الكاتب: د.ياسر عبيدالله
تشهد فلسطين تهديدا وجوديّا يتمثل بصفقة القرن ومخطط الضم والتطبيع العربي ، كما تشهد تراجعا في استثمار أدوات المقاومة ومقوّمات الصّمود، فقد حدث نقل السّفارة الأمريكيّة إلى القدس؛ ولم نشهد أيَّ حراك شبابيّ يناصر القيادة الرّافضة لهذه العمل، وتم إغلاق مكاتب منظّمة التّحرير الفلسطينيّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة؛ ولم نشهد من يتحرّك من الشّباب والحركيّين بأيّ نشاط ضدّ السّياسة الأمريكيّة، وعقدت ورشة البحرين ومن بعدها تم إعلان صفقة القرن؛ ولم نرَ من أولئك الحركيّين أيَّ منشور أو تغريد ضدّ الورشة والصّفقة، وكانت تعزى تلك الحالة بأنّ المواطن يعيش حالة إحباط، وحالة فقدان الثّقة ومبرّرات كثيرة غيرها؛ إلّا أنَّ وفي ظل ما نشهده هذه الأيّام من فترة عصيبة على الشّعب الفلسطينيّ وقيادته من إجراءات الضّم وتفاقم انتشار وباء كورونا ومؤخرا اعلان اتفاقية العار التطبيعية، نشهد فئات من الشّعب (اتّحادات ونقابات ومنظّمات مجتمع مدني ونشطاء الفيس بوك) يطالبون بحراك ضدّ قضايا مجتمعيّة– هي حقٌّ لكلّ مواطن ولكن لماذا الآن؟ ومن تخدم هذه التحركات؟
يحقّ للمواطن التمتع بحقوقه وحرياته باعتبارها ملزمة وواجبة الاحترام وفق الدّستور الفلسطينيّ، وحريته حق طبيعي كما تنص المادة (11) من القانون الأساسي، كما ويكفل القانون حرية العقيدة والعبادة وممارسة الشعائر الدينية حسب نص المادة (18)، ويمنحه القانون الأساسي الحقّ بالتّعبير عن رأيه بمختلف الوسائل، حسب المادة (19). ولكن السؤال لمن الأولوية في هذا الظرف العصيب الذي نمر به؟ أهي لحراك اجتماعي حول قضايا ثانوية هنا أو هناك، أم لمقارعة الاحتلال ومواجهة التحديات والمخاطر والتهديدات الماثلة؟ وفق قوانين الثّورة وقوانين الشّعوب المحتلّة فإنّ الأولويّات تكون في مواجهة الاحتلال ومواجهة الحملة الّتي تنظّمها الإدارة الأمريكيّة ضدّ القيادة والمشروع الوطنيّ لا الانشغال بقضايا يمكن حلّها من خلال الحوار والنّقاش مع جهات العلاقة. وعلى سبيل المثال شهدت فلسطين حراك الضّمان الاجتماعيّ، وحركة شركات القطاع الخاصّ والحافلات لنقل العمال إلى أماكن الاعتصام والاحتجاج تحت تحريض أنّ قانون الضّمان ضدّ العامل، وتلك الشّركات لم تحرّك أيّ حافلة ولم تسمح للعمال فيها بالتّحرّك لمناصرة القيادة في تظاهرات رفض الضّم، وهذا تناقض في الوعي بحقوقها وفهم أولويّاتها الوطنيّة والمجتمعيّة. فهل هذا معقول؟ وشهدت فلسطين حملة شبابيّة نشطة بل حملات وطنيّة تخدم المشروع الوطنيّ منها: حملة "يا عندي يا عند المنسّق" ولكن وللأسف وُجد أنّ هناك فئة داخل المجتمع تحارب الحملة وفئة أخرى تُصرُّ على البقاء على صفحة المنسّق لما يقدّمه لها من المغريات؛ من تصاريح وخدمات هي حقّ للمواطن الفلسطينيّ. وللعلم فإنّ المنسّق لن يعط أيّ مواطن حقّه، أو يرفع حظرًا أمنيًّا عنه دون موافقة الشاباك الصّهيونيّ، ولكنّ البعض يردّد بأنَّ المنسّق يساعد ويخدم العمال والمواطن الفلسطينيّ، بينما هذه حقوق تنتزع من الاحتلال لا تستجدى من المنسّق أو أيّ جهات مشبوهة.
