الكاتب: د. وليد سالم
مع الشهر الفائت تكون منظمة التحرير الفلسطينية( م ت ف) قد طوت ٥٦ عاما من عمرها منذ انشائها في القدس في أيار من عام ١٩٦٤. وببعض المجازفة يمكن القول بما يتسع له مجال هذه المداخلة الموجزة أن م ت ف قد مرت بمرحلتين عريضتين خلال هذه العقود : كانت المرحلة الاولى هي مرحلة الكفاح من أجل تحقيق برنامج التحرر الوطني الفلسطيني ( ١٩٦٤- ١٩٩٤) . أما المرحلة الثانية ( ١٩٩٤- وحتى اليوم )، فهي مرحلة البناء الوطني والكفاح من أجل الاستقلال. وقد طغى في هذه المرحلة الثانية أحيانا العمل من أجل البناء الوطني على حساب الكفاح من أجل الاستقلال ، وكان هذا الطغيان ناتجا طبيعيا لنشوء سلطة مع ما رافقها من جهود مخلصة من جهة ، وما رافقها من جهة أخرى من مظاهر بيروقراطية وتسلط ونشوء للرتب والمقامات لأصحاب السيادة والمعالي الذين يهتاجون لمجرد إحساسهم بالتطاول على ألقابهم. والأهم أن ذلك كله ارتبط مع حالات جبرية وأخرى إختيارية من التعايش مع الاحتلال في ظل الاتفاقيات المنظمة لهذا التعايش، وساعد التمويل الاجنبي في خلق وهم وجود مؤسسات مستقرة ، بحيث تحولت المدن الفلسطينية إلى فقاعات تنموية ( bubbles) ، وبدى وكأن الاحتلال قد إنتهى.
تعرضت هذه المرحلة الثانية إلى إمتحان أول عام ١٩٩٦، عندما اعلنت حكومة نتنياهو الاولى فتح نفق تحت الاقصى، وترتب عن ذلك اشتباكات مسلحة لقوى الأمن الفلسطيني مع جيش الاحتلال ، ومع عام ٢٠٠٠ بدى وكأن المرحلة الثانية قد انتهت حيث لم يتم التوصل إلى إتفاق نهائي كما كان مخططا له أن يتم عام ١٩٩٩، كما إنتهت مفاوضات كامب ديفيد عام ٢٠٠٠ بدون التوصل إلى أي حل نهائي ، وهنا اندلعت الانتفاضة الثانية كتعبير عن فشل إمكانية التوصل إلى إتفاق سياسي ينهي سيطرة المشروع الاستيطاني الاستعماري على فلسطين كلها ، ويؤدي إلى كبح توسع هذا المشروع لصالح حل دولتين على حدود عام ١٩٦٧ تعيشان جنبا إلى جنب مع بعضهما البعض بسلام وأمن. وإضافة لآلاف الشهداء والجرحى والاسرى فقد الرئيس ياسر عرفات حياته لقيادته لتلك الانتفاضة.
اتضح إذن مع انفجار مفاوضات كامب ديفيد أن التسوية مع المشروع الاستيطاني الاستعماري غير ممكنة ، وكانت الانتفاضة الثانية بشيرا للعودة من جديد إلى برنامج التحرر الوطني السابق، ولكن ذلك لم يحدث، فقد جاءت خارطة الطريق عام ٢٠٠٣ لتقيد السلطة بقيود جديدة وتشترط مكافحتها لما سمي بالارهاب كمدخل إجباري للتقدم السياسي ، ولاحقا قبلت حكومات سلام فياض المتعاقبة( ٢٠٠٧- ٢٠١٣) الدخول في امتحان الجدارة المفروض دوليا كمدخل للوصول إلى الدولة ، وفي عام ٢٠١١ شهد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بأن الفلسطينيين قد بنوا مؤسسات الدولة وأصبحوا جاهزين للاستقلال، وهنا لم تستجب إسرائيل ولم يضغط عليها المجتمع الدولي لتحقيق قيام دولة فلسطين على الارض والتي كان هذا المجتمع الدولي قد وعد بتحقيقها إذا ما نجح الفلسطينيون في إمتحان الجدارة.
