نشر بتاريخ: 30/01/2020 ( آخر تحديث: 03/04/2020 الساعة: 05:01 )
بقلم: د. نايف جراد
الإعلان عن صفقة القرن يشكل تحولا نوعيا في مجرى الصراع، يتطلب مواجهة استراتيجية فلسطينية تحرص على وحدة الموقف الوطني الشامل، وفاعلية وكفاءة الأدوات والأداء، بشكل حكيم وعقلاني، بعيدا عن الارتباك والتراخي وبعيدا عن التطرف أيضا.
مدخل
إن الإعلان عن صفقة القرن من قبل الرئيس الأمريكي ترامب بوجود نتنياهو وبعد لقاء غانتس، هي محاولة لإنقاذ نتنياهو وترامب نفسهما وحشد التأييد لهما في الانتخابات الإسرائيلية والأمريكية القادمة، عبر إظهارهما كزعيمين تاريخيين حققا إنجازا غير مسبوق لدولة إسرائيل واليهود. وهي خطوة تستثمر الظروف المحيطة واللحظة الراهنة لإيجاد توافق إسرائيلي إسرائيلي مدعوم أمريكيا لطرح موقف استراتيجي يحقق أحلام وأهداف اليمين الإسرائيلي المتطرف، ويمهد الطريق لحسم حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس حل إقليمي يتفق ومصالح "إسرائيل الموسعة" الاستراتيجية، بوجودها كدولة يهودية، تستحوذ على السيادة على القدس وكل الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 متمتعة بسيطرة أمنية كاملة بضمانات دولية واقليمية، مع استمرار بقاء وتشريع المستوطنات وضمها لإسرائيل، وتصفية قضية اللاجئين، وإبقاء السيطرة على الحدود والمياه والمصادر الطبيعية والمجال الجوي. وتلحظ الصفقة دورا إقليميا وخاصة على الصعيد الاقتصادي وبما يضمن تطبيع علاقات اسرائيل مع دول عربية مؤثرة سياسيا واقتصاديا، ليكرس ذلك اتجاه حرف الصراع نحو فزاعة الخطر الإيراني والمواجهة مع إيران، وللاستقواء بإمكانيات التأثير على الوضع الفلسطيني والمحيط لتهيئة الأجواء للتطبيق الكامل للصفقة، والتطبيع العلني الصريح والواضح الذي يحقق اندماج "إسرائيل الموسعة" في الإقليم. وسيجري التذرع بالرفض الفلسطيني، لممارسة الضغط والقيام بخطوات إسرائيلية من طرف واحد وخاصة فيما يتعلق بالأغوار، وبحيث يجري التحكم بالتطورات بما يمكّن من استمرار إدارة الصراع لبضعة سنوات، ستحاول فيها إسرائيل مدعومة من الولايات المتحدة، وبالتنسيق مع أطراف إقليمية تهيئة الظروف الفلسطينية، والاردنية أيضا، عبر ممارسة ضغوط وترهيب وإغراءات لقبول الحل وإنفاذه على الأرض، تحت ادعاء أنها فرصة تاريخية لن تتكرر للفلسطينيين.
السم المغلف بالدسم والخطر الداهم على الوجود الفلسطيني
من الواضح أن الخطة الأمريكية الإسرائيلية الجديدة تحمل سما مغلفا بدسم وكلام منمق: دولة فلسطينية؛ كرامة الفلسطينيين؛ حق الفلسطينيين بحياة أفضل؛ خطة لمحاربة الفقر ورفع مستوى المعيشة والدخل؛ وضع نهاية لاعتماد الفلسطينيين على المؤسسات الخيرية والمعونة الأجنبية؛ تحقيق الازدهار الاقتصادي؛ صندوق سخي لتعويض اللاجئين؛ الدولة الفلسطينية ستكون متصلة، ولها عاصمة في القدس الشرقية؛ أن الأمر الواقع القائم لرعاية المقدسات لن يتغير(في إشارة للوصاية الأردنية)؛ البناء الاستيطاني سيتوقف في المناطق المفترضة للدولة الفلسطينية خلال اربع سنوات، وان مناطق سيطرة السلطة/الدولة ستتضاعف من خلال تبادل الأراضي والتوسع لأغراض صناعية وسكنية وزراعية في مناطق من النقب المحاذية للحدود المصرية، وأنه سيكون لها ميناء خاص ومطار في غزة وسيرفع الحصار عنها وتفتح معابرها مع مصر.
