الأحد: 22/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

الأسير أسامة الأشقر: إحتجاز العقل والإرادة هو أكبر حالة اعتقال وأعنفها في التاريخ

نشر بتاريخ: 15/11/2020 ( آخر تحديث: 15/11/2020 الساعة: 14:46 )

الكاتب: عيسى قراقع

مذاق آخر للسجن للكاتب الأسير أسامة الأشقر هو مزيج من ملح وسعال ورطوبة وخوف ودم ولا يقين، رائحة موت وجفاف، تبلد الذات ودوران في فراغ بلا زمن، ولكن الأسير المناضل أسامة الأشقر يجعل للسجن مذاق آخر، تتغير الروائح واللوائح وينقلب السجن على السجان، انهارت الجدران وتحطمت الكلبشات ولم يعد هناك دور للعزل والقمع والزنازين والشبح والإذلال، لا دور للجلاد وأطباء السجون وقضاة المحكمة العسكرية، القبر الذي أراده المحتلون أن يدفنوا الأسرى في جوفه يفتح ويطلق من داخله كل أسباب الحياة.

للسجن مذاق آخر يوثق مسيرة وكفاح الأسرى الذين لم يستسلموا للسجن والصمت والخنوع والذوبان، أخرجوا السجن من ذواتهم وخاضوا معارك الكرامة دفاعاً عن انسانيتهم وحقوقهم حتى هدموا السجن فحررهم الأمل وحلقوا فوق السياج.
هذا الكتاب الخارج من ثماني مؤبدات وخمسين عاماً ومن أقصى أقاصي الغياب، لم تحترق نصوصه أو تتعثر في هذا الطريق الطويل الشاق، وصلت لتروي مسيرة الحركة الوطنية الأسيرة منذ البدايات، مسيرة الإنسان الذي يصنع الحرية بإرادته ولحمه وصموده ويكسر حدود المكان.
يكشف كتاب مذاق آخر للسجن عن حروب الظل التي تشنها إدارة السجون على واقع الأسرى الحالي، ليس بالعصا والقمع المادي فقط وإنما على شكل مقايضات بين المؤسسة الإسرائيلية والأسرى، فيتم التغيير بالحالة المادية المعيشية على قدر التغيير في الحالة الفكرية والوطنية لدى الأسرى، فأصبح العقل والروح والوحدة والقيم الجمعية هي المستهدفة في تقنيات السيطرة الحديثة التي يقودها جهاز الاستخبارات في سجون الاحتلال ومن خلال أيدي داخلية من رجال الكابو الذين تحولوا الى سجانين وجعلوا للسجن رائحة مزرية ورهيبة.
الأسير أسامة الأشقر يشعر أنه اصبحت للسجن في السنوات الأخيرة أنياب أكثر شراسة من السابق، سار السجن مختبراً لجهاز الأمن الاسرائيلي: اخضاع الاسرى وتدجينهم وتمزيق صفوفهم وتحويل اهتماماتهم من الاهتمامات الوطنية الى الاهتمامات الفردية والمصلحية لتبرز وجوه اخرى وقيادات بديلة في عالم السجن، وجوه تغذي الانقسام والتشتت والمصالح الفردية ومفاهيم السلطوية والشللية، فكان الانقضاض الكبير على منجزات الحركة الاسيرة وعلى المؤسسة الاعتقالية الجامعة وثقافتها الوطنية، لقد جرى اختراع سجون في السجون يحكمها الأباطرة ورجال المافيا كما يقول أسامة.
كتاب مذاق آخر للسجن يفضح فصول المؤامرة التي شنت على إضراب الحرية والكرامة في نيسان 2017 والذي قاده الأسير مروان البرغوثي بهدف إعادة الهيبة والمكانة الوطنية للحركة الأسيرة والتصدي لنظام السيطرة والفصل والكانتونات التي تطبقها إدارة السجون على واقع الأسرى، لقد حورب هذا الاضراب بطريقة قمعية ووحشية غير مسبوقة وجندت دولة الاحتلال كل وسائلها لافشالة والحيلولة دون تحقيق اهدافه
