الجمعة: 31/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

مفهوم النقد في دراسات الدكتور حسن عبد الله الاعتقالية

نشر بتاريخ: 30/08/2020 ( آخر تحديث: 30/08/2020 الساعة: 15:16 )

الكاتب: جهاد أحمد صالح

تأخذ ظاهرة الاعتقال في التجربة الفلسطينية في مداها الزمني، منذ الهيمنة العثمانية وحتى الاحتلال الإسرائيلي بعد العام 1967م، مروراً بمرحلة الانتداب البريطاني في صراع مستمر بين المحتل الغريب، وصاحب الأرض الفلسطيني، وهي ثقافة تميّزت بمحاولة الغريب المحتل فرض غزو ثقافي يحاول بها فرض ثقافته العدوانية، بكل ما فيها من تفرقة وتلاعب وتفريغ الثقافة الجمعية المقاومة للاحتلال جملة وتفصيلاً.

وشهدت تجربتنا الثقافة الفلسطينية في مقاومة الاحتلال، وخاصة بعد عام 1967م، مشهدين انتجتهما التجربة النضالية الفلسطينية:

الأول: الحق التاريخي في امتلاك الأرض والتاريخ، وباختصار، نجح الفلسطينيون في التصدي لكل أشكال السيطرة الاجتماعية والثقافية بكل أبعادها، لأن منطق العدالة والحق، كانا، وما زالا، إلى جانب هذا الحق.

الثاني: في مواجهة الأساليب العنيفة التي يستخدمها العدو، في مواجهة هذا الرفض الجماعي المقاوم الذي اتخذه الفلسطينيون في مواجهة هذا الغزو الاحتلالي، دفعوا، وما زالوا يدفعون، ثمن هذه المواجهة المستمرة، وتأخذ تجربة الاعتقال أحد أبرز معالمها.

تأخذ ظاهرة الاعتقال في التجربة الفلسطينية في مدارها الزمني، منذ اليوم الأول الذي أعلن فيه عن أقامت على أرض فلسطين حتى يومنا الحاضر، وتتمحور التجربة في الجانب الفكري والثقافي والإبداعي، في نضال المعتقلين للحفاظ على هويتهم وصوت إنسانيتهم، وإفشال مخططات الاختراق والتفريغ، ولهذا فقد خاض غمار تجربة، ربما تكون، هي الأغنى في تجارب حركات التحرر الوطني الشبيهة، لعدّة أسباب أهمها:

الأول: تواصلها وامتدادها واستمراريتها.

الثاني: نظراً لكثرة المعتقلين الذين تجرّعوا مرارة الاعتقال، سواء أكان ذلك لفترات طويلة أم قصيرة، مرّة واحدة أم عدة مرات.

الثالث: ما أفرزته التجربة من نتاج فكري وثقافي وسياسي واجتماعي، وقد تحولت السجون إلى مدارس وجامعات تزيد من صلابة المعتقل، ولا تحدّ منه.

وهنا، نتوقف أمام تجربة الدكتور حسن عبد الله، وما أفرزته تجربة الاعتقال من نتاج فكري وثقافي، بدأها بشمعات أوقدها زملاؤه خلف القضبان، أضاءت تجربته، فانتهت به بدراسات أكاديمية في الدراسات العليا تحوّلت إلى مرجع في التجربة النضالية الفلسطينية، وخصائصها وتطوّرها في الجانب الفكري والثقافي والإبداعي، فأنتج أولاً المؤلفات التالية:

الحضن الدافئ والعصا الغليظة (علاقة الفرد بالجماعة في تجربة المعتقلين الفلسطينيين).

كلمات على جدار الليل (أثر الرسالة في حياة المعتقل الفلسطيني).

الصحافة العبرية في تجربة المعتقلين الفلسطينيين.

في كتابه الأول، ينطلق الدكتور حسن عبد الله من فرضية مفادها، أن الحياة الجماعية بقدر ما وفرت للفرد في المعتقل من الحماية السياسية والأمنية، وفرت له أيضاً التعامل في وسط اجتماعي يحقق للفرد خاصيته الاجتماعية، فإنها قمعت التوجهات الفردية ووضعت سقفاً للتمايز والإبداع، إلاّ في حالات استثنائية، استطاع الفرد ضمن مزايا فردية واضحة ونشاط متواصل أن يخترق السقف، وهذا ما يفسّر أن تجربة الاعتقال أفرزت كتّاباً ومثقفين وسياسيين ومبدعين، على الرغم من قلّة عددهم مقارنة مع الكم الهائل الذي خاض تجربة الاعتقال منذ العام 1967م، وحتى الآن.

