الكاتب: د.حسن عبدالله
الى الصديق الكاتب والناقد إبراهيم جوهر الذي كتب وصيته ليقتدي بها الناس ما بعد كورونا.
وصايانا يا صديقي حبر وعرق ومواقف وأعصاب مشتعلة وذكريات بتفاصيل لا حدود لها. وصيانا يا صديقي تلك الكتب التي حصلنا عليها من المعارض التي كانت تقام في نهاية كل عام دراسي في جامعة بيت لحم، حيث كنا نقتطع القرش من المصروف اليومي ونوفره لنشتري كتاباً، نهجم على صفحاته قراءة وتحليلاً واستيعاباً، ونسارع في اليوم التالي إلى أصدقائنا، نلخص ما قرأنا ونعيد ما حفظنا شعراً أو مقولات فلسفية.
وصيانا يا إبراهيم صداقة لم تبرد أو تتجمد، بسبب صقيع السنين، وأشواك المرحلة، وطعن الأحلام، وابتزاز المشاعر، وتشويه الجمال، وتغيير مفاتيح الناس، وقلب ترتيب اولوياتهم، ليصبح النبل عند نسبة كبيرة منهم في المرتبة الأخيرة أو بلا مرتبة.وصايانا ياصديقي كتبنا ومسودات دفاترنا، وأقلامنا التي لم تنكسر، وقلوبنا النابضة في نصوصنا بعد رحيلنا .
وصيانا أيها الكاتب المهموم من الرأس حتى أخمص القدم، مطالبنا البسيطة جداً حينما كنا طلبة، ومطالبنا القنوعة في هذه المرحلة، لأننا باختصار شديد، قد عرفنا كيف نعيش بلا أفواه شرهة أو أجهزة هضمية تطحن الأخضر واليابس.
بقينا يا إبراهيم وبعد هذه السنوات الطوال نحلم كثيراً، ونأكل قليلاً، وننام بشكل متقطع، ونكتب ... نكتب وكأننا في سباق مع أقلامنا، في سباق مع أنفسنا، لكي نبقي على رصيد من الأوراق المكتوبة بعناية وصدق، كجزء مهم من وصايانا.
وصلتني وصيتك يا صديقي، أملاً ودمعاً ووجعاً وحلماً وشوقاً، وصلتني رغبتك في مغادرة هذه الدنيا محمولاً على كتفي الأخلاق، لتغيب جسداً وتبقى كلمة طيبة يتناقلها الناس .
وما لم يكتب في وصيتك يا صديقي اسمح لي أن أضيفه كشهادة من صديق: - لم يسجل في تاريخك يا إبراهيم أي سلوك خاطىء لا مالياً أو اجتماعياً أو اخلاقياً. لقد انسجمت مع نفسك، واتبعت في سنوات الجامعة وما بعدها بسنتين أو ثلاث، منهجاً أيدولوجياً اشتراكياً، ثم غيرت قناعاتك، وأصبحت تعبر عن تدينك المنفتح بطريقة وسطية هادئة، لكن جوهرك الإنساني بقي هو هو.
حينما كنا نلتقي ولو بعد سنوات لم أجد صعوبة في النفاذ إلى نقاء روحك وصفاء سريرتك. بقيت أنت، أما الذي تغير فهو فقط أسلوب تعبيرك عن قناعاتك. شكراً لأنك حافظت على مرآة ذاتك تعكس جمال روحك، فهناك من تغيروا وانتقلوا إلى الضد، وصارت مراياهم الجشع ليس إلا.عرفتك متواضعاً عفيف النفس عندما كنت اشتراكياً، وبقيت كذلك بعد أن ملأت روحك بمنهج إيماني محروس بالاعتدال، فالقناعات يجب أن تحترم بكل أنواعها ومسمياتها إذا أردنا أن نرسخ حياة تعددية تسودها حرية الاعتقاد بمنأى عند دمغ الناس كل الناس بالختم ذاته.وختاماً اسمح لي أن أضع قلمي جانبا ًلأطبع قبلة احترام على جبينك الوضاء، وقبلة أخرى على خد روحك.
وبالانتقال من وصية جوهر الى وصية الشاعر الدكتور معين جبر الذي قرأت وصيته منتظرا قصيدته الجديدة.
