الجمعة: 31/01/2025 بتوقيت القدس الشريف
خبر عاجل
وكالة معا: رئيس هيئة المعابر نظمي مهنا في طريقه إلى معبر رفح لمباشرة تشغيل المعبر

واجبنا في حماية التراث الثقافي والذاكرة الوطنية

نشر بتاريخ: 22/07/2020 ( آخر تحديث: 22/07/2020 الساعة: 16:54 )

الكاتب: مروان اميل طوباسي

حدثان هذا الأسبوع كنت قد عشت بعض من تفاصيلهما، الأول ، كان عندما قمت مع عدد من رؤساء بلديات يونانية صديقة ومبادرة مني في زيارة متحف الذاكرة والهوية في إحدى مناطق وسط اليونان التي تعرضت لمذبحة من النازيين عام ١٩٤٤ خلال احتلال ألمانيا النازية انذاك لليونان التي قتلت من الشعب اليوناني في جرائمهم المختلفة اكثر من اربعمائة الف فيما يطلق اليونانين على بعضها اي المجازر الجماعية منها " الهولوكوست"، فيما لم يكونوا يهودا، رغم ما قتلت النازية من اليهود أيضا، الأمر الذي تدينه ونستنكره نحن الشعب الفلسطيني الذي ما زال يعاني من الهولوكوست الممتد، كما نُدين كل جرائم النازية ضد البشرية.

و"الهولوكوست" مشتقة من كلمة يونانية قديمة " هولوكوستون" وهي من شقين، "هولوس" وتعني الجماعي و"كوستون " تعني الحرق، لكن الحركة الصهيونية اعتبرت ان "الهولوكوست" هو فقط ما يخص قتل النازيين لليهود إبان الحرب العالمية الثانية، وهي بذلك عملت على تغير معناها الحقيقي عبر نشأة اللغة وعلى تسخير هذه الكلمة وفق سياستها وادعاءاتها و مصالحها.

في هذه البلدة الصغيرة ديستومو اراخوفا التي قاوم أهلها من خلال نشاط حركة المقاومة الوطنية هذا الوحش النازي الذي ارتكب مجزرة بشعة "هولوكوست " في إحدى ليالي القرية قتلوا خلالها ٢١٨ انسان بين رجل وامرأة وطفل حتى وجنين في بطن أمه، وهم جميعا من اليونان الأرثوذكس.

لقد احتفظ اليونانيون ، اهل هذه المنطقة بتراث وذاكرة هذه الجريمة حتى تبقى شاهدة على تلك الحقبة النازية ، مقتنيات الشهداء حتى جماجمهم وعظامهم احتفظوا بها بكرامة في خزائن زجاجية ، إلى جانب صور المجازر وصور للمجرمين القتلة التي يعرضونها في متحف وضريح شامخ على رأس تلة عالية يرتفع عليها علمهم الوطني ، صرح خاص بهم و بأسمائهم وتاريخ اعدامهم البشع واعمارهم.

هكذا أيضا هنالك عدد من متاحف الذاكرة الوطنية في مناطق أخرى باليونان التي ارتكبت بها مجازر النازيين "الهولوكوست "او الديكتاتورية العسكرية ، كنت قد زرتها ووضعت اكاليل الورود عليها محاطة بالكوفية الفلسطينية باسم شعبنا الفلسطيني، تقديرا منا لكفاح شعبهم وتخليدا لشهدائهم ضد الوحش النازي والديكتاتورية العسكرية.

فالمجرمون في هذا التاريخ هم نفسهم أعداء الحرية والإنسانية رغم اختلاف أسمائهم وتواريخ مجازرهم البشعة كما باليونان ففي فلسطين أيضا وفي أي مكان آخر.

الفرق هنا يكمن بين كيفية تعاطي الشعوب مع هذه الذاكرة ، فاليونانيون يعرفون كيف يخلدون ذاكرتهم الوطنية وتراثهم الثقافي ويصنعون منها شواهد ودروس ليكون لها أثرا في المستقبل الأفضل الذي ينشدون، كما ومن جهة أخرى فهم خبراء بالمتاحف و بألحفاظ على التراث الثقافي وصيانته، من الاكروبولوس حتى ابسط وأصغر شاهد على الثقافات و الحضارات القديمة.

