الكاتب:
بقلم : هبه أ. بيضون
جاءت كلمة التطبيع من إقامة علاقات طبيعية مع الطرف الآخربعد فترة من التوتر والقطيعة ، وبما أن الطرف الآخر في قضيتنا هو فقط "دولة الكيان الصهيوني" ، فإقامة علاقات أشبه بالطبيعية أو طبيعية مع هذا الكيان يسمى " التطبيع"، على افتراض أن العلاقات بين أي دولة عربية مع الكيان هي علاقات متوترة أو أنه لم يكن هناك علاقات أصلاً.
هذه الكلمة ليست جديدة في قاموس العرب، حيث أن هناك إتفاقيات سلام وقعت بين دول عربية وبين دولة الكيان بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية التي وقعت أوسلو عام 1994، وهنا وجب التنويه بالإستشهاد بما قاله فيصل الحسيني من إننا كفلسطينيين نجلس مع الإسرائيليين لفك الإرتباط، ولا نجلس معهم لتمكين هذا الإرتباط، لكي لا يكون ذلك حجة للتطبيع المجاني.
ومن هنا أقول إنه يمكن لنا تصنيف عملية التطبيع إلى تطبيع مشروع وتطبيع غير مشروع.
فالتطبيع المشروع هو التطبيع الذي أقرّت به مبادرة السلام العربية في بيروت عام 2002، والذي يرى أن للدول العربية حق في خيار إقامة علاقات مع دولة الإحتلال، ولكن ذلك مشروط ويشرعن بما يلي: إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشريف، عودة اللاجئين، والإنسحاب من هضبة الجولان السوري المحتل، وعلى الرغم من أن لدي بعض التساؤلات حول ما جاء في المبادرة، ولكن سأناقش ذلك في مقال آخر أخصصه لهذا الشأن. فحسب مبادرة السلام العربية، يمكن التطبيع مع دولة الإحتلال إذا تحققت الشروط، وتحقق الشروط يعطي مشروعية للتطبيع المنتظر من قبل جميع الدول العربية دون استثناء، وبالتالي يكون مقبولاً من قبل صاحب القضية وصاحب المعاناة وصاحب الأرض المحتلة وهم الفلسطينيون، أما التطبيع غير المشروع، فهو التطبيع المجاني الذي يخرج عن الإجماع العربي المتمثل بمبادرة السلام العربية، والذي تقوم به دولة بعيدة جغرافياً عن حدود فلسطين المحتلة وغيرمتأثرة مباشرة بالصراع، بمعنى أنه لا يوجد لها أرض محتلة من قبل الصهاينة المغتصبين، وما قامت به مؤخراً دولة الإمارات العربية المتحدة، يندرج ضمن هذا السياق، وهو التطبيع الذي لا يحقق أي من الشروط التي تشرعنه.
ويمكن القول أن هناك نوع آخر من التطبيع، وهو يعتبر مشروعاً ويمكن تفهمه إلى حد ما، مقارنة بما أطلقت عليه التطبيع غير المشروع، وهذا التطبيع هو خارج نطاق مبادرة السلام العربية، أي أنه حصل قبل أن تتحقق الشروط المذكورة سابقاً، وقد حصل مع كل من مصر والأردن، عند توقيع الأولى معاهدة كامب ديفيد وتوقيع الثانية معاهدة وادي عربة، ولكن لم تكن ردة الفعل الفلسطينية والعربية في ذلك الوقت حادة كما هي مع الإمارات الآن، والسبب ببساطة هو أن الأردن ومصر تعتبران دولتان قريبتان وحدوديتان مع دولة الكيان، وكان لهما أراض محتلة، وكانت الإتفاقية أو المعاهدة بهدف وبثمن، فقد استعاد المصريون سيناء واسترجع الأردن ( الغمر والباقورة) تحت ضغط شعبي كبير، لذلك فإنه يمكن لنا شرعنة هاتين الإتفاقيتين وإيجاد مبرر لهما يفهمه الجميع على الرغم من المواقف الشعبية الرافضة في كلا البلدين.
وهناك التطبيع الشعبي أو تطبيع الشعوب، ولكن هذه الحالة لم تحصل في أي دولة عربية، لأن الشعوب العربية كافة من محيطها إلى خليجها، هي شعوب حرة، كانت ولا زالت مع القضية الفلسطينية ومع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بغض النظر عن موقف أنظمتها وحكوماتها، فهذا نبض الشارع التلقائي الذي تحركه المبادىء والقيم والأخلاق والقناعات والجانب الإنساني وكل ما هو بعيد عن المصالح الشخصية، هو النبض الصادق الذي يتم قمعه في بعض الحالات وعند بعض الأنظمة العربية، بإستثناء فئة قليلة مأجورة ومدفوعة لخلق حالة معينة من البلبلة وإثارة الفتن لخدمة فئات معينة داخلية أو خارجية.