لكن من الواضح ان هذه الخطة في الجوهر تشكل خطرا على الوجود الفلسطيني برمته، وهي تنتزع كل ما تقوله عن "رؤية السلام والازدهار ومستقبل أكثر إشراقا" من معناه الحقيقي، عبر إعطاء السلام والأمن والازدهار والمستقبل الأكثر إشراقا لإسرائيل وحدها، وذلك بالتنكر لحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني بدولة مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية، وعبر التنكر للحق في القدس والسيادة على المقدسات ولحقوق اللاجئين، وللحق بالسيادة على الأرض والثروات الطبيعية والأجواء والحدود، وللحق في الأمن المتكافئ والسلام. ويظهر ذلك من خلال تأكيد أصحاب الصفقة عن أن الدولة يجب ان تكون منزوعة السلاح وبما يشمل نزع سلاح حماس والجهاد الإسلامي وما يسمى بالجماعات المتطرفة والارهابية، وأنها ستحافظ على الوقائع التي فرضها الاستيطان الإسرائيلي على الأرض حيث ستتكون دولة على شكل جزر أشبه بأرخبيل في محيط إسرائيلي من كل الجهات، تربطها طرق وأنفاق وجسور تحت السيطرة الاسرائيلية، دولة سيجري التفاوض على مساحتها على أساس استمرار وجود كل المستوطنات والبؤر الاستيطانية و ربطها وضمها لإسرائيل، وبعد أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة يهودية ويتكفلون بالحفاظ على أمنها، ويرفضون بشكل صريح ما يسمى بالإرهاب ويوقفون دفع رواتب الإرهابيين وعائلاتهم(في إشارة الى الأسرى وأسرهم وأسر الشهداء)، ويتوقفون عن الانضمام للمؤسسات الدولية واثارة دعاوي ملاحقة مجرمي الحرب من إسرائيليين وامريكيين في محكمة الجنايات الدولية. وأما عاصمة الدولة فهي ليست القدس الشرقية كلها، المحتلة في عام 1967، بل أحياء منها خارج أسوار القدس القديمة، وخارج الجدار، فالقدس موحدة كاملة غير مجزأة عاصمة لدولة إسرائيل ولها السيادة على مقدساتها، مع كرم إسرائيلي بالسماح لوصول المؤمنين جميعهم يهودا ومسيحيين ومسلمين (والاشارة لليهود تعني تكريس حقهم بزيارة الحرم وصلاتهم في المسجد الأقصى "الهيكل حسب زعمهم") الى أماكنهم المقدسة للصلاة والعبادة.
وهكذا فإنه من الواضح، إن الإعلان عن صفقة القرن، يشكل تحولا نوعيا في مجرى الصراع، تحسم فيه الولايات المتحدة وإسرائيل أسلوب الحل ومضمونه، ليتجاوز التفاوض على أساس القانون الدولي، وكذلك القرارات الدولية والمبادئ التي جرت على أساسها التسوية منذ مؤتمر مدريد عام 1991، ونسفا لمبدأ الحل على أساس ما يتفق عليه الطرفان الذي كانت تتذرع واشنطن به سابقا للتملص من الضغط على إسرائيل، نحو أسلوب فرض الحلول بقوة الأمر الواقع وموازين القوى الراجحة لصالحها، التي تنسجم تماما مع مصالح إسرائيل الحيوية والاستراتيجية من جانب واحد، مستثمرة الوضع الفلسطيني الضعيف والمترهل والمنقسم والوضع العربي المتراجع والمشغول بمشاكله الداخلية وحربه الأهلية وخلافاته الإقليمية، والوضع الدولي الذي يشهد تزايدا لصعود قوى اليمين المتطرف والشعبويين لسدة الحكم في دول عديدة وانشغال البعض بهموم ومشاكل داخلية في ظل احتدام التنافس الدولي. وبالتالي فإن الخطة هي تقرير صريح وواضح من جانب واحد لنتائج ما يسمى بالحل النهائي، يفرض الفهم الإسرائيلي الخاص لحل الصراع الذي يضمن كل مصالح إسرائيل الحيوية والاستراتيجية، متنكرا لكل مصالح وحقوق الشعب الفلسطيني.
