الكاتب: ناصر دمج
الفرقُ بينَ الخروجِ من بيروت في اليومِ الأوّلِ لحصارهاِ، وفي اليومِ الثّامن والثّمانين مِنه، هو خرابُ المدينةِ، ووقوعُ مجزرةِ صبرا وشاتيلّا، وشلالُ الدّماءِ التي سالت أثناءَ الحصارِ، وسقوطِ ثلاثين ألفَ شهيدٍ، وأربعينَ ألفَ جريح، وتنفيذُ وعدِ مناحيم بيغن بتحويلِ بيروت الغربيّةِ إلى(دريسدن-Dresden)، وهي مدينةَ ألمانيّة سُوّيت بالأرضِ، بسببِ رغبة تشرشل في تثبيت الدور الإنجليزي في دحر الوحش النازي، أمام تغول الوجود السوفياتي فوق التراب الألماني، علماً إنه لم يكن هناك أي احتياجات عسكرية لتدمير المدينة.
عودة على بدء، الخروجَ من بيروت إلى المجهولِ؛ عزز خسارة الثورة الفلسطينية الجيوسياسية التي بدأت بخروجُها من الأردن عام 1971م، أمّا الفارقُ بين الخروجيْن، أنّ الخروجَ من الأردن إلى لبنانَ كانت الطّريقُ فيهِ واضحةً، أمّا الخروجُ من بيروت فلمْ تكنْ فيهِ الطّريقُ على هذا النحو، لأن الذينَ تبقّوا في لبنانَ من أبناءِ (م.ت.ف) تُرِكوا ليواجِهوا الأسوأَ والمجهولَ أيضاً "ولمْ يكنْ واضحاً من هوَ المسؤولُ عن سلامتِهم، في وثيقةِ فليب حبيب وموريس درابر، مثلَما كانَ واضحاً في البندِ رقم (4) من الوثيقةِ حولَ حمايةِ من يعتلي السّفنَ ويغادرُ". (المصدر- Baruch Kimmerling Book Politicide page 114)
إنَّ صمودَ المُقاتلينَ الفلسطينيين في معاركِ لبنانَ وحصارِ بيروت انتهى إلى هزيمةٍ عسكريّةٍ، وأُضحوكةٍ سياسيّةٍ، تُذكِّرُنا بأضحوكةِ مكماهون على الشّريف حسين، ولرُبّما أمَرّ وأقسى منها، لأنّهُ سيتّضحُ لاحقاً، أنَّ ما تمَّ هوَ أضحوكةٌ فلسطينيّةٌ على الفلسطينيين، وهيَ متمثّلةٌ بفكِّ كنه التعهّدِ الذي قدّمهُ المبعوثان الأمريكيّان، فيليب حبيب والسّفير موريس درابر للقيادةِ الفلسطينيّةِ من خلالِ السيد "شفيق الوزّان" رئيس وزراء لبنان زمنذاك، والوسيطِ الفلسطينيّ المُباشِر مع القيادةِ المُحاصرةِ "هاني الحسن" وتنصّلوا منهُ لاحقاً ومفادُهُ "بأنَّ الولاياتِ المتّحدةَ ستُعلِنُ عن اعترافِها بحقِّ تقريرِ المصيرِ للشّعبِ الفلسطينيّ أثناءَ الخروجِ؛ حيثُ سيخرجُ الرّئيسُ رونالد ريغان ليُلقي خطاباً بنفسِه ِ للإعلانِ عن هذا الاعترافِ، ولكنْ بعدَ أنْ يعتلي الجُندُ المُحاصرونَ وقادتُهم السُّفنَ، وهذا وفقاً للنصِّ الحرفيِّ الذي نقلهُ "هاني الحسن" للقيادةِ الفلسطينيّةِ المُحاصرةِ، التي وافقت عليهِ بالإجماعِ، لكنَّ الإدارةَ الأمريكيّةَ لم تفي بوعدِها هذا إطلاقاً، حتّى بعدَ أنْ أصبحَ المُقاتلونَ وقادتُهم في عرضِ البحرِ، لقد كانَ لهذهِ الكذبةِ، الأثرَ الأكبرَ في تكريسِ هزيمةِ منظّمةِ التّحريرِ السّياسيّةِ بعدَ العسكريّةِ، وسبباً مُشجّعاً لخروجِ المُنظّمةِ من بيروت، وسبباً قوي لتمرد مجموعةٍ لا يُستهانُ بها مِن قادةِ فتح على ياسر عرفات في عام 1983م، فيما عُرِف بالانشقاقِ بقيادة العقيد أبو موسى المراغة.
