الإثنين: 27/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

القضية والرواية الوطنية الفلسطينية: من لجنة بييل لصفقة القرن

نشر بتاريخ: 11/10/2020 ( آخر تحديث: 11/10/2020 الساعة: 12:38 )

الكاتب:

(الجزء الأول)

لم تبدأ قضية الفلسطينيين الوطنية العادلة في العام 1917 مع إعلان وعد بلفور المشؤوم, فقد كانت هناك نخب يهودية تحضر وتعمل بجد وبتخطيط مدروس لإنتزاع وتحقيق الوعد وما بعد الوعد لإنشاء وتثبيت وطن قومي يهودي وللسيطرة على محيطه خدمة لتطوره وتعزيزاً لسيطرته. وبمراجعة هادئة ومتأنية لما حصل من أحداث بعد إصدار وعد بلفور والمحطات المفصلية المتلاحقة في تاريخ القضية الفلسطينية، مروراً بأخطرها في فترة "الإنتداب البريطاني"، نجد أن رواية دخيلة تم إنتاجها لأرض فلسطين وتم إعتمادها مرجعاً نصياً صيغت على أساسه العديد من مبادرات التسويات السياسية. بل أن أخطر تأثير لتطور الرواية المنتجة تمثل في تحويل رواية القضية الفلسطينية الأصيلة من قضية شعب له حق ممارسة مبدأ "حق تقرير المصير" المكفول دولياً وقانونياً، لقضية نزاع سياسي باتت تشكل عبئاً على الصديق والشقيق.

إن إنتاج وتوثيق الرواية الدخيلة بدأ رسمياً مع صياغة وعد بلفور الذي أشار بصريح النص لإنشاء "وطن قومي لليهود في فلسطين" قبل ثلاث سنوات من بدء حقبة الإنتداب لفلسطين والأردن والذي منحته "عصبة الأمم" لبريطانيا، لتبدأ تنفيذه في نيسان من العام 1920م أي قبل عامين من مصادقة "عصبة الأمم" عليه. إن ما جاء في المادة 22 من "ميثاق عصبة الأمم" أوضح أن "المستعمرات والأقاليم التي تسكنها شعوب وكانت تحكمها دول (الأمبراطورية العثمانية) إنتهت سيادتها نتيجة للحرب فإنه ولضمان مساعدة هذه الشعوب في مواجهة الظروف العالمية الصعبة ولتنميتها فإن مبدئ رفاهية وتطور هذه الشعوب تشكل إلتزام مقدس للعالم المتحضر وأن تأمين إنفاذ هذا الإلتزام يتجسد في هذا الميثاق"، ولهذا فإن الإلتزام يقوم على ضمان "تمتع الشعوب تحت الإنتداب بحقها في ممارستها لتقرير مصيرها".

لقد ظهر جلياً منذ اللحظة الأولى تواطؤ الإنتداب البريطاني مع الحركة الصهيونية مباشرة بعد التصديق على الإنتداب حيث تقدمت الحكومة البريطانية بمذكرة لعصبة الأمم في أيلول من العام 1922م إشارت فيها إلى "وجوب إستثناء منطقة شرق الأردن (Transjordan) من جميع الأحكام المتعلقة بالأستيطان اليهودي"، الأمر الذي وافقت عليه عصبة الأمم، وعليه قامت بريطانيا بإعتماد نظامين إداريين منفصلين للمنطقتين، ولاحقاً في العام 1928م نقلت معظم صلاحيات الإنتداب البريطاني لحكومة شرق الأردن تنفيذا لمبدأ حق الشعب في هذا الإقليم في تقرير مصيره، إلى أن تم الإعتراف لاحقاً بأستقلال المملكة الأردنية من خلال الإتفاق الذي أبرم بين بريطانيا والأردن في 22 نيسان عام 1946م.

كان من الواضح خطط بريطانيا بحصر منطقة الإنتداب البريطاني على المنطقة (فلسطين) الواقعة غرب نهر الأردن في العام 1922م، وقد ذكرت بعض الدراسات البريطانية أن هذا الحصر لمنطقة الإنتداب جاء لتقليل حجم الأراضي التي كانت ستخصص لليهود "كوطن قومي". وقد كان من الواضح نفوذ القيادات اليهودية منذ اليوم الأول لتنفيذ الإنتداب والذي تمثل أهمه بتعيين اليهودي الصهيوني هربرت صمويل أول مندوب سامي للحكومة البريطانية في فلسطين وقد أصدر فور تعيينه قانون الهجرة لتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، ثم تسهيل عمل "الوكالة اليهودية" في سعيها للإستيلاء على ألأراضي الفلسطينية إلى إنشاء "جمعية فلسطين الشرقية" التي كانت تعمل للتنقيب عن الآثار التوراتية في كل فلسطين. وكان واضحاً أن الإنتداب ما هو إلا محطة تاريخية ضرورية لتنفيذ وعد بلفور نحو إقامة "وطن قومي" مع ضمان أمنه.

