الكاتب: ناصر دمج
وعد بلفور
قبيل نهايةِ الحربِ العالميّةِ الأولى احتلَّ البريطانيونَ سنجقَ القدسِ (جنوب ووسط فلسطين) في كانون الأول 1917م، وأكملوا احتلالَ شمالِ فلسطينِ في أيلول 1918م، بعد أن دخلوا فلسطينَ كقوّة حليفة للثّورةِ العربيّةِ التي قادها الشّريف "حسين بن علي1854-1931م"،ملك الحجاز، ولذلكَ لم يَلْقوا مُقاومةً من أبناءِ فلسطينَ، لجهة وعودِهم للعربِ بالحرّيةِ والاستقلالِ.
لكنّ تَنكُّرَ بريطانيا لعهودِها، ومنحها اليهود وعدَ (بلفور) الداعي إلى إنشاءِ وطنٍ قوميٍّ لهم في فلسطينَ، فَتحَ البابَ عريضًا لمقاومةِ المشروعِ الصّهيونيّ والاستعمارِ البريطانيّ؛ غيرَ أنَّ الفترةَ الواقعةَ بين أعوام 1917 - 1929م اتّسمتْ بتبنِّي قيادةِ الحركةِ الوطنيّة الفلسطينيّة للمقاومةِ السياسيّةِ السلميّةِ، "لأنّأبعادومرامي المشروع الصهيوني لم تظهر بعد، وَكانَ اليهودُ يشكّلونَ ما نسبتُه 8% من مجموعِ السكّان عام 1918م، ويملكون 2% فقط من أرضِ فلسطينَ، ولأنّه كانَ لا يزالُ هنالكَ أملُ بأنْ تَعدِلَ بريطانيا عن موقفِها فضلًا عن ضعفِ الفلسطينيين، وقلّةِ خبرتِهم في مواجهةِ بريطانيا العُظمى، التي كانت أكبرَ قوّةِ استعماريّةٍ في العالم".(المصدر- د. عبد الوهاب الكيالي، المصدر السابق نفسه(
وهكذا سقطتْ فلسطين بيدِ الاستعمارِ الصّهيونيّ؛ وكانتْ الضّحيّة الوحيدة للثّورةِ العربيّةِ الكُبرى، وأضْحوكَة السّير (هنري مكماهونSir Henry McMahon 1862- 1949م)، على ملكِ الحجازِ، من هنا يُمكنُ أنْ نتلمُّسِ النّتائجِ المعاكسةِ للمجهودِ الإسلاميِّ والعربيِّ والفلسطينيِّ، ولكلِّ فعل نضالي هدفهُ الحفاظُ على فلسطينَ للأسف الشديد.
وتجسد ذلك بتخلي بريطانيا عن وُعودِها للعربِ بشكلٍ سافرٍ وغادر وأعلنت على لسانِ اللّورد (آرثر بلفور Arthur Balfour 1848- 1930) وزير خارجيّتها عن وعدٍ قاطعٍ باسم ملكةِ بريطانيا العُظمى بتاريخ 2 تشرين الثاني 1917م مفادُه بأنَّها ستمنحُ أرضَ فلسطينَ لليهودِ وستساعدُهم في إقامةِ وطنِهم فوقَ التّرابِ العربيّ الفلسطينيّ، بسببِ ذلك أندلعت الاحتجاجاتُ الفلسطينيّة، فأنشأّ الشبابُ الفلسطينيُّ أولى تشكيلاتِهم العسكريّة وكانت باسمِ (جمعيّة الفدائيّة) وكانَ ذلك في بدايةِ عام 1919م وتكوّنت لِهذهِ الجمعيّةُ فروعٌ في يافا والقدس وغزّة ونابلس وطولكرم والرّملة والخليل، وتولّى زعامتَها في البدايةِ محمّد الدّباغ، ثم محمود عزيز الخالديّ، واستمرّتْ بأشكالٍ مختلفةٍ حتّى عام 1923م. وكانَ من الشّخصيّاتِ الموجّهةِ لها في الخَفاءِ الشيخ سعيد الخطيب، والحاج أمين الحسينيّ، والشّيخ حسن أبو السعود، والشّيخ محمد يوسف العلمي".(المصدر-See: Report on the Arab Movement & Zionism, by J. Camp, 12 Aug 1919, F.O. 371/4182, Yeshoa Porath, The Emergence of the Palestine National Movement, 1918-1929 {London: Frank Cass, 1974} p. 129.)
إعلانُ الانتدابِ البريطانيّ على فلسطين 24 تموز 1922م
منح وعد بلفور للحركة الصهيونية الغطاء الذي كانت تبحث عنه لمواصلة شرائها للأراضي وتكثيف هجرة اليهود إلى فلسطين، وتوج ذلك بإعلانوزيرِ المُستعمراتِ البريطانيّ ونستون تشرشل بعد زيارته لفلسطين بتاريخ 28 آذار 1921م، عن دعم بريطانيا بشكل قاطعٍ فكرة إنشاء وطنِ قوميِّ لليهوديِّ في فلسطين، وكانَ لقاؤُهُ بالوفدِ العربيّ الفلسطينيّ في القاهرةِ في 22 آذار وفي القدسِ في 28 من الشّهرِ نفسه مخيّبًا للآمالِ.