ومن الملفت للنظر ان الخطة المعروضة تفصيلية (181 صفحة)، ومن الواضح أن اليمين الإسرائيلي المتطرف ممثلا بنتنياهو وامتداداته في البيت الأبيض، قد درسها بعناية، واحكم صياغتها، بما يكفل تلبية كل متطلبات إسرائيل الأمنية والديمغرافية والاقتصادية والسيادية استراتيجيا. وبالتالي فإن أي تفاوض عليها بهدف تعديلها سيكون على ارضيتها ولن يغير منها جوهريا. وقد اعتبرت إسرائيل ما تم وعلى لسان نتنياهو بأنه انجاز تاريخي يساوي من حيث أهميته اعلان تأسيس دولة إسرائيل عام 1948.
أما على الصعيد العملي، فما قاله نتنياهو، يكرر ما نفذ سابقا في التعامل مع كل مبادرات ومخططات التسوية، أي ان إسرائيل تضع تحفظاتها عليها وتقول فهمها وتفسيرها لها، وتطبق على الأرض ما يجسد أهدافها ومصالحها. حيث ستحاول إسرائيل استثمار هذا الإقرار الأمريكي المدعوم اقليميا في تعزيز الوقائع التهويدية والاستيطانية على الأرض، وخاصة في القدس والأغوار، وسوف تستغل ذلك لتسريع إجراءات الضم وفرض القانون الإسرائيلي على مناطق "ج"، وذلك في ضوء ما أكده نتنياهو من ان “ترامب يعترف بأنه ينبغي أن تكون لإسرائيل السيادة في غور الأردن ومناطق أخرى حيث تستطيع الدفاع عن نفسها بنفسها”.
وثمة خطورة واضحة في حضور سفراء كل من الامارات والبحرين وعمان لحفل الإعلان عن الصفقة، وإصدار بعض الحكومات العربية مواقف ترحب بها كمبادرة باعتبارها "رؤية السلام والازدهار ومستقبل أكثر إشراقا"، ودعوة الفلسطينيين للموافقة على الانخراط في مفاوضات مباشرة برعاية دولية تحت قيادة الولايات المتحدة. ولهذا فإنه من المرجح أن إسرائيل والولايات المتحدة ستعملان بالتعاون مع حلفائهما عربيا، على ممارسة الضغط على القيادة الفلسطينية، وعلى إغراء جهات وشخصيات فلسطينية للانخراط في مسار صفقة القرن وخاصة على الصعيد الاقتصادي والاستفادة من الاستثمارات المخطط لمواكبتها للخطة والبالغة 50 مليار دولار خلال عشر سنوات( والتي لا تعادل عشر ما يمكن أن ينتجه الاقتصاد الفلسطيني في حال الاستقلال وزوال الاحتلال)، وكذلك من خلال إعلاء الصوت بالدعوة الى العقلنة والواقعية والتفاوض المباشر، مع تغليف ذلك بالحديث عن مفاوضات على أساس الشرعية الدولية.
نحو استراتيجية وطنية فلسطينية موحدة
في ضوء كل ما تقدم، فإنه من المنطق ان يُقابل هذا المنعطف النوعي الخطير بموقف استراتيجي فلسطيني مختلف نوعيا، يضمن وحدة الموقف الوطني الشامل، وفاعلية وكفاءة الأدوات والأداء، بشكل حكيم وعقلاني، بعيدا عن الارتباك والتراخي وبعيدا عن التطرف أيضا.
وعليه فإنه من الضروري الحرص على الصعيد الوطني العام أن يتم استمرار التأكيد على ما جاء على لسان السيد الرئيس أبو مازن شخصيا بشكل علني من رفض للصفقة بوضوح، وهو الموقف الذي أجمعت عليه كل القوى السياسية الفلسطينية، مما يمهد السبيل للعمل الجاد وبشكل سريع و بخطوات ملموسة لتجاوز الانقسام واتمام المصالحة من أجل استعادة الوحدة الوطنية وتذليل كل العقبات أمامها، كما جرى في حضور الجميع لاجتماع القيادة الذي ترأسه الرئيس عباس، وما يجري التحضير له من لقاء في غزة، وما قد يجري على هامش اجتماع الجامعة العربية في القاهرة قريبا.