نعود للحراك أو الحراكيّين من حيث الوقت والتّوقيت، فقد شهدت مناطق في الضّفّة الغربيّة خلال جائحة كورونا أعمال عنف تمسّ بالسّلم الأهليّ في عدد من المحافظات، وعمليّات تحريض غير مسبوقة على القيادة الفلسطينيّة من منصّات التّواصل الاجتماعيّ ومصمّمة بتقنيّات تكلفتها الماليّة باهظة، وفي مقابل التّرويج للمنسّق بتقديم خدمات تمنح سلطات الاحتلال الحقوق الماليّة والسّياديّة للسّلطة، وفي نفس الوقت نجد نشطاء مواقع التّواصل يخرجون بتغريدات تحريضيّة تبحث عن هفوة هنا وهناك، وتروّج لها وتنشر الأخبار المفبركة والقصص الخياليّة بهدف المسّ بالنّسيج الاجتماعيّ؛ تربط كلّ شيء وكلّ تهديد وكلّ خطأ من مؤسّسات القطاع الخاصّ وغيرها باستهداف واضح وصريح للقيادة الفلسطينيّة، وهذا الاستهداف وصل إلى مستويات أخلاقيّة متدنّية جدّا وهي المسّ بالشّرف والأخلاق وعائلات وأسر القيادة.
لِنُحكّم العقل أمام من يقوم بذلك بتساؤلات منطقيّة يجب الوقوف أمامها: أيُّ القضايا تُعدُّ أولويّة: قضيّة مخطّط الضّمّ أم قضيّة فواتير الاتّصالات؟ وأيّ من تلك القضايا أهم من دعم الموقف الفلسطيني في مواجهة التّهديدات الأمريكيّة؟ ولمصلحة من هذا التحريض المستشري على منصات التواصل الاجتماعي؟ ومن الذي يحركه؟
من الواضح أن أحد اهداف هذا التحريض أن يوصل الأمور حد فقدان الثّقة بتحرّك الشّارع الفلسطينيّ في مواجهة أيّ من التّهديدات الّتي يقوم بها الاحتلال بحيث تمرّ والشّعب ينظر إليها دون أيّ تحرّك أو احتجاج، فيما يستمر التّحريض والبحث عن صغائر الأمور وتنسى عظائمها المتمثلة بالتّهديدات الوجوديّة للشّعب الفلسطينيّ. فمن الذي يقف وراء هذه التحركات وما الذي يريدونه؟ من الواضح أنهم فقط يتحرّكون عندما يراد لهم أن يتحرّكوا وتغيب مشاركتهم الوطنيّة لا بل يتمّ التّحريض على المشاركين في التّظاهرات ضدّ الضّمّ والقضايا الوطنيّة.
لا أحد ينكر أن ثمة أخطاء، وثمة نواقص وثغرات في الجسد الفلسطيني وفي إدارة الشأن العام، ولا شك أن تصويب الأمور يصب في تعزيز الصمود والمناعة الداخلية، ولكن حرف الأمور والمبالغة فيها في الأوقات العصيبة التي نعيش، حيث الهجمة الشرسة على الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية وكفاحه المشروع، يثير الشكوك والشبهات. ولذا فإن على من يدعون حرصهم على الوطن والمواطن، ان يلتفتوا للخطر الذي يهدد البقاء والوجود، وأن يتم حشد كل الجهود والطاقات من الكل الوطني، قوى سياسية ومؤسسات مجتمع مدني وقطاع خاص، وتوجيهها صوب الخلاص من الاحتلال. ومن لديه بتع فليبتع. ومن لديه قدرة على تحريك الباصات ضد الضمان الاجتماعي يستطيع ان يحرك الباصات لنقل المشاركين في نشاط مواجهة الاستيطان والضم، ومن لديه لسان للنقد والتحريض، والقدرة على استخدام التقنيات الحديثة فليوظفها في الرد على الاحتلال وأعوانه وأبواق التطبيع. ففلسطين للجميع، والانتماء لفلسطين، ليس حقوقا فحسب، بل وواجبات. وحذار حذار من أعوان الاحتلال والطابور الخامس.