لكنْ ما لمْ يتمّ معرفتُه في حينِهِ، هو مَنِ الذي كذبَ على ياسر عرفات؟ مبعوثُه هاني الحسن إلى فليب حبيب؟ أم فليب حبيب بواسِطةِ هاني الحسن؟ الإجابةُ على هذا السّؤالِ لم تتأخّرْ كثيراً، وجاءتْ على لسانِ أحدِ الدّبلوماسيينَ العربِ، العاملينَ في الولاياتِ المتّحدةِ الأمريكيّةِ، وهوَ الأميرُ "بندر بن سلطان"، بعدَ أنْ سألَ فليب حبيب، عن ما فعلتْهُ الإدارةُ الأمريكيّةُ بالفلسطينيين في تلكَ الواقعةِ، لكنَّ فليب قالَ للأميرِ بندر "بأنّهُ لمْ يقطعْ مثلَ هذا الوعدِ للفلسطينيين نهائيّاً، إنّما هاني الحسن طلبَ منّي -والحديثُ هنا لحبيب - أنْ أقومَ بنقلِ هذا المُقترحِ من عرفات إلى الإدارةِ الأمريكيّةِ، كمُقابلٍ للخروجِ من بيروت، وأنا نقلتُ هذا الطّلبَ للخارجيّة، التي لمْ تردّ عليهِ في تلكَ الفترة، لكنْ مثلُ هذهِ المُوافقةِ لم تصدُرْ عنِ الرّئيسِ رونالد ريغان أو وزيرِ خارجيّتهِ حينها جورج شولتز".
ماذا يعني ذلك ؟
يستنتج من ذلك أنَّ "هاني الحسن" نقلَ للقيادةِ المُحاصرةِ مُوافقةً أمريكيّةً لم تصدر عنها، ولا عن مبعوثها "فليب حبيب" على مقترحٍ هاني الحسن الكاذب على الوجهين، أي أن هاني الحسن كذب على فليب حبيب باسم ياسر عرفات وكذب على ياسر عرفات باسم فليب حبيب، بسبب ذلك استند قرار الخروجِ من بيروت إلى وعدٍ كاذبٍ من صناعةِ هاني الحسن، لهثتْ خلفَهُ قيادةُ منظّمةِ التّحريرِ، لكيْ تُحوِّلَ هزيمتَها العسكريّةَ إلى نصرٍ سياسيٍّ، يحفظ ُ لها ماءَ وجهِها الوطنيّ، لكنَّ ذلكَ لمْ يتحقق أيضاً، لأن الخروجُ من بيروت، وتوزّعُ أعضاءِ المنظّمةِ وعناصرِها على العديدِ من الدّولِ، تسبب في ضمورِ واضمحلالِ الخيارِ العسكريِّ الفلسطينيِّ، وتقدّمِ الخياريْن السياسيّ والدّبلوماسيّ للصّفوفِ وهما عاريان تماماً من أي غطاء عسكري، وشكّلَ هذا أيضاً بدايةَ حقيقيّةً ومُثمِرةً لمرحلةٍ مُذلّةٍ من الابتزازِ السّياسيِّ العربيِّ للفلسطينيين انتهت بالتّوقيعِ على اتّفاقِ أوسلو، بعدَ أنْ حُرٍمَ الخيارُ السّياسيُّ الفلسطينيُّ من أيّ إمكانيّةٍ للنجاح، في الوقتِ الذي تصاعدَت فيه حدّةُ القمعِ الإسرائيليّ لفلسطينيي الضّفةِ الغربيّة وقطاعِ غزّة، لإجبارِهم على القُبولِ بخيارِ الحُكم الذّاتيِّ، حدثَ ذلكَ في الوقتِ الذي تحوّلت فيه ساحةُ الوطنِ المُحتلِّ إلى ساحةِ العملِ الوحيدةِ بالنّسبةِ لياسر عرفات وكانت هي القادرةُ على إنقاذِه من عُزلتهِ السّياسيّةِ التي فرضتْها عليهِ الدّول العربيّة.
