الأحد: 02/02/2025 بتوقيت القدس الشريف

كورونا " يحجر زمنه في سجنه و"أم كلثوم " تفتح فضاءات الأزمنة

نشر بتاريخ: 21/04/2020 ( آخر تحديث: 21/04/2020 الساعة: 11:54 )


د٠ حسن عبدالله
في سنوات الجامعة واندفاع الشباب، والسعي إلى التغيير، ورفض ما هو تقليدي، أسوة بما كان سائداً لدى أبناء جيلي في أواخر السبعينيات وسنوات الثمانينيات، لم أكن أحتمل سماع أغنية" أم كلثوم " الطويلة ذات الإيقاع الطربي البطيء. وطلما فضلت الاستماع إلى أغاني عبد الحليم القصيرة ذات الإيقاع الأسرع، وإلى أغاني فيروز وشاديه ومارسيل خليفة والشيخ إمام.
وكنت مشدوداً بشكل عام للشعر في تلك الفترة أكثر من انشدادي للغناء. أستمع لأغانيّ المفضلة كلما شعرت برغبة في ذلك، بيد أن الشعر كان يسكن عقلي وخيالي، ويعيش معي ساعات يومي، وأظل مسكوناً بموسيقى الشعر وصوره ولغته وإيحاءاتها، أردد بيني وبين نفسي مقاطع شعرية، وكأن الشعر يتلبسني ولا أستطيع الانفكاك منه. وقد يكون مرد ذلك أن مشروع أديب كان يتكوّن في داخلي، ينتظر فرصة مواتية ليخرج إلى الحياة ويبلور له بصمته وشخصيته.
كان محمود درويش مقيماً دائماً في فكري، أحفظ عدداً من دواوينه (من الجلدة إلى الجلدة)، وأعيدها بطلاقة كما لو كنت أقرأ مباشرة من الديوان، ذكرني بذلك بعض زملائي من قدامى طلبة جامعة بيت لحم، عندما اجتمعنا في ندوة عقدت مؤخراً في الجامعة عنوانها كتابي " خمسون تجربة ثقافية وإبداعية فلسطينية".
ومن كثر تكرار قصائد معينة في المهرجانات والمناسبات الوطنية في الجامعة، أصبحت أتعامل مع الكلمات والصور، كما لو أنها كلماتي وصوري، فعشت في الجامعة حالة شعرية درويشية، واستمر ذلك في اعتقالي الأول، وأنا في السنة الجامعية الثانية، حيث اكتشف المعتقلون موهبتي في إلقاء الشعر، لتصبح فقرة الإلقاء إحدى فقرات احتفالات السمر التي كانت تقام في الغرف الاعتقالية لتزجية الوقت والتخفيف عن النفس من بؤس حياة الاعتقال.
كانت " أم كلثوم " تحضر إلى المعتقل صوتاً الساعة السادسة والنصف مساءً، من خلال سماح الإدارة بسماع أغنية واحدة يومياً لسيدة الغناء العربي، لتصبح الأغنية في هذا الوقت تقليداً اعتقالياً. فيما كان المعتقلون ينتظرون " أم كلثوم" بفارغ الصبر، فهي الزائرة الوحيدة المسموح بدخولها إلى عالمهم المغلق، كنتيجة لمطالباتهم والحاحهم، إلى أن تم تثبيت أغنيتها حقيقة مسائية. أغنية تخترق الجدران والتحصينات، وتمسك يد كل معتقل بحنو وتصطحبه في شطحة خيالية، في فضاء مفتوح خارج علب الاعتقال.
والطريف أن المعتقلين رتبوا مواعيد جلساتهم وبرامجهم المسائية لتكون بعد " أغنية أم كلثوم "التي كانوا يحضرون أنفسهم للاستماع إليها وهم يشربون " شايهم" المسائي ويدخنون ما تبقى من سجائرهم القليلة.وفي هذه الأجواء أخذت أعود نفسي تدريجياً على الاستماع للأغاني الكلثومية، لأكتشف تدريجياً أنني لم أكن أعرف قيمة هذه الموهبة الطربية العملاقة. صوت قوي جميل شجي بطبقات ومساحات واسعة، يمتلك خبرة في التعامل مع الكلمة ومخارج الحروف. موهبة لا حدود لها، تعرف كيف تختار الكلمة واللحن، لأقرأ في سنوات لاحقة كثيراً عن هذه التجربة، وكيف وصفها نقاد كبار على مستوى العالم بأنها ظاهرة صوتية طربية يصعب تكرارها.
لقد أدرك الزعيم جمال عبد الناصر أن هذا الصوت يشكل ثروة قومية، وهو عامل مشترك جامع لكل الدول العربية التي تحولت " أم كلثوم" فيها إلى ثابت طربي. وحينما صدم العرب بهزيمة ٦٧، وفقد الجيش المصري معظم قدراته لا سيما سلاح الطيران الذي تم تدميره في المطارات، أخذت هذه المرأة السبعينية في ذلك الوقت على عاتقها مهمة جمع المال لصالح إعادة بناء الجيش المصري، فجابت العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه موظفة ريع حفلاتها كاملة في مهمة وطنية قومية، ترتبط بمواطَنة عميقة الجذور.
