الكاتب: حيدر عيد
لطالما تخيّلت، لدرجة القناعة المُطلقة، وجود ثلاث حيدرات يعيشون في ثلاث أماكنَ متفرّقة. نفس الشكل، العمر، طريقة التفكير، الأنانية، العطاء، الغرور، التواضع، الجبن، الشجاعة، الخوف، الإقدام، الوسامة، القبح، خفة الظل، ثقل الظل، سرعة البديهة، الغباء. أنا في غزّة، و أنا في حيفا (بعد أن غادرتُ زرنوقة)، و أنا المتنقّل بين تلّ الزعتر و شاتيلا و برج البراجنة. مواطن، لاجئ، فلاح، بدوي. أحدهم يرى في أحلامه الليلية رجلًا كاريزماتياً يطلبُ "منا" أن نرفعَ الرؤوسَ عالياً لأن "عهد الاستعباد قد مضى،" متبوعاً بطيف رجل أسود يقف خلف القضبان ويعلنُ أنه على استعدادٍ للتضحية بروحه في سبيل بناء مجتمع جديد "لا يظلمُ به الأبيضُ الأسودَ ولا الأسودُ الأبيضَ." الثاني يرفضُ مغادرة شاطئ بحر حيفا. الثالث يضع حقيبةَ الملابس في زاوية الغرفة في انتظار العودة للقرية/الحُلم. لم يخطرَ في بال أيّ منهم وجودَ الاثنين الآخريْن،باستثناء بعض الومَضات الليلية التي تختفي صباح اليوم التالي.
إلى أن رأيته/ني يوماً ما على شاشة التلفاز! وجهي، شعري، ذقني، نبرة صوتي، مع زيادة في منسوب الثقة بالنفس التي تُناقض ضعفي وخوفي. يقدّمه/ني المذيع ذاكراً اسمي! ابتسامتي تملأ الشاشة. طلاقة لسانه تلفتُ انتباهي، الموضوع سياسيّ و أنا لا أحبّ السياسة ولا السياسيين. أنا من المؤمنين بمقولة "الحيط الحيط و يا الله الستر"، أما هو فيبدو منخرطاً في الهمّ السياسيّ و لا يعجبه العجب! ينتقد، ينفعل، يحلّل، يتحدى، يحرّض...و أنا أرتعِش، أنكمِش، أعرَق! المسافة بيني و بينه ثلاث دهور، من حيفا إلى غزّة!
فقدتُ جميع أفراد عائلتي في تلّ الزعتر و شاتيلا. كلهم ذهبوا, و لم يتركوا لي إلا نفسي التي رأيتها على التلفاز تحلّل الواقع السياسي. هو، أنا، نحن! الدم يفصلني عنه، دمنا. غزة، شاتيلا. هو يسرد قصتنا، يفكّكها، يحلّلها، يعيد بناءها، ثم يتركها بلا نهاية...
الآخران علما بوجودي قبل أن أعرف عنهما أي شيء. تواصلا معي إليكترونياً. في البداية اعتقدت أنها نكتة سمجة إلى أن رأيتهما على الطرف الآخر من الكاميرا!
نظرنا إلى بعضنا البعض. أنا "هناك،" هما "هنا!"
"من أنت؟"
"من أنا؟"
"من نحن؟"
أغلقنا الكاميرات بعد ساعة و 48 دقيقة و15 ثانية، لم ننبس ببنت شفة خلالها. فقط تمعنّا النظر في أنفسنا المشتتة، المفككة، المنقسمة.
أغلقنا الكاميرات!
و عاد كل منا إلى "أناه" الجديدة المتشظيّة!