خلاصة
في نهايةِ هذه القراءةِ سنلاحظُ أنَّ هناكَ معضلةٌ حقيقيّةٌ ملازمةٌ للنّضال الوطنيّ الفلسطينيّ كظلّه، وهي إنّه لا إنتاجيّة سياسيّة لإجمالي مراحلِ الكفاحِ، إنّ النتائجَ التي تستقرُّ عليها المراحلُ، محفوفةٌ بالخُسران، وتقوّضُ حقوقَ الشّعبِ الفلسطينيّ تباعاً، وتمنَحُ الغُرباءَ إمكانيّةَ مواصلةِ استلابها والعبثِ بها، في تكرارٍ دامٍ وغيرٍ مبرّرٍ لأخطاءِ الأسلاف.
يقول جيمس بيكر في مذكّراته وهو يصف ُ لقاءاتِه مع الوفدِ الفلسطينيّ المفاوض، في بيت الشّرق في القدس الشرقيّة، "كنت أحياناً أستلقي على ظهري من الضّحك، بسبب سذاجةِ أطروحاتِ وأحاديثِ بعضِ أعضاءِ الوفدِ الفلسطينيّ وسطحيّتها، التي كانت تعبّرُ عن انعدامِ الخبرةِ السياسيّة لديهم" وهذه الواقعةُ تُشبهُ إلى حدٍّ كلّيٍّ سذاجةَ أعضاءِ اللجنةِ العربيّةِ العُليا، الذين ذهبوا لملاقاةِ المُلوكِ العربِ في عام 1939م، وأظهروا القلّةَ ذاتها من الخبرةِ أمامهم بقبولهم غير المفهوم، لطلب الزّعماءِ العربِ منهم إنهاءَ الإضرابِ والثّورة، دون أن يُخبرهم أولئك الزّعماءُ عن أيّ وعدٍ بريطانيٍّ، من أيّ نوعٍ كان يُلبّي مطالبَ الإضرابِ والثّورة. وكم يُشبه كلّ ذلك كذبة هاني الحسن على القيادةِ الفلسطينيّةِ المُحاصَرةِ في بيروت عندما زيّن لهم سببَ الخروجِ الغادرِ.
وهي أمورٌ على أيّ حالٍ أسّست لها أضحوكةُ السير هنري مكماهون على الشريف الحسين بن على، في عام 1915م، بعد أن تنصّلت بريطانيا من وعدِها على لسانِ مكماهون نفسه للعرب بإقامة دولةٍ مستقلّةٍ في فلسطين بعد إنتهاءِ الحرب العالميّة الأولى، مقابلَ وقوفِ العرب معها ضدّ العثمانيين بعد انتهاءِ الحرب، وقال مكماهون للحسين بن علي "بأنّهُ لا يُمكنُ أن يُقالَ بأنَّ فلسطين عربيّةٌ خالصةٌ".
