الكاتب: سمر الدريملي
اسمحوا لي أن أنحاز لبقعة في الكون تتميز عمن حولها وتخالف كل من يحيطها في كل الأزمنة، وفي زمن كورونا.
أشعر أنه انحياز واجب وشرعي.
غزة التي لا يشبهها أحداً، ولا تدور في المجال الفلكي لكوكب الأرض، يحاول العالم بأسره منذ بضعة أشهر أن يدور في مسارها؛ ويقلد قليلاً من ممارساتها التي باتت تأخذ صفة "الديمومة الإجبارية لكل ساكنيها".
اسمحوا لغزة منذ 71 عاماً أن تكون أنانية ولو لمرة واحدة. (العالم بأسره يقلقه ضجيجه الخاص، بينما تحاول غزة أن تشعر بسكينة ودعة من نوع نادر).
غزة المباركة الطيبة الملعونة المحرومة من اكتشاف العالم؛ والبحث والتنقيب وفهم الذات والانفتاح والانعتاق؛ تضحك ساخرة من العويل والتهويل لوقف حركة السفر وشلل مختلف مناحي الحياة؛ والالتزام "المُرفه" للحجر المنزلي الـ"الخمس نجوم" وتأجيل بعض المناسبات والأفراح أو إلغاؤها.
غزة لم تجد حتى الآن تعريفاً يليق بالزمن الخاص بها، ولا يوجد لديها أجندة أو تخطيط لخمس ساعات قادمة، التاريخ والتقويم يُحسب فقط لمعرفة عمر كل منا ومقاربته بذكرى النكبة أو النكسة أو الحرب الماضية أو القادمة.
غزة المفصولة دوماً عن العالم قهراً وظلماً، والخالية من أي ماركة عالمية أو سفارة أجنبية، أفرطت في الاعتذار، وبالغت في الأدب والتأدب مع العالم ورغم ذلك لم ينصفها أحداً!
تضامنت غزة مع كل عين فُقأت في شتى أنحاء العالم ولم يجبر أحد خاطرها في حالة العمى الإجباري والطمس الحضاري الذي فرض عليها.
انشقت عن قيود العبودية والرق منذ الأزل وانكبت تلعق جرحها الذي ينخر في عصبها عام بعد عام دون أن نشتم لجرحها الملتهب سوى رائحة المسك.
أتذكر كم كانت يتيمة غزة في أكثر من عيد في الأرض.. كل من حولها ابتهج إلا هي؛ بل امتدت البهجة إلى من يشاركها ذات الجغرافيا في حدود الخريطة!
وحيدة كانت في ليالي طويلة للسحور تتحسس اللقمة في شعرات دقيقة من النور المتبقي من عتمة مُؤصلة، وتفطر ولهيب المدافع يصعق صحون الطعام على موائدها.. موائد الرحمن.
أذكر كم كانت الحبيبة غزة مهددة بالاغتصاب هذا الصيف، واستباحة تفاصيل حياة الرجال والنساء والأطفال والعجزة وحتى الأموات في المقابر، فجنازير الدبابات العسكرية جاهزة لتسير بلا توقف؛ تفرم لحم الأجنة، وتُهشم العظم والجماجم، وتسحق الوجوه دون أن تترك في كثير من الأحيان معالم للشهداء لتوديعها لآخر مرة.
"فايروس مُعقد.. مُشفر.. مُتغير.. مُتطور.. مُتحول.. عابر للقارات والمحيطات، يُزهق الأرواح.. يشل الأرض.. لا يهمني كل ذلك؛ كل ما يهمني وأفكر به هو كيف أنه فايروس لا يُرى بالبصر رآه العالم أجمع ببصيرته، في حين لم تر أبصارهم عدوى الإخضاع للموت والحرمان والحصار لأجيال غزة منذ أكثر من 71 سنة!
بسبب كورونا نفذت مخازن الذخيرة وأرفف الأسلحة البيضاء في كثير من متاجر دول العالم خوفاً من عمليات السطو والسرقة؛ أما في غزة ففي كل "محنة" نخزن المونة والحبوب في مساحات مغلقة ومعتمة في البيت؛ ونفجر ينابيع الحب والنور والتكافل ما بيننا وكأنها "منحة" للانكشاف والعودة لممارسة ما تمليه علينا فطرتنا السليمة الأصيلة من شعائر.