ان الاستراتيجية الوطنية المشار اليها يجب ان تأخذ بالحسبان أن الموقف الفلسطيني الرسمي والشعبي حاسم في الرد على صفقة القرن، وحاسم في دفع الآخرين لاتخاذ مواقف غير مؤيدة للموقف الأمريكي. وعلى هذا الصعيد من الضروري أن يجري التحرك الفلسطيني تحت شعار عام موجه لكل تجمعات الشعب الفلسطيني، شعار معبر عن رؤية تحررية لكيفية هزيمة صفقة القرن والحفاظ على الوجود الوطني، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات وإمكانيات كل تجمع من التجمعات الفلسطينية سواء من حيث الظروف الملموسة والقدرات وحرية الحركة أو من حيث المهام، وبحي يجري التأكيد على دعوة شعبنا في كل أماكن تواجده للصمود والتعبير عن موقف الرفض للصفقة، والتمسك بالحقوق، وتفعيل المقاومة الشعبية والتحركات الجماهيرية، في الداخل والخارج، وبشكل يوصل رسالة قوية لإسرائيل وأميركا وكل العالم أن الشعب الفلسطيني وقيادته متمسك بحقوقه وثوابته الوطنية والقدس عاصمة لدولته.
وكي تكون الاستراتيجية فاعلة لا بد وأن تشمل كل المجالات الداخلية والخارجية.
فعلى الصعيد الداخلي، من الضروري توضيح معنى اتخاذ الإجراءات اللازمة لتغيير الدور الوظيفي للسلطة، وذلك بالإعلان عن مؤسسات السلطة كمؤسسات لدولة فلسطين تحت الاحتلال، والعمل في ضوء ذلك على تعديل وتركيز الاستراتيجيات والخطط القطاعية وسياسات ومهام الوزارات على عملية التحرر والانفكاك من الاحتلال، وهو ما يعني بالضرورة تعزيز صمود الناس على أرضهم، وتوفير مقومات العيش الكريم لهم، والحفاظ على أمن المواطن والنظام العام، ومواجهة أي عبث بالجبهة الداخلية والعمل على تحصينها، والحفاظ على السلم الأهلي، وتعزيز العمل والنفوذ في مناطق "ج".
وعلى الصعيد الداخلي أيضا، وبنفس القدر من الجدية وبذات الاتجاه، ولا بد من انجاز خطوات ملموسة لتحقيق الهدف، الذي طال انتظاره، وبات مكرورا، لإعادة الاعتبار لدور مؤسسات وهيئات منظمة التحرير الفلسطينية وتفعيلها كمرجعية وطنية عليا واطارا وطنيا تمثيليا وحيدا جامعا وقائدا للتحرر الوطني، وتفعيل عمل هيئاتها القيادية ومؤسساتها ودوائرها وخاصة فيما يتعلق بالعمل في التجمعات والجاليات في الخارج وعلى صعيد قضية اللاجئين، والعلاقة مع قوى التحرر والتقدم والديمقراطية والسلام في العالم.
إن من الأمور المهمة على الصعيد الداخلي، التي تحتاج لعناية، تتمثل بتعزيز الثقة بين المواطن والسلطة ومؤسساتها، وذلك عبر تعزيز الحوار المجتمعي وخلق آليات تشاركية وديمقراطية توافقية، تزيل ما اعترى العلاقة من لبس في الفترة الماضية، وتوفر حماية للنسيج الوطني والوحدة الكيانية. ويتطلب ذلك التصدي الحازم لأعوان الاحتلال وادواته، ولكل من تسول له نفسه بالانخراط في مسار الحل التصفوي اقتصاديا او إعلاميا او سياسيا، وضرورة إطلاق الحريات في مناطق السلطة والتأكيد على احترامها، وبما يضمن استمرار الحفاظ على الأمن والنظام العام والأخلاق والآداب العامة، ومنع بث الفوضى وأعمال التحريض والعبث بمقومات السلم الأهلي. والتصدي الحازم لمحاولات التخريب واعلاء لغة التحريض بديلا للحوار.
أما على صعيد المقاومة الشعبية فالمطلوب ليس الحديث المكرور عن تعزيزها وتصعيدها، كما كان يقال دائما، بل ضرورة الارتقاء بها على أساس استراتيجية وطنية موحدة تضمن مشاركة فاعلة لكل القوى السياسية وبما يعزز المشاركة الجماهيرية والوحدة الميدانية والاشتباك الشعبي الدائم مع المحتل ومستوطنيه وخاصة في مناطق القدس والخليل والأغوار والمناطق المتأثرة بالاستيطان. ومن المهم الحرص الشديد على عدم الرد على استفزازات جيش الاحتلال، الذي سيحاول الحاق الأذى بالمواطنين والمقاومين لجر الساحة نحو العنف واستثارة ردود فعل يجري التسلح بها لوصم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب. وإن للشعب الفلسطيني تجربة غنية في الكفاح الشعبي وابداعا زاخرا في أشكال النضال، مثلت انتفاضة كانون أول عام 1987 جذوتها، ومن الضروري استلهامها، وبحيث يجري الاهتمام بارتباط أشكال الكفاح بالهدف السياسي وبتعظيم مكاسب الشعب وعدم استنزاف قواه مقابل تعظيم الخسائر في صفوف المحتل واستنزافه على طريق جعل مشروعه الاحتلالي مشروعا خاسرا يدفعه للتراجع وإعادة النظر بسياساته الاستيطانية الاستعمارية وأطماعه التوسعية.