سامح الله صديقنا المشترك إبراهيم جوهر الذي هو وراء مشروع كتابة الوصايا، حيث غمرني وأنا أقرأ وصيته بثنائية حزن وفرح. أدمت قلبي فكرة رحيله الافتراضي من جهة، وفرحت لتداعيات أطلقت في داخلي مجدداً بساتين الذكريات المبهجة من جهة ثانية.
أما وصيتك يا صديقي معين، فقد أناخت أطنان الحزن على صدري، أزحت ما استطعت إزاحته من الركام الحزين، بعد أن تولت ذاكرتي مهمة استدعاء بعض المواقف المفرحة المشتركة بيننا .ثنائية أخرى من حزن وفرح تجاذبتني وأنا أغوص في سطور ما كتبت وتغوص بدورها في داخلي، متسائلاً:- ما أوسع الحياة وما أضيقها ؟! واسعة رحبة ممتعة مفتوحة الأبواب والشبابيك والأدمغة وفضاءات الخيال، وتحديداً حينما كنا شباباً في المرحلة الجامعية، إذ قادنا الحلم لنتخيل أن كل شيء تحمله السنوات المقبلة سيكون مطرزاً بالجمال، الرفاه، الحرية، الأمن، في المجتمع الأنقى والأبهى والأغنى !!
وكنا كلما تقدم بنا العمر سنة بعد سنة، تصغر هذه المفاهيم الذهنية الخيالية، أمام أعيننا في التطبيق، إلى أن أصبحت في مرحلتنا المعاشة من شدة صغرها تكاد لاتراها العين المجردة ولا يستدرجها الخيال. ما الذي جرى؟ هل كانت أحلامنا كاذبة ؟ هل كنا معلقين في الهواء لا علاقة لنا بالحقيقة؟ ما الذي تغير نحن أم مجتمعنا أم العرب أم العالم بأسره ؟ ولماذا صغرت تجسيدات الفكرة؟
أسئلة كثيرة صادمة، بيد أن الإجابة عنها تبرىء ساحتنا، فلم يكن العيب في أحلامنا ولا في أحصنة الخيال، ولا في محاولاتنا الشعرية أو القصصية الأولى. لم يكن العيب في الندوات والمهرجانات التي عقدناها وأقمناها في تلك القاعة التي استوعبت أنشطتنا ولم تتسع لعنفواننا. لم يكن العيب في أقلامنا أو جوعنا أو خواء جيوبنا، ولم يكن في رغيفنا المشترك أوفي السيجارة التي تناقلناها من يد إلى أخرى، وإنما في سلسلة الأخطاء الكبرى والصغرى التي اعترت الأداء الفلسطيني العام، ما أدمى جسد وروح المرحلة حتى انفجر نزيفها وفاض في الشوارع والساحات. وتجسد العيب كذلك في عالم ترك نفسة في مهب ريح لعبة المصالح، وهذه اللعبة جعلت الكبار أسياد الغابة، أما الصغار فصاروا هدفاً للافتراس والانقضاض.
لم يكن العيب إذاً في قصيدتك الحالمة، الشقية، المشاكسة، الخشنة تارة والرومانسية الناعمة حد خدر الاستلقاء تارة أخرى .قصيدة ما انفكت تبحث عن لونها، ظلها، بصماتها. قصيدة الحنجرة أواخر السبعينيات عندما كنت تلقيها في المهرجانات والمناسبات الوطنية، وقصيدة غزل ناعمة مخملية انسجمت مع روحك العاطفية الشباببية. لم يكن العيب في قصة إبراهيم، بل في الأستاذ الذي قرأها أول مرة دون أن يفهمها، وبالتالي لم يحفزه، ولم يدعم موهبته، ليختار لاحقا طريق تحفيز نفسه بنفسه، ولوترك الأمر للأستاذ المذكور لما صار إبراهيم الذي صاره بعد سنوات طوال من الكد والتعب والتجريب، ليشكل في المحصلة النهائية ملامح وقسمات مشروعه الثقافي الذي لم يكتمل بعد.
استعجال كتابة الوصية، ربما استعجال للرحيل، ومرد ذلك أن صاحب الفكرة إبراهيم مل الكذب والنفاق والانتظار، مل تأخر تحقيق الحلم. أنهكه المرض وأعياه الصلب في الساحات، رغم أن قلمه لم يتوقف يوماً عن النزيف .استعجل إبراهيم الرحيل، وربما نسي للحظات أن مشروعه ما زال مفتوح الأبواب على حاكورته التي تحتاج فعل محراثه .