مع إزدياد الهجرة اليهودية وإتساع وتيرة الإستيلاء على الأراضي الفلسطينية والإحتكاكات التي بدأت بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود، ومع التحيز الواضح من المندوب السامي وقوات الإنتداب في تعاملها بقسوة مع الفلسطينيين، أعلن الفلسطينيون الإضراب العام في العام 1936م بعد أن أستشعروا الخطر المحدق على وطنهم. أما بريطانيا فقد تعاملت مع الإضراب الشامل بشكل عنيف وغير مسبوق ضد الفلسطينيون تمثل بإجراءات قاسية جداً تمثلت في العقاب الجماعي، وهدم البيوت، والإعتقالات، والإعدامات، حيث ذكرت الوثائق أن عدد من قتل من الفلسطينين حتى العام 1939م تجاوز خمسة الاف فلسطيني. ونتيجة لتلك التطورات، وبطلب من مجلسي اللوردات والعموم، شكلت الحكومة البريطانية لجنة إستقصائية بقيادة السياسي البريطاني روبرت بييل وعضوية إثنين من حاكمي المستعمرات البريطانية في الهند. وفور وصول اللجنة إلى فلسطين في تشرين ثاني من العام 1936م قامت بتحديد عملها على مسارين، الأول عام وهو يتعلق بأخذ إفادات من سكان فلسطين من الفلسطينيين (العرب) واليهود والمسار الثاني، وهو مصنف "عالي السرية" يتمثل بالإلتقاء بقيادات وجمعيات من الطرفين الفلسطيني واليهودي، وتسجيل شهاداتهم وإفاداتهم والوثائق التي يقدمونها دعماً للإفادات مع تسجيل المقابلات بالصور الفوتوغرافية.

أعلنت لجنة بييل أن وجودها لإستقصاء الوضع في فلسطين ينتهي في كأنون ثاني من العام 1937م ودعت قيادات الأطراف للتعاون معها. على الجانب الفلسطيني ردت "اللجنة العربية العليا" التي تشكلت في العام 1936م كإطار قيادي يمثل الشعب الفلسطيني، بأنها لن تعطي أية شهادة أو إفادة للجنة بييل إلا إذا قامت الحكومة البريطانية بوقف الهجرة اليهودية لفلسطين، وقد رفضت الحكومة البريطانية مباشرة هذا الشرط. وعليه قاطعت اللجنة العربية العليا لجنة بييل ودعت الفلسطينيين لمقاطعتها إلى أن تدخل الملك عبدالله الأول ملك المملكة الأردنية، ونوري السعيد رئيس الوزراء العراقي وعبد العزيز آل سعود مؤسس وملك المملكة العربية السعودية لدى اللجنة العربية العليا كي تتعاون مع لجنة بييل، وكان ذلك قبل إنهاء اللجنة لعملها الإستقصائي بفترة قصيرة. أما على الجانب اليهودي فقد تعاونت القيادات والمنظمات والجمعيات اليهودية والصهيونية مع لجنة بييل سواء في المسارين سواء اللقاءات العامة أو اللقاءات المصنفة بعالية السرية، حيث زودت اللجنة بالعديد من الوثائق والشهادات التي إستندت في معظمها إلى الرواية الدينية (العهد القديم -التناخ- والتوراة ..الخ) والتي تدعم "حق!!" اليهود في العودة لوطنهم القومي، كما قاموا بتسليم اللجنة وثائق تفسيرية دينية عديدة، ووثائق أبحاث لدراسات الآثار التوراتية التي قادتها "جمعية فلسطين الشرقية".

قامت الحكومة البريطانية في العام 2017م بالسماح بنشر وثائق الإنتداب البريطاني المصنفة بعالية السرية وتحديداً محاضر لجنة بييل الإستقصائية ومشاوراتها مع الأطراف في فلسطين قبل أن تصدر تقريرها المسمى "تقرير لجنة بييل" في تموز من العام 1937م. وبمراجعة الوثائق العديدة التي تم نشرها يمكن تسجيل النقاط التالية:

بينت الوثائق أن مجلسي العموم واللوردات البريطاني كانا قد رفضا فكرة تقسيم فلسطين وأظهرا ميلاً أكثر لفكرة إنشاء "مجلس عربي-يهودي مشترك" يمثل بنسب تواجد العرب واليهود في فلسطين بإعتبار أن فلسطين تحت الإنتداب هي وحدة جغرافية غير مقسمة. وقد بينت الوثائق أن تعداد اليهود شكل ما نسبته 29% من إجمالي عدد السكان في ذلك الوقت.

