الثلاثاء: 26/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

من الساحل السوري إلى روما...

نشر بتاريخ: 04/04/2020 ( آخر تحديث: 08/04/2020 الساعة: 11:03 )

الكاتب: محمد نعيم فرحات

تنويه:

"الى ساندرو وميكلا واصدقاء اخرين..."

رغم الألم والتهديد الذي يمثله فيروس كورونا أثناء تجوله في إرجاء العالم،فانه  جدير ببعض الشكر وببعض الثناء من الناحية الوجودية والتاريخية، على متغيرات كثيرة أحدثها في وعي الناس في كل اتجاه: من الأرض  حتى السماء ، ومن هشاشة سؤال الحياة  إلى صلابة  الموت كمصير منتظر، ودق أجراس مفاهيم  سلامة البشرية  والعدالة والظلم والأنانية والنجاح والفشل، وصالح الناس مع عتباتهم الأولى وما فيها من أمان، وكشف لهم ضيق الشارع  وفساحة البيت وسعة حظر التجول، وهو المسئول عن أوضاع تنشأ، ما كان بمقدور حركات كبرى أن تحدثها.

***

إن البحر الأبيض المتوسط ليس بحرا تقع على حوافه بلدانا تقيم خلفها أخرى كامتداد حيوي للحوض، أو بحر سبق له أن شكل مركزية العالم ..، إنه الفضاء الأهم في مسرح العالم المحكوم  بحس خاص ،ورغم الصراعات والتنافس والاختلافات المتغيرة والمتنقلة التي شهدها حوض المتوسط، بقيت هناك علاقات الجوار المتواصلة والقابلة للاشتغال من جديد، أثناء  وبعد كل  حدث.

وتاريخ مجتمعات حوض البحر الأبيض المتوسط يشكل  حقلا خصبا لدراسة أبعاد مهمة في سلوك الامبرطوريات  وفي ثقافتها، وإدراك قوة الجيرة وأهمية التعاون في تحقيق المصالح والغايات، حتى في وضع الصراعات والتباينات والتنافس بين الدول التي تناوبت على القوة والهيمنة فيه، يمكن القول بان سليقة شعوبه ووعيها كان  اقل استعدادا للعدائية من سلوك الدول والقادة فيه، وكان بمقدور ثقافة الجيرة والتشارك والمصالح المتبادلة، أن تلعب دورا في تحويل رواسب الحروب والعداوات لشيء أخر مختلف، وقابل للتجاوز.

في شرق المتوسط وامتداداته يقع العرب والإسلام والمسيحية الشرقية واليهودية والبوذية والكنفوشوسية بإثقالها ومعانيها، وخلفها مباشرة يقع الجانب الشرقي من اوراسيا  في أعالي العالم بامتداد يترامى، وهناك الفرس والترك والهندوس وأمم العرق الأصفر،وفي جنوبه العرب والبربر وخلفهم أفريقيا ومظالمها  وإسرارها، أي، العالم كما تعود الذهن البشري  على تصوره،قبل اختطاف صورته  وثرواته ومعانيه، والذهاب بها غربا إلى ما وراء بحر الظلمات –المحيط الأطلسي- كما سماه العرب قبل اكتشاف أمريكا!!

وفي شمال المتوسط، تشكيل من القوميات: الرومان والاغريق والجرمان والأسبان  والإفرنج، يقع خلفهم شمالا وغربا:  الهكسوس والسكسون ويرابط على شرقهم: السلاف واو راسيا الغربية.

بين ضفتي المتوسط  تقوم جيرة بقوة الجغرافيا وديكتاتوريتها ، كان فيها مشتركات ومصالح وحروب وصراعات، ولحظات مضيئة وأخرى معتمة، وهذه من احتمالات التاريخ، غير أن مجتمعات البحر المتوسط كانت أفضل من دولهم وقادتهم فيما خص نزعات العداء، ولم تفقد الحس المتوسطي، ولم يكن بمقدوره النزاعات والصراعات  أن تقطع خطوط التجار والحجاج والعباد والمغامرين والنساك والرحالة والمفكرين المفتونين  بالفضاء الأخر وبأسراره والروابط والتبادلات والتفاهمات والتشارك، وفي كثير من الأحيان جرى ذلك على عين الحروب ومشعليها ومن وراء ظهورهم معا، وحتى بعد أن كانت الحروب تضع أوزارها استعدادا لأخرى.