محرّمات كثيرة، سيجد الباحث في هذا الموضوع نفسه يقف أمامها، انطلاقاً من مفاهيم تنظيمية واجتماعية، وتضخيم تجربة الاعتقال، ووضعها في إطار القدسية، ربما ستجعله يُغمض عن بعض السلبيات في هذه التجربة، لكن ذلك، بالمقابل، يفقده المعايير والأسس البحثية، التي تفقد الدراسة أهميتها، وهو الأمر الذي تجنبه الباحث حسن عبد الله، فألقى الضوء على الإيجابيات والسلبيات في بحثه الذي يركز على العناوين التالية:

القمع الخارجي الموجة للفرد والجماعة.

الديمقراطي والقمعي في علاقة الفرد بالجماعة.

مكانة المسؤول والمثقف في الجماعة.

وبهذه العناوين، تتشكل "الخاتمة" التي صاغها بعنوان: الجماعة (الأب الغليظ) الذي يدافع عن الابن (بعصاه، وقد يجلده فيها).

وفي كتابه الثاني، يتوقف الباحث أمام مسألة "الرسالة" التي أصبحت وسيلة اتصال حيوية بالنسبة إلى المناضل المعتقل، حيث تحوّلت على ساحة صراع (مسلّية) بين السجانين من ناحية، وللمعتقلين من ناحية أخرى، لكي تكون مضمونة، بعيدة عن الرقابة التي تتمحص كل كلمة أو دلالة أو إيحاء، فتحولت رسائل المعتقلين بعد مرور بضع سنوات، إلى أشبه ما يكون بنصوص أدبية حملت مشاعرهم، وعبّرت عن أفكارهم، خاصة وأنهم كانوا يلجأون إلى الأسلوب الأدبي وإلى الاستعارات والألغاز والتمويه على الرقيب، بعد تفتح المواهب والقدرات الأدبية لديهم خلف القضبان.

ونظراً لأهمية دور الرسائل، كان الدكتور حسن عبد الله، قد تناولها في بعض الدراسات، التي أكّد فيها أن هذه الرسائل من جميع جوانبها، تشكّل مهمة وطنية وتاريخية وإبداعية وهي:

الأولى: دراسة تاريخية تحليلية في الأدب الاعتقالي.

الثانية: دراسة تاريخية تحليلية في الصحافة الاعتقالية.

الثالثة: حول علاقة الفرد بالجماعة في تجربة المعتقلين الفلسطينيين.

وفي الكتاب، انطلقت تجربته من فرضية: "أن الرسالة شكّلت نافذة حقيقية للمناضل المعتقل على الحياة، وأن تطوّر التجربة الاعتقالية، وجد تعبيراته الواضحة في تطور الرسالة شكلاً ومضموناً، وأن الرسالة هي إحدى المرجعيات المهمة التي تستطيع من خلالها التأريخ للتجربة الاعتقالية، وأنها شكلت إضافة نوعية للأدب الفلسطيني، عندما ارتقى المعتقلون بأسلوب صياغتها، لتلامس الأدب؛ بل ولتندرج بجدارة في إطاره".

وفي كتابه الثالث، "الصحافة العبرية في تجربة المعتقلين الفلسطينيين" يتوقف الدكتور حسن عبد الله، أمام مسألة أنه "لا توجد دراسة متخصصة ومنهجية تناولت موضوع الصحف العبرية وأثرها في حياة المعتقلين الفلسطينيين والعرب، وما أحدثته من تفاعلات مختلفة، وضمن أي إطار ووفق أية منهجية تعامل المعتقلون معها".