أشارت الوثائق إلى أن الفلسطينيين واليهود على حد سواء ذهلوا من رفض مجلسي العموم واللوردات لفكرة تقسيم فلسطين كما أن الوثائق أشارت أيضاً لرفض الفلسطينيين منح اليهود حقاً في أرض فلسطين.

إن تأثير الشهادات والإفادات اليهودية الدينية كان واضحاً وضوح الشمس في نصوص التقرير والتي دعمت بشكل قوي حق اليهود في فلسطين. أما أهم هذه النصوص فهي:

أن أبراهيم عليه السلام هو جد اليهود وهو من أراد التضحية بإبنه إسحق عليه السلام لولا تدخل الله.

أن القدس قلب الأرض المقدسة هي العاصمة والمركز الديني لليهود قبل ما يزيد عن 3000 عام منذ أن وحد الملك داود قبائل الإثنا عشر ولاحقاً عندما بنى سليمان الهيكل الأول ووضع فيه الوصايا العشر بوحي من الله إلى أن تم تدمير الهيكل على يد البابليين، وثم إعادة بناء الهيكل الثاني إلى أن دمره الرومان وحتى ظهرت نبوءة العهد القديم التي تقول بأن الهيكل الثالث سيبنى تحقيقاً لمشيئة الله بعد عودة اليهود لأرضهم الموعودة.

إن الموقع الأكثر قداسة لليهود هو "جبل الهيكل" والذي تمت الإشارة له في حوالي 700 موضع في التوراة والعهد القديم.

أن يسوع الناصري الذي ولد لاحقاً بشّر اليهود بالمسيحية في القدس إلا أن أول المؤسسات الدينية المسيحية الموجودة في فلسطين تم إنشاءها بعد القرن الرابع الميلادي، أي بعد التواجد الديني اليهودي في فلسطين بزمن كبير. كما أن العاصمة الدينية المسيحية تقع في روما وليس في القدس.

أن العرب المسلمون سيطروا أول مرة على القدس وفلسطين في القرن السابع الميلادي عندما كان المسيحيون واليهود يسكنون القدس وكانت مكة هي العاصمة الإسلامية، ثم قام المسيحيون الصليبيون في القرن الثاني عشر الميلادي بإستعادتها من المسلمين إلى أن سيطر المسلمون عليها مرة أخرى في زمن صلاح الدين الأيوبي أواخر ذلك القرن.

إن عواصم المسلمين السياسية في تاريخ الخلافة الإسلامية لم تكن بالمرة مدينة القدس وإنما كانت مدن دمشق وبغداد وأن وجود المسلمين والمسيحيين في القدس، وفلسطين جاء من خلال الغزوات والحروب.

إن هناك إرتباط وثيق بين فلسطين كأرض مقدسة والقدس وجبل الهيكل وبين النصوص التوراتية ونصوص العهد القديم بينما ليس هناك إرتباط مشابه موجود لا في الإنجيل ولا في القران.

من الواضح أن نصوص التقرير إنحازت لإعطاء اليهود حقاً في فلسطين وغاب عنها الرواية الوطنية والدينية العربية الفلسطينية والمبنية أيضاً على الوثائق وملكيات ومخطوطات وآثار تعود لآلاف السنين، وقد ظهر هذا نتيجة عدم موافقة الجانب الفلسطيني حينها في التعامل مع هكذا لجان إستقصائية، حتى وإن كانت في جوهرها متحيزة للطرف الآخر.

بدا تأثير تقرير لجنة بييل واضحاً كمرجع اساسي لما عرف "بالورقة البيضاء" الصادرة عن الحكومة البريطانية في العام 1939م والتي أكدت مرة أخرى على حق اليهود في أرض الإنتداب البريطاني الأمر الذي وفر غطاء للحكومة البريطانية بإصدارها في شباط من العام 1940م للوائح تصنيف أراضي الإنتداب إلى ثلاثة مناطق A و B و C لكل منها قيود مختلفة تتعلق ببيع الأراضي بهدف إضفاء "الشرعية" على الهجرة اليهودية إلى أراضي فلسطين وتسهيل عمل "الوكالة اليهودية" في السيطرة على الأراضي الفلسطينية. ويدور الزمن دورته، وصولًا إلى اتفاقية أوسلو التي صنَّفت مناطقنا إلى نفس التصنيفات، وإن اختلفت مواصفات كل صنف، إلا أنها تصب –في النهاية- في صالح الاحتلال الإسرائيلي.

--يتبع--