وعلى كل القوى السياسية وخاصة في غزة، العمل على تنسيق المواقف والتحركات فيما يتعلق بإدارة الصراع مع الاحتلال والاستفادة من تجربة غرفة العمليات المشتركة على هذا الصعيد من أجل ضبط قرار الحرب بعيدا عن الانجرار لردات الفعل والمصالح الفئوية.
إن طبيعة اللحظة التاريخية تستدعي التداعي السريع من قبل الهيئات الفلسطينية القيادية، والتمثيلية الشاملة، للانعقاد سريعا. وعليه لا بد من العمل على عقد دورة استثنائية للمجلس الوطني او المجلس المركزي، وباتفاق وطني شامل، وذلك بهدف البحث في الخطوات العملية اللازمة لتنفيذ القرارات السابقة المتعلقة بالاتفاقات والعلاقة مع دولة الاحتلال، والمسائل المتعلقة بالوحدة الوطنية وتفعيل منظمة التحرير ودورها الوطني التحرري، وكيفية التصدي الوطني الفاعل لصفقة القرن في كافة أماكن تواجد الشعب الفلسطيني وعلى كافة المستويات. وإن تعذر عقد المجلس الوطني فمن الهام والضروري تعويض ذلك بتنظيم مؤتمرات شعبية واسعة في الداخل والخارج بمشاركة كل القوى الوطنية والمؤسسات وشخصيات وطنية من كافة ألوان الطيف السياسي والفكري والاجتماعي وذلك تحت رعاية منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده.
أن جمع الإطار الوطني الشامل وتفعيله، يستدعي في نفس الوقت العمل بروح الوحدة الوطنية وفي الميدان لتعزيز نشاط وفاعلية تجمعات وجاليات شعبنا في الخارج، وفي منطقة 48، وضرورة الاهتمام بوحدة تجمعات وجاليات شعبنا واعلاء صوتها للضغط على حكومات البلدان التي تتواجد فيها لاتخاذ مواقف داعمة للحقوق الفلسطينية ورافضة لصفقة العار. وان لجماهير شعبنا في داخل منطقة 48، دور خاص، كبير وذو ثقل في هذا العمل وهذه المعركة المصيرية. ولذا من الضروري العمل على تنسيق الجهود مع القوي الوطنية والشعبية في مناطق 48 ومرجعياتها الوطنية، والدعوة لتعزيز الحراك الشعبي في مواجهة سياسات وإجراءات التمييز العنصري والأبارتهايد والاستيطان ورفض الحاق بلدات وقرى من مناطق 48 بمناطق السلطة الوطنية. وفي المجال الوسع لا بد من أن يجري التنسيق أيضا للتأثير على الرأي العام الإسرائيلي واستثمار التناقضات في المجتمع والوسط السياسي الإسرائيلي، وأيصال رسالة واضحة للاسرائيليين ان فلسطين التاريخية هي وطن الفلسطينيين ولا وطن لهم سواه، وأن للفلسطينيين في أرضهم ووطنهم حقوقا فردية ووطنية جماعية، وإن أي حل عادل لا بد وان يتأسس على مبدئين: الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير على أرض آبائه وأجداده أسوة بكل شعوب العالم، وحق الفرد الفلسطيني بكامل حقوقه المتساوية كإنسان دون تمييز على أساس العرق او الدين أو الجنس، وبما ينسجم كليا مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
وفي هذه المعركة، وكما دلت التجربة فأن لحركة مقاطعة إسرائيل المعروفة باسم ال BDSالدولية، أهمية كبيرة جدا. وينسجم الاهتمام بدعم وتبني هذه الحركة مع ضرورة استعادة الخطاب السياسي الفلسطيني لتأثيره، عبر تكريس التعامل مع إسرائيل كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية تمثل سياسة ابارتهايد جديد، يجب ان يقاطع ويعزل وتفرض عليه عقوبات دولية كما تم مع جنوب افريقيا العنصرية سابقا. ولذا من الضروري دعم ال BDS والعمل على انخراط أوسع للنشطاء الفلسطينيين فيها، والعمل تعميمها دوليا وعربيا، وكسب المزيد من الفئات الداعمة لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها.
