د. حسن عبد الله
تبوأ الأطباء والممرضون والمسعفون في تجربة البشرية مع " كورونا" أعلى مرتبة يمكن أن يصل إليها الإنسان. وتجلت المهنية في الميدان بأنبل صورها، أخلاقاً وشجاعةً ووضع الأرواح رخيصة على الأكف، واستسهال الصعاب من أجل أن يعيش الإنسان.
وقد قارنت مراراً بيني وبين نفسي وأنا أتابع محطات الأخبار المحلية والعالمية،ما بين الإنسان الذي يضخ الشفاء في شرايين المرضى، وبين الإنسان الذي يقود طائرة حربية وينفذ أوامر رؤسائه، ويقذف حمم الموت لتحرق أناسا ظنوا أنهم يمارسون حياتهم الطبيعية في أمكنة ما من العالم، فوقعوا فريسة بين فكي وحش الدول الكبرى التي تبتز الصغرى، وتمتص دماءها وهواءها وبترولها وشمسها، وتفتت جغرافيتها وجماجم أبنائها.
كانت وسائل الاتصال الحديثة قناتنا المعرفية والإخبارية الأسهل، لمعرفة ما يدور حولنا وللتواصل مع الآخرين حواراً وتبادلَ معلوماتٍ وتسليةً. وكان الهاتف النقال جاذباً لأصوات الأصدقاء، للتنقل معهم إخبارياً في ساحات العالم، حيث الأرقام المتغيرة بسرعة فائقة، في عدد المتوفين والمصابين ب “كورونا".
في مكالمة هاتفية ليلية، سرحنا المهندس سامر وأنا في عالم الطب والتمريض، وقارنا بين الممرض المهني المتمكن وذاك المتمترس في غواصة نووية، يجوب المحيط مأخوذاً بقدرة غواصته على قتل مئات آلاف البشر إذا ضغط بإصبعه على " زر" ليس إلا.
قلنا في المكالمة: إن الممرض يساعد الناس على التشبث بالحياة. أما المتخندق في الغواصة فينشر طاقة الموت حتى وإن لم يضغط على " الزر " في المنظور القريب.
وفي المكالمة ذاتها استعرضنا أداء الأطقم الطبية الفلسطينية في التعامل مع " كورونا"، وأشرنا إلى إشادة منظمة الصحة العالمية بالإجراءات الوقائية الفلسطينية، ثم توقفنا عند " الخاص" المتمثل في قسم التمريض في العصرية الجامعية الذي خرج 36 فوجاً، وتحدث المهندس الشيوخي عن آلية تطويرية، بالاستفادة من دروس تجربة " كورونا". واتفقنا على إنتاج فيلم قصير تحية لمهنة التمريض، وتقديراً لما تضطلع به في حماية الإنسان ورعايته.
انتهت المكالمة لأكتب في بضع دقائق نصاً للمادة الفيلمية، ومن ضمن ما كتبت التالي: -
"تجربة العالم مع كورونا ، أثبتت أن الأطقم والأجهزة الطبية على مستوى دول العالم ، ومنها الدول الكبرى تحتاج إلى اسنادٍ بأحدث المعدات والكوادر ، وإلى رفدٍ وتعزيزٍ بجيش لا يتحصن في الخنادق ويحتمي بالنووي، وإنما إلى جيش من الأطباء والممرضين الذين يلبسون الأبيض ويعنونون خدماتهم بالبياض سلوكاً وقلوباً ومهنية....”
وكتبت أيضا " ستة ملايين على الأقل من الممرضين والممرضات مطلوبون فوراً وعلى وجه السرعة لسد النقص في دول العالم كما أعلنت منظمة الصحة العالمية، في حين أن الرقم قابل للزيادة بعد خروج المجتمعات البشرية من هذا الاختبار الكوني، وقد تحمل الشهور القادمة رقماً أكبر من المعلن.
الجيوش والقنابل الذرية والغواصات النووية والصواريخ العابرة للقارات والطائرات الحربية القادرة على دك الأهداف دكاً حتى وإن كانت مموهةً مئات الأمتار تحت الأرض، جميعها قد حيدها كورونا، بعد أن عرى تكنولوجية القتل العسكرية. أما الذي ثبت في الميدان هم الأطباء والممرضون والمسعفون وباقي مكونات المعادلة الطبية، لينقذوا بأرواحهم، أرواح الآخرين، وهنا تجلت الإثارية.
وفي بلادنا نجحت الأطقم الطبية في الاختبار منتصرة على الظروف القاهرة التي نعيش، وعلى ضعف التجهيزات، وكان الممرضون والممرضات أسوة بكل العاملين في المجال الطبي مثالاً يحتذى في التفاني، لتشيد منظمة الصحة العالمية بالإجراءات الوقائية المتخذة، وبفعالية الجهاز الطبي..."
وكتبت في المادة الفيلمية كذلك:
" مهنة التمريض ليست مهنة عابرة في التجربة الفلسطينية، وإنما هي ضاربة الجذور، وكانت لها مكانة إبداعية في وجدان الفلسطينيين، وليس أدل على ذلك من جمال القصيدة العذبة الرقراقة التي جادت بها قريحة الشاعر الفلسطيني الكبير إبراهيم طوقان قبل تسعين عاماً، مشبهاً الممرضات بالحمائم، وحين نقول الممرضات، فإننا نقصد اليوم الممرضات والممرضين الذين يتشاركون في نشر وتعميم بياض ملابسهم وقلوبهم وأيديهم ....
بيض الحمائم حسبهنه
أني أردد سجعهنّه
رمز الوداعة والسلامة
منذ بدء الخلق هنّه
المحسنات إلى المريض
غدونّ أشباهاُ لهنّه
الروض كالمستشفيات
دواؤها إيناسهنّه."
أي جمال حملته قصيدة هذا الشاعر الفلسطيني الفذ الذي رأى ما رأى بعيني وبصيرة مبدع، فهو لم ير ما يدور في الحاضر فحسب، بل استشرف أيضا أهمية المهنة في التجربة الإنسانية بعد عقود وعقود، وكأنه يقول لنا في زمن " كورونا": إن البشرية تحتاج إلى المريول الأبيض لتعيش، وليس إلى البدلة العسكرية المرقطة والمموهة لتموت.
تحية لروح إبراهيم طوقان مبدع القصيدة التي تستحق الترجمة إلى لغات العالم كافة، بصورها الجميلة ومضمونها الإنساني العميق، حتى يعرف الناس في البلاد القريبة والبعيدة، أن شاعراً فلسطينياً قبل تسعة عقود قد قلد ممرضة وساماً شعرياً، وكتب على جناح حمامة بقلبه" بيض الحمائم حسبهنّه".