وعلى الفور، يثار في ذهننا سؤال: كيف يمكن للمعتقل أن يستفيد من صحافة عدّوه (السجّان). وكيف يمكن للمؤسسات الفلسطينية أن تأخذ على عاتقها هذه المهمة بشكل شمولي وممنهج، تجعل منها، في أثناء الاحتلال وبعده، لصالح المجهود الثقافي والأدبي لدى المعتقلين، من خلال أسئلة البحث، وضع الدكتور حسن عبد الله، مجموعة من الأسئلة، ومن الفرضيات والمنهج الذي يقول: " لا يمكن فهم التعامل مع الصحف العبرية، ونشاط حركة الترجمة، وتشكيل اللجان المختصة، بمعزل عن التعرّض للسياق التاريخي لتجربة المعتقلين الفلسطينيين والمراحل التي مرّت بها... بغية تأكيد أو نفي الفرضيات والأسئلة التي أثارها"، وصل في نهاية بحثه إلى نتيجة مهمة مؤدّاها: "عبّر إصرار المعتقلين على مطلب الصحف العبرية عن حالة متطوّرة من الوعي والقدرة العالية على التعاطي مع الأولويات، وكان لهذا المطلب دوافعه السياسية والنضالية والتنظيمية والثقافية والاجتماعية والنفسية"، وعبّر أيضاً عن "إبداع، حيث سعى المعتقلون إلى كسر الحصار المفروض عليهم والنفاذ إلى الخارج، حتى من خلال صحف عدوهم".

ويكثّف الدكتور حسن عبد الله أبحاثه بشأن المعتقلين الفلسطينيين، بكتابه الأخير "ثقافة الإرادة وإرادة الثقافة"، الذي صدر عن وزارة الثقافة الفلسطينية فيما يقارب الخمسمائة صفحة، فيقول في مقدمته " نحن أمام مشهدين انتجتهما التجربة الفلسطينية: الأول أن الإرادة الفردية والجماعية جسّدت ثقافة. والثاني أن الثقافة التي تجسّدت شحذت الإرادة من جديد وجعلتها إرادة لا تستند إلى القوة فقط، وإنما أيضاً إلى التخطيط والرؤية بعيدة المدى التي لا يمكن أن تتجلى فعلاً تطويرياً بمعزل عن ثقافة عميقة".

والكتاب هو مجموعة من الدراسات الأكاديمية المنهجية لتجربة بعيدة كل البعد عن الانحياز العاطفي التضامني مع قضية الأسرى العامة، ليضع لنا رؤية نقدية أكاديمية أبرز من خلالها الإيجابيات، كما سلّط الضوء على الثغرات ليصل إلى توصيات في نهاية كل دراسة فرعية، المستمدة أساساً بشكل مكثّف من الدراسات التي جاءت في كتبه وهي: الرسالة في تجربة المعتقلين، والتعليم الذاتي للمعتقلين – إصدار المجلات والنشرات – نموذجاً، والصحافة العبرية في تجربة المعتقلين والتي يمكن تصنيفها دراسة نقدية بامتياز، لأنها تناولت في أساسها موضوعاً مهماً وحساساً.

فقد بيّن الباحث كيف تشكلت الجماعة في الاعتقال، حيث كان الفصيل أو مجموعة الفصائل تحتضن الفرد الجديد، المرتبك، المتردد، لا يعرف أين يتجه في علاقاته، فيتقدم من الجماعة المعنيين ويقدّمون له الحماية والدعم النفسي والاجتماعي، كما تقوم بتثقيفه وتطويره، وتقوم الجماعة بتأطيره وإخضاعه إلى قوانينها وتوجيهاتها، وتحذّره من الاختراقات الأمنية، حيث يبقى الفرد تحت رقابة دائمة من الجماعة، حتى تطمئن له فيدخل دون أن يدري إلى عالم الجماعة.

أما القسم الثالث والأخير، فقد جاء بعنوان "أعلى درجات الاستثمار في الاعتقال وبعد التحرر" سلّط خلالها الضوء على عدد من الإصدارات التي كتبها معتقلون، خلال فترة الاعتقال وبعد التحرر، شملت الغالبية العظمى من النتاجات في فروع الأدب والفنون، مستعرضاً العناوين وتحليل المعطيات وتدعيمها بالأمثلة والاقتباسات على مدى سنوات الاعتقال، اتسمت بالمعطيات التالية:

أولاً: شهدت العلاقة المعقدّة بين معاناة الاعتقال وتقييد الحريات للفرد والجماعة على حد سواء، مع السياسة العامة بإدارة الاعتقال الممثّل "بإدارة السجون".