اما نحن، الفلسطينيون والذين تعرضنا لجرائم ومجازر لا تقل بشاعة عن غيرها عبر التاريخ المستمر لنكبتنا على يد مجرمي الحركة الصهيونية، لم نولي كما يجب او كما يستحق شهداؤنا من التكريم وحفظ ذاكرتهم التي يجب أن تكون خالدة في حاضر ذاكرة الاجيال الجديدة ، سوى ما ندر من تخليد لأشخاص وقادة عظماء.

او حتى لتكون شواهد على تلك الجرائم، لمن يَزور أرضنا من الغرباء او من الضيوف الاصدقاء، حتى من المتضامنين معنا من الشعوب و ممثلي الحكومات ، حتى يطلعوا عليها او ان يتاح لهم ان يقدموا الاحترام للذاكرة، كما نفعل عندما نذهب نحن الي دول أخرى.

فعندما توليت موقع خدمتي كمحافظ لمحافظة طوباس وإلتى سميتها لاحقا، بطوباس والاغوار الشمالية نظرا لأنها تتضمن جزء من مساحة اغوارنا الفلسطينية وإلتى كانت شاهدة على عبور الفدائين عبر النهر زمن الاحتلال وسقوط شهداء منهم في معركة الدفاع عن الأرض والحرية.

في تلك المحافظة وبمقابل مخيم الفارعة، محطة العودة، كان الاحتلال قد استخدم بناية قد بناها البريطانيين زمن الانتداب لتكون إحدى مقراتهم الإدارية و الأمنية ، وبالمناسبة فقد كانت كل تلك الابنية او العمارات كما سماها البعض، وإلتى كانت منتشرة في كل مناطق فلسطين متماثلة بالبناء والتصميم ، وسميت على اسم مصممها المهندس البريطاني " تاجرد ".

لاحقا استخدمتها السلطات الاردنية لتكون مقرات المحافظين او القائم مقام او المتصرفين.

وفي زمن الاحتلال البشع استخدمت كمقرات للحكم العسكري او ما سمي بالإدارة المدنية او كلاهما، وتضمنت المعتقلات ومكاتب المخابرات واقبية التعذيب و التوقيف.

فما كان يطلق عليه انذاك مركز او سجن الفارعة على طريق مدينة طوباس، كان أحد تلك المراكز.

عشرات الالاف من مناضلين ابناء شعبنا قد مروا في تجربة هذا السجن او المعتقل، وكان عادة يستخدم لفترات التوقيف القصيرة او كمحطة انتقال بين سجن واخر ويشهد فنون التعذيب.

عند اندحار الاحتلال عن جزء من أرضنا وإقامة سلطتنا الوطنية كمحطة على طريق بناء الدولة وحرية شعبنا، تم تحويل هذا الموقع والسجن القديم الي مركز شبابي رياضي تأهيلي " مركز الشهيد صلاح خلف"، وشيدت به إحدى صالات كرة السلة الداخلية المعتمدة لمباريات اتحادنا السلوى، وهي صالات معدودة بالوطن للأسف.

كنت أزور هذا المركز باستمرار ، واذكر اننا اقمنا به اول معرض لمنتوجات المحافظة الزراعية و التراثية، واستضفنا فيه فرقة العاشقين أيضا وغيرها من النشاطات الثقافية.

لقد استقبلنا فيه العديد من الوفود التي أتت لزيارة المحافظة المهددة يوميا بانتهاكات الاحتلال ومستوطنية، حيث كنا نُطلعهم على آثار الاحتلال ومواقع عذابات مناضلينا في الزنازين واقبية التحقيق، فقد بقيت جدران تلك الغرف قائمة بالاسماء و الكتابات المحفورة عليها، لتبقى شاهدا على صمود شعبنا وعذاباته.

