الكاتب: عوني المشني
وجهين متناقضين تماما تستطيع ان ترى المشهد الفلسطيني من خلالهما ، مشهد النقد التحطيمي الذي يبحث بالابرة عن اي خطأ او حتى هفوة ويعظمها ليجد لها مكانا في صدارة المشهد ، صورة قاتمة للماضي والحاضر والمستقبل يرسمها هؤلاء الناقدون المتبرمون لا تترك مكانا لاي بارقة امل . بالمقابل نجد اصحاب المنهج التبريري الذين يحولون الهزائم الى انتصارات ويلوون عنق الحقائق ويعيدوا تكييفها لتخدم منطقهم التبريري ، يصورون المشهد وكاننا على عتبات التحرير والاستقلال ، الوان المشهد لدى هؤلاء وردية فائقة الروعة . وعندما تنتقل من قراءة المشهد من وجهة نظر الطرف الاخر تكون كمن انتقل من السباحة في ماء شبه متجمد الى ماء يقترب من حد الغليان ، او العكس تماما ، لا يمكن ان تجد الحقيقة الضائعة مهما دققت النظر في كلا القراءتين ، وكما قال علي عزت بيغوفتش " الكلمات تكشف الحقيقة ولكن يمكن ان توظف لاخفائها " الحقيقة الضائعة مفقودة لانه لا يمكن ان تكون لدى اصحاب المواقف النمطية المسبقة والذين يسقطون رغباتهم او احقادهم على قراءتهم للوضع الفلسطيني .
وما بين القراءتين او المشهدين مسافة كبيرة ، وهوة عميقة ، ما بين القراءتين هناك الكثير الكثير مما يتم اغفاله عمدا او استحضارمبالغا فيه بهدف الانتصار لوجهة نظر احدى القرائتين .
سنحاول هنا ان نضع سياقا منهجيا لقراءة الواقع الفلسطيني ، وهذا يتم اولا بالانطلاق من الحقائق الموضوعية التي بدى ان الوضع الفلسطيني الحالي هو نتاجها او متأثرا بها الى حد كبير .
السياق الذي نشأ فيه الصراع الفلسطيني الصهيوني هو سياق الهجمة الاستعمارية على العالم العربي ، الصهيونية هي شكل من اشكال هذه الهجمة الاستعمارية مع حفظ الاختلافات بينها وبين اشكال الاستعمار الاخرى ، المسألة الثانية والتي تأخذ سماتها من هذه الحقيقة هي ان جوهر الهجمة الصهيونية تكمن في تغييب الفلسطينيين كهوية وكيانية وشعب ، ربما هذا اهم شرط لنجاح الهجمة الصهيونية ، فالسردية الصهيونية قائمة باساسها على هذا الهدف . هناك ايضا قضية لا يمكن اغفالها وهي ان نصف الفلسطينيون منزرعين في ارضهم يمثلون ايقونة صمود لا مثيل لها ، هذا اضاف للفلسطينيين ما هو الكثير ، قوض رواية ارض بلا شعب وحقق الترابط بين فلسطين ارضا وشعبا . والملاحظة الثالثة ان كفاح الفلسطينيين لم ينقطع لحظة واخذ اشكال مختلفة وبابداع متواصل ، قدم الفلسطينيين من التضحيات الكثير الكثير ودون ملل او كلل .
في الجانب المقابل تماما هناك حقيقة تؤكد ذاتها في كل وقت وهي ان الاستثمار السياسي لنضالات شعبنا وتضحياته كان دوما استثمارا سيئا اذ تفشل النخب القيادية في ترجمته الى منجزات سياسية ، تفشل تحت الضغوط حينا وامام الاغراءات حينا اخر ، وتفشل عبر الاداء السئ قصير النفس في اغلب الاحيان ، قيادة لم تكن بمستوى التضحيات وغير قادرة على الارتقاء لمستواها . من جانب اخر لا نستطيع القول ان الفلسطينيين لا يمتلكون رؤية استراتيجية ولكنهم بالممارسة العملية لا يمتلكون المقدرة على توظيف امكانياتهم وادواتهم في تحقيق تلك الاستراتيجية ، يفكرون بشكل شمولي ويمارسون كفاحهم باغفال التفاصيل والخطط والبرامج فينتج مخرجات غير منتظمة وغير فاعلة ولا تترك اثرا في السياق العام للكفاح .
وما بين الملاحظات الايجابية والسلبية يبدوا امام الفلسطينيين قيادة ومثقفين وشعب صورة ضبابية غير واضحة المعالم تختلط فيها المشاعر بالحقائق بالرغبات ، يختلط الذاتي بالموضوعي ، المصالح الشخصية بالمصلحة الوطنية ، الاهداف بالادوات والوسائل ...... وهكذا يبدوا وكانه لا مخرج من دوامة الفشل والاحباط .
المنهج العلمي يبدأ من بناء استراتيجية وطنية واضحة وتحديد الادوات في سياق ديناميكي قابل للتغيير وبالتالي التعديل في الادوات والوسائل ، المنهج العلمي لا يأخذ وجها للصورة ويبني عليه هذه الاستراتيجية بل يزاوج بين الطموح والممكن ، الرغبة والمقدرة ، ينطلق من الواقع السلبي لتغييره لا لتكريسه .
ان اهمية وجود بنية سياسية قيادية تتعاطى مع المشهد الفلسطيني بهذا الشكل هو الخطوة الاولى نحو تغيير المشهد الفلسطيني ، وواضح جدا وعبر الربع قرن الاخير ان المستوى القيادي الفلسطيني الحالي يفتقد ليس الامكانية لذلك فحسب ، بل يمتلك الرغبة والمقدرة على فعل ذلك ، ولا امل في اعادة التجريب مع هذه النخب القيادية ، اعادة التجريب مضيعة للوقت والجهد واعطاء الوقت مجانا لعدونا ليستثمره . ما تستطيع قيادتنا فعلة - هذا ان كانت تمتلك المسئولية - هو توفير فرصة للانتقال الامن ، توفير الفرصة لاعادة بناء منظمة التحرير على اساس ديمقراطي اولا وجمعي لكل فسيفساء شعبنا واماكن توجده ثانيا ، وببرنامج وطني . هذا هو المدخل الامن ، وهذه هي نقطة البداية . هذه الامكانية لا زالت قائمة ، ولكن ليس للابد ، فاذا لم تتم الان ، والان نعني بها فورا وبدون تردد فان التغيير سيداهم شعبنا وباساليب قد تكون غير امنة وهذا بحد ذاته امرا خطيرا ولكن ليس باخطر من استمرار الوضع الحالي .