إنَّ هذا الثباتَ والتّشابُهَ في الخيباتِ خلالَ قرنٍ كاملٍ من الصّراع، أمرٌ يدعو إلى الدّهشةِ، تتجلّى فيها غيابُ قدرةِ الفلسطينيين على استخلاصِ أيّ عبرةٍ تُذكرُ من تاريخِهمُ المرير، علماً أنَّ خبرةَ الشّعوبِ الحيّة، هي مجموع ُ الأخطاءِ التي ترتكبُها فيما مضى من تاريخها الجمعيّ، فتُوثّقُ في سفرِ سيرتِها تحتَ باب (ممنوع التّكرار) لكنَّ عكسَ ذلكَ هو الذي أورثَ الكفاحَ الوطنيّ الفلسطينيّ حالةً مقيمةً من الخسرانِ معروفة الأسبابِ ومجهولتها، والتي تتكشّفُ بعضُ فصولِها معَ مرورِ الأيّام، فنتأكّدُ مثلًا بأنَّ (اتّفاق غزّة أريحا) لم يكُن صالحاً للتّأسيس لدولةٍ مستقلّةٍ أي على العكسِ من ما حاولَ صانعوهُ تسويقَه للشّعبِ الفلسطينيّ والأمّة العربيّة، وأنّه لم يكُن أكثرَ من اتّفاقِ إطارٍ تنفيذيٍّ لحُكمٍ إداريٍّ ذاتيٍّ محدودٍ ومؤقّتٍ، والمحدوديّةُ هنا تعني حدودُ السّيادةِ الفلسطينيّة، أيْ لا سيادةَ للطّرفِ الفلسطينيّ في معناها السّياسيّ والأمنيّ بالمُطلقِ، وأنَّ كلَّ ما يتمُّ في مناطقِ الولايةِ الفلسطينيّةِ الممنوحةِ للسّلطةِ من قِبلِ إسرائيلَ عن طيبِ خاطرٍ، لا تعني إطلاق يدِ السّلطةِ فيها أبداً، وأنَّ إسرائيلَ هي التي تتحكّمُ بحركةِ دخول المياهِ والهواءِ إليها وخروجها، وتطبيقاً لذلكَ فإنَّ إسرائيلَ قامت بطردِ ممثّلِ فنزويلا لدى السّلطةِ الفلسطينيّة، بعد أنْ قامت بلادُهُ بطردِ سفير إسرائيل من كركاس، احتجاجاً على هجومِها على غزّة في كانون الثاني 2009م، وهذا يعني بأنّ رام الله خاضعةٌ لإسرائيل، وليسَ لحُكمِ السّلطة الفلسطينيّة.
إنّ خيباتِ الشّعبِ الفلسطينيّ المتواصلةِ بلا توقّف، هيَ كارثةٌ سياسيّةٌ وتاريخيّةٌ كُبرى أنشأتها القيادةُ السياسيّة التي يسوقُها القدرُ لتتحكّمَ بمصيرِه، ولعلَّ هذه الحالة تقودُنا إلى الأخذِ بعينِ الاعتبارِ ما قالَه الرّئيسُ العراقيّ الرّاحل صدّام حسين، للكاتبِ مُحمّد حسنين هيكل، في بدايةِ مقابلةٍ لهيكلَ مع صدّام، وقد ودّع أمامَهُ وفداً من منظّمةِ التّحرير الفلسطينيّة، بقيادة ياسرعرفات حيثُ قال صدّام لهيكل "هؤلاءِ قومٌ أصغرُ بكثيرٍ من قضيّتِهم".
إنَّ انعتاقَ الشّعبِ الفلسطينيّ من هذهِ اللعنةِ، يكمنُ في اختيارِ قيادةٍ سياسيّةٍ ووطنيّةٍ على مستوى التحدّي التاريخيّ، على أن تجعلَ من ارتباطِها بأجندةِ الآخرين أمراً ثانوياً وليس العكس، لقد استنتجَ دارسو تاريخِ الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، بأنّ معظم الزّعماءِ الفلسطينيين كانوا دائماً، تحت المُستوى المطلوب، لشعبٍ يستحقُّ قيادةَ أفضلَ تتناسبُ مع علوِّ كعبِه بين الأمم.