وفرت تجربة حكومات سلام فياض فرصة أخرى للعودة إلى برنامج التحرر الوطني كفرصة الانتفاضة الاولى ، إلا أن ذلك لم يتم هنا أيضا . واستمر العيش في ظلال الدولة الموهومة خلال فترة الحكومة اللاحقة لرامي الحمدالله، وتحولت السلطة إلى جهاز لحل المشاكل اليومية وتحول الكفاح الوطني إلى إنفجارات عفوية محلية وأعمال فردية هنا وهناك، وبهتت الفصائل ، وصارت م ت ف تعتمد على السلطة في تمويلها ، وغابت مشاريع صامد عن مخيمات اللاجئين في الشتات بحيث تعرض اللاجئون سيما في لبنان للمهانة وإهدار الكرامة، وتم تجويف المنظمة وتعزيز المحاصصة فيها ، إضافة لنمو الاتجاه الاسلامي الموازي لها بقيادة حركة حماس والذي يطعن بشرعيتها.
أخيرا نشأت فرصة لعودة المنظمة إلى برنامج التحرر الوطني هذا العام ، وذلك في ضوء إنهاء صفقة القرن وإجراءات اسرائيل لترسيم الضم الزاحف منذ عام ١٩٦٧ لاتفاق أوسلو، وما نجم عن ذلك من خطوة فلسطينية هي الاولى للتحلل من كافة الاتفاقيات مع إسرائيل ، والتي من المتوقع أن يتبعها إلغاء كافة هذه الاتفاقيات إنهاءا تاما.
لعل من المناسب أن يأخذ كل ذوي النوايا المخلصة الداعين لإصلاح م ت ف أو إعادة بنائها هذه الفرصة المذكورة أعلاه بعين الاعتبار وأن يسعوا لتدعيمها وتعزيزها ، وإلا تحولت دعواتهم إلى أدوات بأيدي من يسعون لاستبدال منظمة التحرير الفلسطينية أو تشكيل جسم أو أجسام موازية لها خدمة لأجندات دولية وإقليمية معروفة. لذلك فإن اصلاح المنظمة يجب أن يبدء من داخلها أولا ، وبالتوجه للتفاعل مع فصائلها وأعضائها بأفكار للتغيير وتوسيع المشاركة في المنظمة ، وربما أيضا للضغط عليهم بوسائل سلمية لتبني هذه الافكار ، ويضاف لذلك إطلاق الطاقات الكفاحية لكافة ابناء الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده لجعل المشروع الاستيطاني الاستعماري لفلسطين خاسرا . لقد بدأت م ت ف عند نشوئها ككيان سياسي للكفاح الوطني الفلسطيني ، ومن خلال هذا الكفاح اكتسبت شرعيتها وشعبيتها، لذلك فإن من يريدون أن يسعوا لتغييرات إيجابية فيها أن يقوموا بذلك من خلال تقديم القدوة في الكفاح وفي جمع الشعب الفلسطيني كله حول هذا الكفاح.
لعل التغير الاساس بين عام ١٩٦٤ واليوم أن ذلك الزمن قد كان زمن الشرعية الثورية للفدائيين الذين كانوا يفدون الشعب ويقاتلون لأجله. أما اليوم فقد أصبحت غالبية الشعب واعية لحقوقها وتريد المشاركة في الكفاح الوطني بوسائل مختلفة، للفصائل أن تعي ذلك ، وكذلك للنخب التي تسعى لإستبدال النخب بأخرى وبوسائل نخبوية، وأن تفتح جميعها الباب أمام انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني من كل الشعب الفلسطيني وإيجاد الاليات الملائمة لذلك للمواقع التي لا يمكن إجراء انتخابات فلسطينية فيها ، إلا أن من يعرف التجربة الفلسطينية يعي أن هنالك حلولا ممكنة لهذه الحالات وهي حلول معروفة على أية حال منذ طرحت أفكار وبرامج لإصلاح م ت ف في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. وفي إطار ذلك تتمثل كافة تجمعات الشعب الفلسطيني ديمقراطيا في المنظمة وفق برنامج جامع لها جميعا يتجاوز خصوصياتها سواء منها المفروضة قسرا أو الطبيعية العادلة.