إلا أن العصور الحديثة قد شهدت متغيرين  أنتجا وقائع ترتب عنها أخطر عملية تشويه للروابط وحتى لشكل الصراعات في حوض المتوسط وباقي العالم.

 الأول: تمثل في الحركة الاستعمارية الانجلوسكسونية والفرنسية طالت أربعة أرجاء الأرض، بمشاركة اسبانية برتغالية اتجهت غربا، ومشاركة ايطاليه محدودة القدرة والطاقة  ذهبت جنوبا، وكان استعمار ليبيا وإعدام عمر المختار مثالها الأسوأ. وقد أنتجت الحركة استعمارية الغربية عموما  أسوء نموذج في التاريخ على الغزو والاستباحة والبطش، وتركت بذمة الزمن موروثا بالغ البشاعة من الهيمنة والإذلال والاستغلال والنهب وسفك ثروات شعوب أخرى وثقافاتهم وحياتهم معا، وفي لحظة تاريخية  تم كسر حالة الاستعمار الغربي المباشر على يد المغلوبين أنفسهم، لكن نفوذ الغرب وطاقته على التدخل السلبي وأشكالها الجديدة لم يتم كسرها.

عادت أوروبا الانجلو سكسونية والفرنسية والاسبانية والايطالية من الاستعمار المباشر  لتتواجه(السكسون والفرنسيين  تحديدا) مع ألمانيا الهتلرية على  نحو بالغ الدموية  . غير أن أوروبا لم تستخلص العبرة  من حروبها الممتدة،وفشلت الحرب في تعليم الطغاة في الغرب درس السلام والتعاون وإعادة حياة العالم إلى سياقات معقولة على قاعدة المصالح في كنف التعاون، كخيار انتهجه الوعي والخيال الصيني الروس وشركائه الآخرين،  كبديل يحكم علاقة العالم مع بعضه البعض.

أما المتغير الثاني فقد ترتب عن دخول العامل الانجلو سكسوني في نموذجه الأمريكي بقوة في حياة العالم وحوض المتوسط منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبدل أن يكون ذلك مدعاة لبناء نموذج متفوق توفرت له كل الإمكانيات كي يكون كذلك ، إلا انه وبسبب من وجود شوائب في طبيعته وخصائصه و فقدانه لرؤية مرموقة وأخلاقية مناسبة وخلل في الوعي الذي بناه لنفسه وللعالم،  أعطى أفدح النماذج الإمبراطورية في التاريخ وأكثرها  فجاجة.وكان الأسوأ  في فهمه للهيمنة وفي ممارستها ، وبينما فشل في إنتاج  ذاكرة روما أو غرناطة آو  الإسكندرية أو قرطاج،إلا أنه كان بارعا في إنتاج المقابر الحقيقية والمجازية والكراهية والامتهان،والاستغلال الأرعن والأنانية الفاجرة، وإدعاء التفوق المريض الذي بحث عن شفاء لنفسه، بإدعاء تكليف من سماء لا يعرف الطرقات السوية إليها ، وبدل أن تبني أمريكا  إمبراطورية  تدوم بدورها وبقوة نموذجها  وبحاجة العالم إليها، تمكنت بنجاح باهر من بناء إمبراطورية مؤسفة وكئيبة.  بلا ذاكرة جديرة بالاستعادة والتذكر ولا حس تاريخي ولا خيال مرموق،ولم يكن عندها استعداد لئيما استراحة للمسدس على ما قال محمود درويش يوما، ، ومن لم يطله سيفها، سفكت مصالحة وكرامته وروحة بالإذلال والاستباحة والتفقير،وضحايا هذه الممارسات هم أكثر عددا من ضحايا السيف الغاشم .

وفي سياق  زلزلة غير مسبوقة  حصلت لحوض البحر المتوسط  وجغرافيته وحياة سكانه والعالم، جرى ترتيب اخطر الأحداث في القرن العشرين . المتمثل في الدور الحاسم للتيار المهيمن في الغرب  في إقامة إسرائيل ، الذي يعتبره ديفيد فرومكين ذروة الاعتداء  الغربي على الشرق.

إن لعبة الهيمنة الغربية في فصولها المتعددة في حوض البحر المتوسط وما يعنيه  في حياة العالم واستقراره. قد استندت  لوعي خبيث و لئيم  ومريض تحكم  في إستراتيجيته بشأن المنطقة واستقرارها وحقوق شعوبها، واللعبة هنا لم تكن تجري على الأرض ومع التاريخ والبشر  فقط ،بل لقد انطوت على تجرؤ غير مسبوق على السماء ذاتها وزعزعة كبيرة لأبجدية الألواح الأساسية  التي تحكم التاريخ والمتوسط والعالم  وقوانينها .

في هذا السياق كان سوء الفهم المقدس بمؤسساته وخطاباته وممارساته وتعبيراته الشاملة  الذي بنته أوساط غربية بعينها إزاء شعوب شرق المتوسط وجنوبه وباقي العالم  وحقوقها وثقافتها ومصائرها يبلغ ذروته القصوى في الفجور، وقد تحول  سوء الفهم المقدس لراسب ثقافي استراتيجي تلفع بمقولات العهد القديم وخيالاته، وأنتج شرقا متخيلا لا يشبه الشرق بشحمة ولحمه، وهي مسألة فككها على نحو نبيه وعميق ادوارد سعيد في أطروحته عن الاستشراق، وقدما جرى إحلال الشرق المتخيل محل الشرق الحقيقي، وعلى هذا الأساس جرى بناء موروث كامل من الاستراتيجيات والسياسات والمشاريع والممارسات والتصورات . وكان لدى سوء الفهم أيضا  القوة والقدرة  والنفوذ  لدحر ومحاصرة ومنع ، أي فهم أو وعي مخالف لذلك أو مختلف عنه، وفي مستوى أخر كان دهائه وتخريبه عاليا، وهو يزرع ويبني  ويرعي  تركيبات سياسية وزعامات  في ثنايا العالم العربي والإسلامي وباقي العالم،  كاستثمار استراتيجي يساعده على تحقيق غاياته، وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد،  مغتنما  قابلية ذات بعد مرضي عند عرب ومسلمين وغيرهم، للاختراق والتواطؤ على الذات بلؤم وبغباء وباستسلام مزرٍ.

***

في لحظة فارقة يمر بها العالم  يحتاج  فهم الغرب المعاصر من طرف المعنيين بذلك لمقاربة  أخرى، إذ  يمكن الحديث عن وجود غربيين أو أكثر ، الغرب اللئيم والعدائي، والغرب العاقل والمعني بالانفتاح على الأخر وبالتعاون، والذي قد يكون مستعدا لإعادة النظر في تجربته واستخلاص عبرها على نحو آو أخر، والبحث عن صيغ معقولة للتحقق في عالم مستقر متعاون معافى أخلاقيا  وسلمي.