هل كورونا دفعت العالم ليدرك ماذا يعني أن يجدد "الغزاوي" جواز سفره كل ما انتهى، ويقوم بفعل ذلك لسنوات وعقود أملاً في سفر قريب وما هو إلا حصار شديد وتضييق جديد؛ بل قد يموت ابن غزة ولم تُختم ورقة واحدة طيلة حياته على أي من جوازات سفره العنيدة وغير منتهية الصلاحية!
أهل غزة لا يعلمون كثيراً بتداعيات "كورونا" على البورصة العالمية واحتياطي المال، وسياسات سد العجز، وآثار الوباء على الحركة الملاحية والنقل والطيران الأمريكي والخليجي والشرق أوسطي، وعمليات تقليل التكرير المحلية للنفط في بعض البلدان لتعزيز تصدير الخام، بل لعل عمليات التكرير الوحيدة التي نعرفها بغزة هي عمليات تكرير فضلاتنا في بحرنا المسلوب.
البلايين والملايين والمليارات والأرقام الفلكية والخرافية لخسائر الأموال لا يعرفها أهل غزة أو يتخيلونها.. نعرف هذه الأرقام فقط في حجم وعدد وتعداد تريليونات الخلايا العصبية التي يسكنها الحزن المُعتق في قلب أم الشهيد وحبيبة الجريح وابنة الأسير؛ أما أكثر من ذلك فلا نعرف فكل منا له راتبه المتواضع الذي مهما بلغ عدد أرقامه فلن يتجاوز في قراءته الأربع خانات.
أتدري أيها العالم الأبله هناك في غزة من لم يسمعوا ولا يريدوا أن يسمعوا عن هذا الفايروس، ولم يستجيبوا للتحذيرات العالمية ودق ناقوس الخطر في الأرض، وكثير منهم لازالوا يحتمون بكرامات الأولياء الطيبين، والتبرك بما أخذوه عن السلف الصالحين؛ الضاربة آثارهم في تاريخ غزة العريق.
أعتقد أن كل أجنحة الملائكة التي انبثقت من قلوب أطباء العالم في مواجهة جائحة كورونا أصل منبتها المسعفة الشهيدة.. بنت كل بيت في قطاع غزة "رزان النجار".
أتساءل هنا لماذا لم تكن الشهيدة رزان أيقونة "جوجل" والعالم الحر كما أصبح الأطباء في زمن كورونا؟! إن كان هناك عالم حر أصلاً؟!
ولماذا هذا الضجيج في الأرض بسبب أرقام الموتى؟!
في مراحل من الزمن كانت أرقام الموتى بغزة مرعبة حتى أن أُسر بأكلمها كانت تُشطب من السجل المدني بنخزة صاروخ واحد بأقل من ثانية!
وأتعجب لما هذه المشاعر الجياشة في دفن الموتى دون وداع؟!
في غزة الأم كانت تترك قبر طفلها مفتوحاً لتقوم بوضع طفلها الآخر فوقه بعد ساعات.. وهي هنا لا تودع أي منهما بل كانت تحيا بقية العمر ميتة تستمد منهما النبض كونهم "أحياء عند ربهم يُرزقون".
إن كان كل الضجيج الحالي دفاعاً عن البشرية؛ وخوفاً على حياة الانسان، فهنا بات الفرق "الحقير" جلياً بين موت إنسان وإنسان في هذه الأرض، كما بات الفرق في ردة الفعل اتجاه إزهاق روح هنا أو هناك أيضاً منكشف ورخيص.
أهي طريقة الموت؟ أم تصنيف الميت؟ أم بأي أرض ماتت هذه النفس؟
تعددت الأسباب والموت واحد.. لكن يكاد الآن يكون سبب الموت واحد، لكن أنواع الموتى هم من اختلفوا!
مع انحيازي وتأكيدي في النهاية على أن أمواتنا من غزة هم أساس الحياة السامية للبشرية جمعاء، وكثير منهم أُزهقت أرواحهم لأنهم خُيروا غصباً عنهم بين أمرين إما الموت أو الموت.