حدث ذلك بعد أن أستنتَجَ تشرتشلُ من زيارتِهِ لفلسطينَ، بأن الظروف مناسبة لمواصلة العمل، فأعلنت بريطانيا وحلفاؤها عن الانتدابِ على فلسطينَ الذي ستكونُ وظيفتُه الرّئيسةُ تهيئةَ الظّروفِ الجيوسياسيّةِ لترسيخِ الاستعمار الصهيوني لفلسطين، وهذا ما تعزز من خلال تعين بريطانيا لشخصيات صهيونية في غالبية المرافق الحساسة في فلسطين، ومنها وظيفة المندوب السامي لملكة بريطاني في فلسطين، فكان أول مندوب سامي لها (هربرت صمويل)، وهو سياسيٌّ بريطانيٌّ يهوديٌّ وأحدُ أعمدةِ الحركةِ الصّهيونيّةِ.
بعد ذلكَ أعلنت عُصبةُ الأُممِ صكَّ الانتدابِ البريطانيّ على فلسطينَ بتاريخ 6 تموز 1921م وصُودِقَ عليْه في 24 تموز 1922م، ووُضِعَ موضعَ التنفيذِ في 29 أيلول من العامِ نفسه. ويتألّفُ صكُّ الانتدابِ من مقدّمةٍ و 28 مادّةٍ، منها سبعُ موادٍ تتحدّثُ عن إقامةِ الوطنِ القوميِّ اليهوديِّ في فلسطينَ، أهمها المادّةُ الثانيةُ التي ألقَتْ على عاتِقِ حكومةِ الانتدابِ ثلاثَ مسؤولياتٍ هي: وضعُ البلادِ في أحوالٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ وإداريّةٍ تتضمّنُ إنشاءَ الوطنِ القوميّ اليهوديّ، وترقيةَ مؤسّساتِ الحُكم الذاتيّ، وصيانةَ الحُقوقِ المدنيّة والدينيّة لجميعِ سكّانِ فلسطينَ بصَرْفِ النّظرِ عن الدّينِ أو الجِنسِ.
الاستيطان الصهيوني في ظل الانتداب البريطاني
تعتبر مرحلة الانتداب البريطاني في فلسطين المرحلة الذهبية للاستيطان الصهيوني في فلسطين، حيث احتلت بريطانيا فلسطين وهي ملتزمة بوعد بلفور، وبذلك أصبح الاستيطان اليهودي يتم تحت رعاية دولة عظمى تديره وتتكفل بحمايته، إذ اتصف في مراحله الأولى بالعشوائية، وواجه العديد من المشاكل فيما يتعلق باليهود خارج فلسطين، في هذه المرحلة خضع الاستيطان للاعتبارات السياسية والإستراتيجية، فأقيمت العديد من المستوطنات في المناطق الإستراتيجية، وكانت على شكل مجتمعات مغلقة تشبه (الغيتو)، تعتمد على سياسة العمل العبري لتأسيس نفسها كنواة للوجود الصهيوني في فلسطين، كما سهلت سلطات الانتداب البريطاني، وبمختلف الوسائل، عملية نقل ملكية الأراضي الفلسطينية إلى المنظمات الصهيونية، ومنحت الوكالة اليهودية أراضي حكومية واسعة مساحتها (195) ألف دونم، في مناطق مختلفة من البلاد بما فيها أراض من السهل الساحلي الفلسطيني، أعطيت لبلديات (تل أبيب و بتاح تكفا)، من أجل توسيع رقعة المستوطنات فيهما، ووضعت حكومات الانتداب البريطاني في عام 1921م، (175) ألف دونم من أملاك الحكومة تحت تصرف المنظمات الصهيونية من أجل إقامة المستعمرات عليها لتوطين المهاجرين، وهو ما أدى بدوره إلى قيام ثورة 1921م، التي قمعتها القوات البريطانية بشدة، حيث انضم المستوطنون إلى جانب الإنجليز في قمع هذه الثورة.
وتجددت خلال هذه الفترة عملية شراء الأراضي من بعض الإقطاعيين والتجار اللبنانيين، الذين كانوا يملكون مساحات واسعة من الأراضي في شمال فلسطين.(المصدر- كامل خلة، مرجع سابق، ص 256، وانظر:Report on the Political Situation in Palestine for the Month of May 1921, F.O. 371/6375)
الأثر السياسي لوعد بلفور
مما لا شك فيه أن وعد بلفور، والرعاية السياسية والعسكرية البريطانية له الحق أفدح الأضرار بالشعب الفلسطيني، لأنه قدم دفعة مهمة لاستكمال المشروع الصهيوني في فلسطين، وعليه تم بناء مداميك تشييد دولة الاحتلال التي شردت عصاباتها المسلحة أكثر من 800 ألف فلسطيني من منازلهم في حرب عام 1948م.
لهذا من الواجب على المستوى السياسي الفلسطيني، والنخب القانونية والاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية، الشروع بأكبر عملية ملاحقة لدولة الاحتلال البريطاني، على ما اقترفته من جرائم بحق شعبنا وحق الشعوب التي استعمرت بلدانها ونهبت خيراتها.
وفي هذا المقام لا بد من الثناء على مبادرة التجمعالوطني للمستقلين، الذي يرأسه رجل الاعمال الفلسطيني "منيب المصري" والمؤسسة الدولية لمتابعة حقوق الشعب الفلسطيني، ونقابة الصحفيين الفلسطينيين، التي أطلقت بتاريخ 22 تشرين أول 2020م، لرفع دعوى قضائية أمام المحاكم الوطنية، ضد حكومة بريطانيا، لمسؤولياتها عن معاناة الشعب الفلسطيني خلال فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين 1917م – 1948م، وتسببه بتأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي التي شردت شعبنا من دياره،ومطالبة بريطانيا بالاعتذار للشعب الفلسطيني وتعويضه عن ما الحقته به من خسائر لا تعد ولا تحصى.