الغرب العدائي مهيمن وحاكم ومدجج بالخطابات وبالغرائز السيئة ولا يحتاج لرسم خارطة له ، هو يفصح عن نفسه علنا وعلى رؤؤس الأشهاد، ويخنق  ويحاصر أي صوت  يخرج عن وصاياه الإيديولوجية حتى لو كان  صادرا عن فرد لا حول له ولا قوة . لكنه في نفس الوقت   غرب متوتر ومأزوم ويشهد عملية غل ليده الطويلة يوما تلو أخر، على يد معنيين صاعدين ليسوا قليل الشأن  يمتدون على كل ضفاف طريق الحرير من الصين إلى الحافة الشرقية للبحر المتوسط فاليمن جنوبا وبعض أمريكا اللاتينية الواقعة شرق المحيط الهادي كي لا نقول غرب الأطلسي ، معهم  معنيين ومستفيدين كثر لا يعلنون عن أنفسهم في أربعة أرجاء العالم، بما في ذلك في ثنايا الغرب نفسه ،  ويتوزعون على مستوى كتل سياسية  وأوساط اجتماعية  وثقافية واقتصادية  واسعة ،كما انه غرب يعاني من أزمة بنيوية شاملة  في نموذجه الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي، الذي وظف منجزاته الكبرى كي تشتغل عند جانبه المتوحش وجعلها ضحية له، بما يعيد الاعتبار وينفض الغبار عن المقولة الماركسية كيف أن الرأسمالية ستأكل بعضها بعضا.

وفي سياق  الضمور في الدور والحضور والقدرة الذي يعيشه نمط الهيمنة الغربية ، ورغم  ما ينطوي عليه من قوة ومن بدائل  إلا أن علته تتناسب طرديا مع قوته وهي بصدد التغلب عليها. وبعد فوات الأوان قد يعود بعض الوعي الغربي كي يقرأ من جديد في كتاب التاريخ المسطور، كيف أن  الامبرطوريات التي بنت حضورها على التعسف الشامل  واستنزاف الآخرين وكل أشكال الموارد، بما في ذلك الموارد الأخلاقية صارت بدورها عصفا مأكولا.

أما الغرب العاقل، المعنى بعالم أكثر سلمية وتوازنا كضرورة وجودية وليس كضرورة أخلاقية فحسب، فإن خارطته تتبلور وسط ظروف صعبه لكنها تتشكل، والضرورة والظروف ستدفعه للإفصاح عن نفسه بوضوح اكبر، وملاقاة  تيار عالمي  غير غربي يسعى في هذا الاتجاه، وربما تقدم  الآثار النفسية والثقافية والسياسية لفيروس كورونا خدمة مهمة في هذا الصدد.

***

غير أن كلاما عن ايطاليا بالذات وعن روابطها بشرق المتوسط وجنوبه وباللحظة الدرامية التي يمر بها العالم  يفرض نفسه.

ايطاليا التي كانت يوما طويلا في التاريخ البشري الامبرطورية المركزية في العالم، التي هيمنت على حوض الأبيض المتوسط لقرون خلت ، تعرف معنى الامبرطوريات وثقافتها وأدوارها ودلالاتها وجبروتها المكلف لغيرها ولها أيضا. تعاملت مع الشرق كحقل عمل استراتيجي لا بد منه لكل امبرطورية في التاريخ، لكنها تعرفت عليه كفضاء روحي  فريد أيضا، حطت في جغرافيته ووجدانه رسالات السماء العالية، ومنذ ذلك الزمن بنت ايطاليا روابطها مع الشرق بتدخل أساسي من العامل الروحي.  ومن الجدير بالتذكر أن ست عائلات سورية كانت  تنتج الأباطرة وترسلهم لروما كي يحكموا العالم من هناك، الأمر الذي يدل  مع غيره ،على أنها كانت امبرطورية تتسع وليست مغلقة.

وعندما ساح تلامذة السيد المسيح في العالم ، كان هناك مسار بالغ الدلالة لبولس الرسول ، بولس الذي غادر فلسطين إلى سوريا ليتعمد ويتزود،بمعانيٍ تاريخية وثقافية  ورمزية. ومن  الساحل السوري ركب البحر باتجاه روما،فلا ضل في النوايا ولا البحر ضلله وأخطأ فأفضى به إلى البر الانجليزي مثلا .لقد حط حيث شاء وشاءت له الأقدار ، في روما التي أسس فيها  وأرسى المركز الروحي للمسيحية الغربية الذي سار عالميا.