أما على الصعيد العربي، فمن الأهمية بمكان أن تولي القيادة الفلسطينية وكل القوى السياسية اهتماما أكبر بالساحة العربية وبالعلاقة مع القوى الشعبية العربية، وأن تتم دعوة الجماهير العربية بقيادة قواها الحية للتضامن ونصرة الشعب الفلسطيني ورفض التطبيع. كما ولا بد الطلب من الدول العربية كافة ان تعلن موقفا واضحا رافضا للصفقة، واتخاذ إجراءات عملية بحق من يؤيد صفقة القرن ومن ينقل سفارة بلاده الى القدس.
ومن الجدير بالتنويه هنا، إلى ان للموقف الأردني الرسمي والشعبي دورا كبيرا في تعزيز مقومات افشال صفقة القرن. وعليه فإنه من الضروري إيلاء أهمية كبيرة لتوفير توافق ما بين الموقفين الأردني والفلسطيني بخاصة حتى تبدد المخاوف والاوهام التي تروج لإعادة النظر بفك الارتباط بالضفة والعودة لما يسمى بالخيار الأردني، مع التنبه لضرورة بحث الخطوات العملية من قبل الجانبين لتحصين الجبهتين الداخليتين والتأكيد على الموقف الموحد للشعبين في رفض صفقة القرن ومواجهة أي محاولات للعب على التناقضات او توفير أجواء وتحركات لتهيئة الظروف لإنفاذ الصفقة. كما ولا بد من أن يولى اهتماما خاصا للموقف المصري، الذي يبدو متساوقا مع الخطة المطروحة، حيث دعا لدراسة الصفقة والتفاوض مع الإسرائيليين على أساسها، ولذا لا بد من الحرص على احداث تغيير في الموقف المصري لصالح رفض صفقة القرن، وبحيث تنسيق الجهود مع مصر الشقيقة للحفاظ على المصالح المشتركة وعدم الانزلاق الى توتير الأجواء بين الجانبين.
واما على الصعيد الدولي فإن الواجب يقتضي استمرار العمل في الهيئات والمحافل الدولية بزخم أعلى لاستصدار القرارات المؤكدة لحقوق شعبنا الوطنية المشروعة غير القابلة للتصرف، ولكسب المزيد من الاعترافات بدولة فلسطين وتأييد حل الدولتين، واستمرار مطالبة الأمم المتحدة بضرورة الالتزام بواجباتها القانونية والأخلاقية تجاه ضمان احترام القانون الدولي وتفعيل آليات الالزام الدولية لتطبيق قراراتها، بما في ذلك القرارات التي تؤكد عدم شرعية الاحتلال والاستيطان الاستعماري والحصار الإسرائيلي، وعدم شرعية أي تعديلات على الوضع الخاص لمدينة القدس، واستمرار العمل للمطالبة بالتحقيق بجرائم الاحتلال ومحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين في محكمة الجنايات الدولية، وضرورة توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني. ومن المهم هنا ان يجري بذل المزيد من الجهد للحفاظ على استمرار الموقف الأوروبي المتمسك بحل الدولتين، وان يجري الاهتمام ايضا بالموقف الروسي، الذي بدأ يتحدث عن دراسة الخطة المقترحة، وبحيث يجري التأكيد دون لبس على ثبات الموقف الروسي في دعم الحق الفلسطيني بإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران عام 1967.
وختاما، أؤكد بان الشعب الفلسطيني قد واجه تاريخيا مخططات ومشاريع ومؤامرات كثيرة لتصفية قضيته الوطنية، واستطاع أن يفشلها، وباستطاعته هذه المرة ان يتمكن من احباط صفقة القرن، فهي ليست قدرا محتوما، حسب القيادة الفلسطينية وكل القوى السياسية والشعبية أن تكون على قلب رجل واحد، موحدة الموقف والاستراتيجية والبرنامج والأدوات والإرادة والعمل. وهذه المعركة محك وامتحان، والتاريخ لا يرحم. وقل اعملوا...!!!
*مدير عام معهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي