكن هيمنة وانتشار التفاهة هو تعبير جدي عن سلب الانسان لانسانيته وجوهر وجوده وكرامته، لذلك تصبح مواجهة تحويل المجتمع الى مجموعات مسطحة مستهلكة وقطعان جاهلة ومطبلة، ليس في ذاتها إمكانيات الإبداع والإنتاج والمساهمة الفاعلة بل تجد نفسها من خلال الأشياء المادية والآخرين ، هي مهمة الدفاع عن انسانيتنا والهدف الأساسي لوجودنا وما يميزنا عن غيرنا من المخلوقات والكائنات