اقترحت في حينها على عدد من جهات الاختصاص وشركات القطاع الخاص، تحويل هذا الجزء الباقي الى متحف ذاكرة وفق مخططات تصميم حديثة تُبرز الجريمة والصمود ، واستعد البعض منهم للتمويل، لكن للأسف ، لم تتابع جهات الاختصاص هذا الاقتراح المتواضع، والذي برائي يبقى هاما وضروريا في احياء الذاكرة والحفاظ عليها كما تفعل غيرنا من الشعوب. كما هي الضرورة أيضا بإقامة أشكال مختلفة من متاحف الذاكرة الفلسطينية الوطنية عبر ٧٢ عاما من مسيرة كفاحنا الوطني، كمتاحف لاسلحتنا المستخدمة، مقتنيات شهداؤنا ، المطبوعات و النشرات الوطنية التحريضية ضد الاحتلال و تاريخنا زاخر بها، ماكينات الطباعة التي كانت تستخدم انذاك، صور الشهداء وأحياء مواقع المجازر الجماعية المرتكبة.

واول من امس، قام جيش الاحتلال بالسطو وسرقة جرن المعمودية الوردي من إحدى المناطق القريبة من بيت لحم تقوع، وهو أحد ثلاث اجرن معمودية وردية قديمة في فلسطين أحدهما في كنيسة المهد ، والذي يعود تاريخه الي القرن الخامس الميلادي، لا أعرف تاريخ اكتشافه، لكنني متأكد انني لم أكن اعرف عنه عندما شغلت موقع واجبي كوكيل لوزارة السياحة والآثار قبل ١٥ عاماً.

لقد كان من المفترض حين اكتشاف هذا الكنز التراثي ان يتم الاحتفاظ به وفق إجراءات الحفاظ على التراث وأصول الترميم ، وهي مسؤولية مشتركة بين وزارتي السياحة والآثار والثقافة أيضا، لما يحمله هذا الكنز من مكنون تراثي ثقافي ذو قيمة عالية.

ما شاهدته بالصور التي نشرت عنه بعد حاث السطو الاحتلالي كان واضحا ما شابه من الإهمال وعدم الاكتراث بحماية مثل تلك الكنوز التي تعج فلسطين بها كجزء من مكونات هويتها الثقافية .

اقول هنا مما قد يثير عدم رضا البعض، انه لو تم سابقا ومنذ الاكتشاف لجرن المعمودية الوردي هذا في قرية تقوع والذي علمت عنه وزارة السياحة والآثار عبر مناشدات قد نشرت في وقت سابق ، حفظه وفق ما يجب لما فكر او لربما لم يتمكن الاحتلال من سرقته حتى يستمر في عملية تزوير التاريخ وسرقته.

والأمر هنا لا يقف عند هذه السرقة، فهنالك العديد من السرقات تمت خاصة في المناطق المصنفة "ج"، لم نتمكن من حمايتها او لربما اللجوء إلى محاكم دولية لاسترجاعها، لم تقتصر هذه السرقات على الاحتلال او قطعان المستوطنين، لكن وللأسف تمت من قبل عصابات فلسطينية متخصصة بالسرقة و التهريب، هؤلاء لم يتعظوا و استمروا حتى اليوم بحكم ضعف القانون الخاص والإجراءات العقابية ، فما زالوا يسرحون ويمرحون كاعوان للاحتلال في هذه المهمة والجريمة.

هنالك أهمية اليوم للبدء الجاد بالتفكير وتنفيذ متاحف للذاكرة الفلسطينية وإلتى تتعدى الازياء التراثية او معاصر الزيتون القديمة كاحجار البد، هنالك روايتنا على هذه الأرض وتضحيات شعبنا الشاهدة على جرائم الاحتلال ومجازره وشواهد أخرى كثيرة منتشرة في كل مكان ، هنالك مكونات الحضارة الكنعانية الفلسطينية التي ننتمي نحن لها.