ثانياً: أثبت أنه كلّما ارتفع المنسوب الثقافي للجماعة، خفّف من ضغوطها على الفرد.

ثالثاً: اختلف تأثير الفرد المعقّد على الجماعة، فمن ناحية فإن ارتفاع المستوى الثقافي والفكري والسياسي والتنظيمي يؤدي إلى نواح إيجابية، وهناك أيضاً من لهم حسابات فرديّة تمسكوا بالقوانين والأنظمة المطلقة لتأكيد حضورهم، وهذا يُعد من النواحي السلبية.

رابعاً: تجربة الديمقراطية في المعتقل، أفضل مما ساد في الفصائل خارج الاعتقال.

خامساً: لم تخلُ حياة الاعتقال من امتيازات شخصية، تؤدي بالبعض إلى الظهور بقوتهم البدنية، أو ثقافتهم العالية، وهذه الناحية انعكست على الأفراد العاديين فيه.

سادساً: ضغط الهاجس الأمني وإبقاء الأفراد تحت المراقبة، الأمر الذي وقف حجر عثرة في عطائهم الفكري والثقافي والتنظيمي.

سابعاً: أوجدت الخلافات بين الفصائل والتعبئة الفكرية الفصائلية نوعاً من التوتر بين الأفراد وشكّلت الشخصية الفردية والنرجسية حالة من الحضور.

ثامناً: أدىّ إغلاق الأبواب أمام المعتقلين المنتسبين إلى الفصائل للانفتاح على الآخرين ومحاورتهم، وقد حدّ من دورهم وأجبر نسبة غير قليلة من روّاد التجربة على الالتحاق بفصائلهم بلا قناعة، ما أثّر على عطائهم الفكري والسياسي والاجتماعي.

تاسعاً: إن من تمتّع بامتيازات معنوية وثقافية في المعتقلات استندوا إلى تراثهم وتجربتهم، فتسنى لهم تحقيق مراكز وفعالية وحضور بعد تحررهم.

هذه المعطيات التي حدّدها المؤلف، جعلت مهمته البحثية غاية في الصعوبة؛ لكنها في الوقت ذاته جعلته يحدد مفهومة ورؤيته في كتابه "ثقافة الإدارة وإدارة الثقافة" من خلال سيرته الاعتقالية التي جعلته يختزن مفهومه، فكتب الكثير من الكتب والمقالات الصحفية والمحاضرات والمذكرات التي جعلته مرجعاً أساسياً في هذا المجال، وكأنه قد خطا نفس الخطوات التي خطاها المفكر الإيطالي الكبير "أنطونيو غرامشي" الذي سُجن، غير أن سنوات السحن، (1926 – 1937م) على الرغم من صعوبة الظروف والمرض الذي داهمه وانعدام المراجع التي احتاجها لأبحاثه، كانت مثمرة في تأصيل الموضوعات والأفكار عن الثقافة والمثقفين وصاغ مفهومه للمثقف العضوي في كتابه "كراسات السجن".

وإذا كان "غرامشي" قد صاغ مفهومه بشكل عام، من خلف قضبان السجن، فإن باحثنا الدكتور حسن عبد الله قد صاغ مفهومه عن ثقافة السجن وإرادتها من خلال سيرته الاعتقالية، ومن خلال حسّه النقدي الذي اتبع لأول مرة في أدب السجون، متحرراً من العاطفة والانشداد للتجربة، والتي أصبحت تؤسس لعملية نقدية موضوعية تواكب ما ينتجه المعتقلون من إبداعات متعددة، وما تنتجه تجربتهم من أبحاث.

وأخيراً، اسمحوا لي، فإنني على ثقة تامة، أن هذا الإصدار "ثقافة الإرادة وإرادة الثقافة" سيشكّل إضافة نوعية للمكتبتين الفلسطينية والعربية، ولوسائل البحث الأجنبية، لا سيّما أن الباحث قد واكب هذه التجربة بعدد من الإصدارات البحثية الإبداعية خلال فترة اعتقاله في ثمانينيات القرن الماضي منها: حمامة عسقلان، وعاشق الزيتون، وصحفي في الصحراء، وعروسان في الثلج.