الكاتب: عبدالله الزماري
إن اخطر الادوار التي يارسها الاعلام _أي اعلام_ هي اعادة تشكيل الوعي، سواء الفردي او الجماعي للمتلقين (الجمهور). وهذا يتم من خلال جهد وغاية اعقد، حيث ان ما يجري حقيقة هو إعادة تشكيل المعنى في "اللاوعي" سواء الفردي او الجماعي.
إن اعادة تشكيل الوعي، او كما قلنا "صناعة معنى يرسخ في اللاوعي"، ويصبح جزءا اساسيا من ادراكك وخطابك وتصرفاتك، تنتج حالة تشبه حالة الهواء " فهو ظاهر بحيث لا يُرى" انت تتنفس الهواء كل ثانية ويحيطك من جهاتك الاربع، حسنا، انت تعلم انه موجود لكنه لا يكون حاضرا في تفكيرك كلما تنفست ولا تخضعه لعملياتك او محاكماتك العقلية مجددا.
اذا اردت تغيير فكرة راسخة في وعي فرد او جماعة ما، فإن اول واهم المحرمات، هي ان تقول له غيّر كذا، او ان رايك خاطيء.. لانك في هذه الحالة ستواجه مقاومة شديدة تُفشل جهدك، ببساطة هذه طبيعة البشر.. لذا فان التغيير يأتي على فترة زمنية طويلة، بجرعات صغيرة، تماما كما يحدث في عملية التطعيم ضد المرض، او الري بالتنقيط، أنت لا تُغرق نبتة بالماء، بل توزعه على فترة طويلة، هذا ربما ما حدث حتى بتنا نجد الفلسطيني يقول "محسوم" بدلا من "حاجز تفتيش" فالاخيرة تحمل معنى ودلالة، بينما الاولى بلا دلالة. كما هذا ما حدث حيث صرنا نسمع ونقرأ وسائل اعلام فلسطينية، تشير الى مكان ما حسب قربه وبعده عن "مستوطنة اريئيل"[1] مثلا في الوقت الذي تحيط بالمكان عشرات القرى الأقدم والأعرق بالامكان اتخاذها عنوان لوصف المكان او الحدث، وأيضا هنا الدلالة والمعنى مختلفان جدا بين ان تعنوِن بمستوطنة، وأن تُعَنوِن بجماعين او ياسوف[2]. كما اصبح الحصار "سِيجِرْ"، وتحولت اعادة الاحتلال لبعض حقوق الانسان المسلوبة من الفلسطيني "تسهيلات". الذي حدث ببساطة هو اعادة تشكيل المعنى بطريقة التنقيط طويل الامد، من خلال وسائل الاعلام المختلفة سواء التابعة لماكنة الاعلام الصهيوني " محليا وعالميا" او وسائل الاعلام الناقلة حرفيا والمتأثرة بالقسم الاول من الوسائل، بحيث صِرتَ تواجه صعوبة احيانا في الغاء هذه الافكار والمصطلحات من عقلك انت ولغة خطابك انت، فكيف برأيك ستلغيها من "رأس" شريحة كبيرة من شعب؟؟
نفس هذا التنقيط تمارسه وسائل إعلام "عربية" _مع الكثير من التحفظ على عروبتها_ تمارسه من اجل اعادة تأطير وتنميط صورة الغازي المجرم، وكذلك صورة الضحية، صورة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، مقابل صورة الشعب الفلسطيني صاحب الأرض الشرعي ضحية هذا الاستيطان. حيث يجري تدريجيا " تنقيطيا" شرعنة الغزو، وتجريم رفض الضحية، لا بل يجري العمل على إسكان الغزاة عقول المواطنين ووعيهم قبل إسكانهم فلل وقصور وشقق الجميرا[3] ومدنا اخرى في المنطقة.
نعم انها حملة طويلة الأمد، تقودها عدة وسائل اعلام خليجية، منذ سنوات طويلة، غيرت كثيرا من ثوابت إدراك و" لاوعي" المواطن الخليجي "كفرد ومجتمع" نحو الصراع العربي مع الاحتلال، بحيث صرت ترى اعدادا متزايدة من الخليجيين تقولها صراحة " اسرائيل ليست عدوي" " فلسطين ليست قضيتي"، لإضافة الى عملية هندسة دقيقة تتم بشكل حثيث مؤخرا، لتجميل صورة "الآخر النقيض"، وتشويه صورة "الآخر الصديق" من خلال مجموعة من البرامج والاعمال الدرامية، ربما ليس ابتداءا من تزويج معتز الى سارة اليهودية وليس انتهاءا بأم هارون صاحبة اطيب قلب ومرورا بحارة اليهود ومخرج سبعة، اضافة الى عشرات الافلام الامريكية التي تزرع وتروي ببطء بذور "اسرائيل الجديدة الجميلة" في "اللاوعي الخليجي" ستجعلها مقبولة جدا بل ومرحباً بها في مرحلة ما، "بتقديري بين 3-5 سنوات"، وستنتج هذه البذور جيلا سعيدا "بإسرائيل"، ربما بمقدار اكبر من معاناة الشعب الفلسطيني من سياسات القتل والتشريد التي مارستها الصهيوينة ضده، تلك المعاناة التي لن تكون حاضرة في وعي الخليجي _وان حضرت فهو يستحق ما جرى له_ لان حضورها يعني تناقص البهجة التي تغمره بسبب ثمار "اسرائيل الجديدة الجميلة" تلك الثمار التي نمت وأينعت في أرض لطالما عانت التشقق والجَدبَ والجفاف.
ما العمل.. هناك اطنان من العمل، تحتاج كثير من الخبرات، كثير من الاعمال الاعلامية والدرامية، كثير من الرسائل، وكثير من الاموال.. باختصار تحتاج كثيرا من كل شيء، ولكنها بالدرجة الاولى تحتاج ان نبدأ.
[1] مستوطنة للاحتلال مقامة على اراضي محافظة سلفيت
[2] قريتين فلسطينيتين اقيمت مستوطنة اريئيل على اراضيهما
[3] حي من احياء دبي القديمة