لا بأس مسموح لإبراهيم، مسموح لك يا معين ... مسموح لكما أن تكتبا وصيتيكما، لكن من غير المسموح أن تعتبرا الوصيتين وثيقتين نهائيتين. أولاً لأنهما لم تكتملا بعد. وثانياً أن هناك ما ينبغي إضافته إلى الوصيتين كتتويج لما ستنجزانه في السنوات المقبلة. وبشأن ما ورد في وصيتك لابنك، ومطالبتك برفع أمه إلى أعلى درجات الاحترام والتبجيل، فهذا بند ثابت في الوصية حتى لو امتدت الحياة بك طويلاً طويلاً، فالأمهات هن نور الأرض، وبهجة الدنيا، ودموع المسافر، وبلسم الذاكرة، ودفقات القلب، ونوار اللوز، ورائحة الميرميا، وعبق النرجس، ووجع القصيدة، وميادين الفرح، وميثاق شرف الشجاعة، والضمير المتصالح مع قسمه.
هناك ثابت في وصيتك يا معين و لو امتدت بك سنوات العمر إلى مراحل أخرى، هو صدق حرفك، وآهاتك الخارجة من أعماقك كهدير بحر هائج. الثابت أيضا يا صديقي هو قلبك الشجي حتى وأنت تنثر الفرح على الآخرين، فالشجن علامة صدق دامغة، لأنه الحزن الأنيق، وحزن الكبرياء، وحزن الإبداع أيضاً.
الثابت أنك شاعر حينما تكتب القصيدة، وشاعر وأنت تكتب النثر، وشاعر خلال تدريس المساقات العلمية في الجامعة. شاعر في اليقظة والنوم، في الصعود والهبوط، في الانتصارات والانكسارات، شاعر في كل الأوقات والحالات. كما كتبت يوماً في تعليقي على حلقة برنامجي التلفزي "عاشق من فلسطين " التي استضفتك فيها، أنه لولا انشغالك في مرحلة ما بهموم الحياة والأسرة الكبيرة والتدريس، ومن ثم مواصلة تحصيلك العلمي لنيل درجتي الماجستير والدكتوراة، لوصلت قصيدتك إلى كل الدنيا، فهناك شاعر بحجم سميح القاسم، تنبأ لك وأنت في السنة الجامعية الأولى، بأن تباري إبداعاً أهم شعراء العربية، إلا انك سافرت على جناحي طموح لاحدود له، وقررت الجمع بين الشعر والدرجات العلمية العليا، وكان لك ما أردت، فمضيت في رسالتك التعليمية، وتبوأت قصيدتك مكانة مرموقة، من حيث جمال اللغة وعمق المضمون، بعد أن امتطيت حصان الإبداع وانطلقت في مساحات وأمكنة لا حدود لها.
أقول سامح الله إبراهيم جوهر مرتين. الأولى لأن فكرته سببت لي حزناً وأنا أقرأ ما كتبتما فبكيت. والثانية عندما تذكرت ما حققتماه ففرحت، فالبذار الذي استقر في أرض أواخر سبعينيات القرن الماضي، أزهر وأثمر شعراً وقصصاً وروايات وقراءات نقدية.
أزهر وأثمر عطاءً وإبداعاً ومحبة. أما طلبي بمسامحته في المرة الثانية، مرده أن ما حاجتكما للوصية إذاً، ما دمت أوصىيت بما تريد بصدق ذاتك المكتوبة في قصيدتك، وما دام إبراهيم أوصى من خلال ما خطه في قصته وروايته ويومياته المقدسية.
صديقي معين: نحن لا نلتقي سوى في فترات متباعدة، لكننا نلتقي كل يوم في الذكريات وفي مشاريعنا الثقافية التي تتطلب جهدا طويل النفس في الليل والنهار. صحيح أن الوقت لم يسعفنا في السنوات الأخيرة لمزيد من الحوارات، والتعرف أكثر على ما حصله كل منا في الثقافة والتجربة الحياتية العامة في مشواره المنفرد، وقد يكون إبراهيم بفكرته استفز بعض الكامن فينا لنكتب ونتحاور، وهأنذا أكتب اليوم من وحي وصيتك كما كتبت من وحي وصية تجرية إبراهيم. وقبل أن أختم أذكرك بما قاله الشاعر التركي التقدمي ناظم حكمت يوما وهو يقبع في الاعتقال:- أجمل البحار تلك التي لم نزرها بعد، وأجمل الأطفال ذلك الذي لم يولد بعد