ما يهمني من جميع ما سبق ذكره، هو أن التطبيع غير المشروع فعل مقيت ومرفوض بالنسبة لنا كفلسطينيين وكعرب، لدرجة أن كلمة تطبيع قد تكون لطيفة ومخففة لوصف هذا الفعل الذي هو أعمق من مجرد إقامة علاقات طبيعية مع دولة الكيان لدولة مستقلة، خاصة أن التطبيع – كما سبق وذكرت- قد يصبح مشروعاً إذا تحققت الشروط- وعندها لن يكون فعلاً مقيتاً ولا مرفوضاً ، وإنما سيندرج تحت أطر تعاون من أجل تحقيق الأمن والأمان والسلم المحلي والإقليمي والدولي ....الخ من الأطر، كما أنه تطبيقاً للمثل الذي يقول تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين، فإن هذا التطبيع - وكما أجمع عليه جميع السياسيين والإعلاميين والمثقفين البسطاء والعامة في الوطن العربي وحتى في العالم الغربي - بأنه يمس بالحق الفلسطيني جملة وتفصيلاً.
ومن هنا يمكن لنا أن نطلق كلمة" تطبيع" على ما هو مشروع، أما ما هو غير مشروع، علينا أن نطلق عليه مسمى آخر يتناسب وقذارة الفعل وسلبيته، وليميز المشروع المقبول عن غير المشروع وغير المقبول، مرت عدة أيام منذ أن طرح الأخ الذي كان يدير ندوة حضرتها مؤخراً سؤالاً حول إن كان هناك كلمة بديلة لكلمة " التطبيع" ، وقد أخذت أفكر بالأمر منذ حضرت الندوة: ما هي الكلمة التي يمكن أن تكون بديلاً عن كلمة " التطبيع" اللطيفة نسبياً والتي لا تصف فداحة الجريمة، وأذكر هنا أنني أتحدث عن التطبيع غير المشروع والخارج عن الإجماع العربي والذي يمس القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وبعد تفكير عميق بما يجب أن تكون عليه هذه الكلمة، وضعت لها مواصفات لأتمكن من حصر الخيارات، وهذه المواصفات هي: يجب أن تكون الكلمة بعيدة عن لفظ التخوين والخيانة ومشتقاتها، فأنا شخصياً ضد التخوين ومع حفظ خط الرجعة مع الجميع، على افتراض أننا جميعاً معرضون للخطأ وللإحادة عن الصواب وعرضة للإغراءات، وأحياناً قد تكون الإملاءات التي تفرض على طرف من الأطراف، يعني كما نقول بالعامية، ينضوي الفعل تحت بند" ما باليد حيلة" ، وأن خط العودة والتراجع مفتوح دائماً وليس مستحيلاً، وأن الوقت كفيل بأن نراجع أخطاءنا ونتراجع عنها.
ليس بالضرورة أن تكون الكلمة البديلة على وزن "تطبيع"، ويجب على الكلمة البديلة أن تصف ليس الفعل بحد ذاته ككلمة "تطبيع" ، وإنما أن تصف مدى قذارته وتأثيره السلبي وما يعني بالنسبة لنا كفلسطينيين، وبما أن جميع التصريحات التي ظهرت من قبل جميع الأطراف وصفت العملية بأنها شكلت طعنة للفلسطينيين، فإنني أرى بأن كلمة" تطعين" قد تكون بديلاً مناسباً للتطبيع، فكما نقول " تطعيم" أي إعطاء طعم، نقول "تطعين" أي إعطاء طعنة من الخلف، وهذا التعبير كفيل لأن يعبر عن قذارة الفعل وحدته وبشاعته التي لا تقل عن بشاعة الفعل الدموي.
ختاماً، أضع هذا التعبير البديل بين أياديكم وأيدي الجهات المختصة، التي قد ترتأي إستبدال الكلمة في خطابنا الإعلامي، لنميز بين التطبيع المشرعن الذي سيتم بعد إقامة دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وبين التطبيع غير المشروع الذي قد تتسابق وتهرول إليه بعض الدول مستقبلاً (في حال تم ذلك)، ولو تبنينّا هذا المصطلح، ونحن أصحاب الشأن، قد تحذو حذونا دول عربية أخرى وتتبناه في خطابها الإعلامي.