وعندما حاصرت روما مملكة تدمر العظمى وتمكنت منها، كان  في الخيال الامبرطوري لـ"اورليانس" متسع كي يأخذ زنوبيا ملكة تدمر التي جرحته في معارك حمص وكانت تنوي الاستيلاء على امبرطوريته وعرش روما، أسيرة في موكب مهيب مقيدة اليدين  بسلاسل من ذهب، حيث كان التكريم والاعتراف ببسالة امرأة وجدارة ملكة يغطى على الكسيرة والمهانة التي كانت تعيشها .ولا يكرم أسيرا بمرتبة ملك طموح إلا صاحب ثقافة تعرف معنى التكريم والاعتراف، وهذا الأمر ليس في متناول كل  جبار.

 وبعد ألفين ومأتي عام على الأقل من حصار القائد القرطاجي حنبعل سليل الساحل السوري وأبن قرطاج العالية في الزمن والتاريخ لروما مدة خمسة عشر عاما ، وقفت جيوش ايطاليا الحديثة من مختلف الصنوف أمام  نصبه ومقامه  لتؤدي التحية له كقائد عظيم.

وفي سيرة اغتصاب فلسطين التي اشتركت فيها القوى الغربية الغاشمة كل في نحوها ، لا نعثر على دور ايطالي ملموس وحاسم في هذا الصدد، لكننا نعثر على حس ايطالي متميز في التضامن مع الفلسطينيين وأسئلتهم عن الحرية والانعتاق وسعيهم لامتلاك المصير.وهناك تاريخ من التضامن والتعاطف والانفعال الايطالي في صفوف الناس وفي صفوف قوى مهمة في  النخبة السياسة أيضا،مثلما  كان الحال مع الحزب الشيوعي الايطالي منذ أيام  الزعيم إنريكو برلينغوير وقوى أخرى، وبرونو كراكسي رئيس وزراء ايطاليا الأسبق، وغيرهم من نواب ووجوه وعموم شعب.  بما يجري في فلسطين على نحو أعمق وأوسع من غيره في السياقات الأوروبية الأخرى. ولن ينسى احد أللفتة بالغة الدلالة، عندما أهدت ايطاليا فوزها بكاس العالم عام 1982 للفلسطينيين، كشكل رمزي من إشكال التضامن معهم في لحظة درامية حرجة،  إبان حصار بيروت  لطردهم باتجاه البحر والفراغ.

***

وبضوء ما تعيشه ايطاليا اليوم على نحو خاص والعالم على نحو شامل، جراء هجوم فيروس كورونا الغاشم على صحة الناس وعلى حياتهم وعلى وعيهم معا، وبغض النظر عما إذا كان  فيروس كورونا طبيعيا أم أنتجه عقل مجرم  أم الاحتمالين معا ، فإنه يتشكل  كتهديد خطر على الحياة وما يتطلبه ذلك طبيا من إجراءات ومعالجات، غير أن للأمر وجه أخر ، هو وجه سياسي  ثقافي يرتبط بكيفيات تصرف وعي يكشف عن معدن الشعوب ودولها في معالجته من جهة، وفي بروز  مساعدة الآخرين من جهة أخرى كقيمة  تقول الكثير.

ويدين العالم كثيرا لفيروس كورنا على أكثر من صعيد، لأنه عرى ادعاءات كثيرين (في الغرب خصوصا ) وأثبت مسؤولية آخرين ، كالصين وروسيا وكوبا وإيران.وكشف كورونا عن وجود فيروسات أخلاقية وسياسية اشد فتكا وقتلا منه واقل عدالة بكثير. ويتولى كورونا بالقوة فرز العالم لمحورين، ويطرح على الوعي الفردي أسئلة بسيطة ترتقي إلى حد السؤال عن الوجود برمته ، وكيف أن فيروسا مجهول النسب، يمنع التجول في العالم برمته ويرمي جبروت المتجبرين وراء ظهره.