كانت سنوات حكم عبد الناصر مثابة بيئة حاضنة للإبداع، فنشطت الحركة الغنائية والمسرحية والسينما والفن التشكيلي والموسيقى، وكان شخصياً متابعاً للفن، لدرجة أنه استدعى ذات يوم " أم كلثوم وعبد الوهاب"، ليفض خصاماً بينهما، داعياً الاثنين إلى التعاون الفني واستثمار طاقتيهما " أم كلثوم " بصوتها و " عبد الوهاب" بلحنه، ليثريا المشهد الطربي بأغان مشتركة.
في الانتفاضة الأولى، وحينما كنت أقبع في معتقل النقب الصحراوي في العام ١٩٩١ كان صوت " أم كلثوم" يتسلل إلينا كل مساء في الصيف اللاهب. وبالرغم من خشخشة الراديو العجوز التي كانت تؤثر على وصول الصوت صافياً نقياً، إلا أن الأغنية كانت بالنسبة إليّ كمن يرش ماءً بارداً على جسد يحترق حرارةً وعزلاً وبؤساً.
ذات مساء تسلل الصوت بأغنية " أراك عصي الدمع"، فرحت استمع وأنا أجوب المساحة الضيقة أمام خيمة الاعتقال، سرحت مع الأغنية ومع الشعر. قلت لنفسي كم كان واقع الشاعر " أبي فراس الحمداني" ناظم أبيات الأغنية يشبه الواقع الذي نعيش، بالرغم من أنه كان يحتجز في قلعة ونحن نحتجز في خيام، ولم تلهب جسده حرارة الصحراء. أما المشترك بيننا فذلك المزيج من حنين وكبرياء.
أوغلت في الخيال وأنا أتابع الأغنية كلمةً كلمةً. تخيلت أن " أبا فراس "جاء ليزورني في هذا المكان المعزول، وأنني أتحدث إليه وهو يتحدث إليّ. وما إن انتهت الأغنية حتى انزويت في الخيمة وكتبت قصة" أبو فراس الحمداني يزور معتقل النقب".
وبعد التحرر من الاعتقال، واختياري منذ ثلاثة عقود طريق التفرغ التام للعمل في الإعلام والإنتاج الثقافي والبحثي، فإن " أم كلثوم" ما انفكت ترافقني في كل المراحل، لا تمر أمسية دون أن أستمع إلى أغنية أو أغنيتين من أغانيها، فالصوت والموسيقى التي تحمله يعيدان التوازن إلى نفسي، بعد يوم عمل شاق بما يتخلله من متطلبات وواجبات ومتابعات.
تذكرت " أم كلثوم " كثيراً في السنوات الأخيرة عندما كانت تصول وتجول في عالم عربي مفتوح على الحياة والأفكار والتوجهات أكثر من المرحلة المعاشة، لا سيما وأن الإرهاب يحرق ويقتل ويدمر ويفكك دولاً ويعيد أخرى إلى مرحلة ما قبل الدولة، لأكتب مقالاً وأنشره بعنوان" لأم كلثوم زمانها المفتوح وللإرهاب زمانه المهزوم".
وتوثق صور حفلات " أم كلثوم" كيف كان الناس يجلسون باحترام وهم يرتدون ملابسهم بأناقة لافتة، وكأن الواحد منهم تجهز لحفل زفافه. كانت " أم كلثوم" تقف أمامهم بضع ساعات في ثنائية حضارية بين مطرب عملاق وجمهور راق.
في أيام الحجر وقاية من كورونا احتجت " أم كلثوم" صوتاً وحضوراً إبداعياً فلبت رغبتي ولم تبخل عليّ بطربها الساحر، وهي ترافقني معظم ساعات يومي أستمع إليها وأنا منكب على أوراقي أكتب مادة كتابي الجديد. ولا أدري كيف تأتيني القدرة هذه الأيام للتركيز المتزامن في كتابة نصوصي ومقالاتي والتمعن فيما تقول " أم كلثوم".
أكتب وأستمع. أستمع وأتوازن، وأقول محدثاً نفسي:
كيف استطاعت هذه القيمة الإبداعية أن تعيش كل هذه السنوات بقوة التأثير ذاتها وقدرتها غير المسبوقة طربياً على الخلود في الأذن المدربة والمرهفة ؟! كيف كان للكلمة سموها وللشعر المموسق والملحن روعته كما في رباعيات الخيام مثلاً؟
في الرباعيات قيمة حب إنساني عليا، مستمدة من تأمل عميق في الخالق والخلق، في حالة صوفية مفتوحة على الجمال. ارتفعت " أم كلثوم " وهي تغني ما ترجمه عمر الخيام عن الفارسية إلى أعلى المراتب الطربية، وحلق بنا " السنباطي " في عالم أسطوري من الموسيقى التي توحدت مع الكلمة الشعرية، وصارت كلمة واحدة أو نغمة واحدة.
في زمن كورونا يأتيني الصوت الكلثومي في الحجر مطمئناً ومبلسماً ليقول: إن الحياة مستمرة، وإن زمن الإبداع مفتوح على كل الاحتمالات ومحمول على أثير فضاء لا يمكن لتسلط بشري أو لأي وباء أن يحد من امتداده في الزمان والمكان.
صوت " أم كلثوم " المقيم في سمعي ، والساكن في خيالي، والمتبختر في وجداني يؤكد أن الشعر والأغنية مكونان في الثقافة والوجدان العربي، ومن يشهر سيفه في وجه الغناء الذي يرتقي بالذائقة، كأنما يقرر حزّ عنق الجمال، ليسود بالمطلق في الحياة ليل دامس، لكنه حتما سيفشل لأن الجمال مستمر ما دامت الحياة، ولأن الخالق جعل ما بعد الليل نهارا.