واجهت الصين التحدي وردت الهجوم البيولوجي على أعقابه، بطريقة منظمة ومنضبطة وناجعة ، وبلا هلع ولا خوف، وبالكثير من التحسب والأخذ بالأسباب ، وظهرت الدولة الصارمة كدولة مسئولة قادرة يحدوها شعب يعرف معنى الالتزام.وكان لإيران تجربة لافته في هذا الصدد، قدرة على الحشد والتصرف والتّحوط وكفاءة في تعاطي  الجهاز الصحي وفي الإجراءات  والمناعة الثقافية. ، بينما كانت روسيا تعاين وترى وتتأهب وتساعد وتغمز من قناة من أنتجوا الفيروس وقاموا بتعميمه. 

وعندما وقعت ايطاليا كضحية لتوسع كورونا وتوجهه غربا، جاءت الصين وروسيا وكوبا من بعيد لمساعدتها، والأمر لا يتعلق بلحظة، بل بحالة سوف تملي الكثير على وعي الطليان و وعي غيرهم.إن شعورا بأهمية بناء نموذج علاقات على أساس التعاطف يجد صداه العميق في العالم كضرورة وكبديل لنمط العلاقات القائم، كما يقول جاك أتالي، الذي كان على مقربة شديدة  من سياسي كانت له علاقة بالخيال مثل فرانسوا ميتران.

***

ككثيرين ممن يقيمون في  الضفاف الشرقية للبحر المتوسط ويعيشون حالة انتشار كورونا أسوة بغيرهم ،كنا نرى ونسمع ما يجري من الصين حتى أمريكا، وكنا نستمع لاستغاثة ايطاليا وشكل مقاومتها  للفيروس، بما أواتيت من قدرات ومن مساعدات ومن غناء ونشيد.نشيد الشرفات الجماعي وما انطوى عليه من إرادة للحياة والجمال والمقاومة، وإرسال رسالة للذات ووعي العالم يفترض أن يصل صداها بعيدا. وفي خضم هذا النشيد، استمعنا للنائب الايطالي ميكيلي بيراس الذي أوصى الفلسطينيين كشعب منكوب على نحو مستدام بنفسه خيرا  وبكى لأجله.كنا نسمع نشيد شرفات ايطاليا  ونردد معه ما قاله محمود درويش يوما " نيرون مات ولم تمت روما بعينها تقاتل".

غدا سيكون يوما أخر في حياة البشرية ، سيجري فيه نفض الغبار عن  وعي بديل، ها هو يتشكل  بتأثير تطورات كثيرة وعلى وقع كورنا الغامض، وعي يرث الوعي السائد الظالم والبائس ونماذجه الوحشية، التي بنت رفاهيتها ورؤيتها على أساس استنزاف العالم وثروات شعوبه وحقوقهم وحياتهم، واستنزاف الطبيعة من سطح الأرض حتى أعماقها ووصول العدوانية  لطبقة الأوزون التي تحفظ الأمن الوجودي للأرض والحياة الدنيا برمتها.

 والتاريخ كما السماء العالية له تدابيره، وهو مهندس عظيم في تأطير الأحداث والدلالات والأدوار، وربما يدخر لروما  صوتا فارقا يكون له صداه الواسع في الوعي الجديد، روما وارثة الامبرطوريات بما لها وما عليها،والتي تجلس بجمال على هضبة حوض المتوسط الشمالية تطل جنوبا وشرقا وترى قوافل الساعين لعالم جديد آتية من بعيد، من طريق الحرير ومجازاته الكبرى، تدير وجهها  قليلا عن أوروبا التي عودت نفسها على الاستخفاف بالطليان وتنميط استخفافها بهم،  لكنها لا تدير ظهرها، ولا يجب أن تفعل، لأسباب موضوعية عده منها، إن أهم صدى لصوتها يفترض أن  يأتي من هناك، من الوعي المدحور في أعماق أوروبا.

*كاتب وأكاديمي من فلسطين، آمين عام الجمعية العربية لعلم الاجتماع.

ملحق

 صورة عن تحية الجيش الايطالي أمام نصب حنبعل