لن يصدق أحد أن نص الأسير أسامة الأشقر قد نجا وتحرر من بين القضبان، في داخل هذا النص رواية وتاريخ وانسان، ولن يصدق أحد أن النص قد تجاوز مرحلة التعذيب القاسي في أقبية التحقيق، وتجاوز الجرائم الطبية واستهتار الأطباء، وأن النص خرج من زنازين العزل الانفرادي ومن البوسطه الجهنمية، ولم يصدق أحد أن النص قد انتصر على القمع بالهراوات والبساطير وقنابل الغاز وسوء المعاملة في السجون، هذا النص الذي استشهد مئات المرات قتلاً وتعذيباً وقهراً عاد حياً من جديد.
إنه مذاق الحرية، مذاق لايفهمه السجانون والمستعمرون، لا يتذوقه سوى المعذبون الساعون للحرية والخلاص، لا نريد حياة عادية، قالت منار خلاوي خطيبة الكاتب أسامة الأشقر، نريد حياة نعجنها بدمنا وتضحياتنا لتكون حياة سعيدة وجزءاً من كينونتنا، نعرفها وتعرفنا وتشبهنا، حياة خالدة لانخسرها في يوم من الأيام، حياة عصية على المفاوضة والمساومة، حياة الحرية الحقيقية الواضحة التي لا تحتاج الى مساحيق لتجميلها أو تشكيلها وفق مقاسات الجرافات والدبابات وموازين القوى السياسية، حياة كلها لنا من الوريد الى الوريد الى الممات.
كتاب مذاق آخر فيه طعم التحدي وكما قال أسامة: إذا استسلمنا للقيد وعزفنا عن الحياة انتصر القيد على الحياة والوطن معاً، فما هو التحدي يا أسامة؟ يجيب: أن نبدع في الموت لإجتراح الحياة، أن نبدع السفر في طموحاتنا وآمالنا وأحلامنا ومشاعرنا وخيالنا خلف الأسوار ونعانق الفضاء، أن نكتب ونرسم ونغني ونلتقي الأحباء والأصدقاء ويصبح البعيد قريباً، التحدي ان لا تتحجر عواطفنا وتصير كحجارة السجن، التحدي أن ننجب أطفالاً من النطف المهربة ما استطعنا الى ذلك سبيلا، التحدي أن نحمل شهاداتنا الجامعية في اكاديمية السجن وننتصر على سياسة الطمس والتجهيل الثقافي والروتين القاتل، التحدي أن تتحرك خلايا دمنا ولا نتكلس في السجن لتصير أجسادنا وأرواحنا جزءاً من الجدار، التحدي أن نرفض أن نصير مجرد أرقام وعاجزين في العدم نحلق في الفراغ.
كتاب للسجن مذاق آخر هو مشروع سياسي ثوري يدعوا الى فك الأسر عن العقل الفلسطيني وتحريره، فسجن العقل والارادة هو اكبر حالة اعتقال واعنفها في التاريخ، فالعقل هو الوعي والذاكرة وهو مركز الابداع والتفكير والتخطيط، وما يجري في السجون هو مخطط اسرائيلي مبرمج لجعل عقل الأسير يحارب ويسجن نفسه بنفسه، ولجعل خطاب الاسير يخلو من لغة المستقبل، ارادته مشلولة مقيدة باليأس.
الأسير أسامة الأشقر يحرر عقله ولغته ويكتب هذا الكتاب الذي تحول الى بيان ومنشور ينطق بلسان الحقيقة والذي يقول أن نظام السيطرة الاسرائيلي له ابعاد استراتيجية ولا يكتفي بالحد من حرية الأسير وانما بنزع مشروعية نضاله الوطني ووسمه بالارهاب، إنه مشروع للسحق والفناء، مشروع يستهدف أن يفقد المرء الشعور بالاحساس والحرية والاستقلال.
للسجن مذاق آخر هي رواية انسان الحرية الذي نراه فوق أعلى الموجات وأشرسها، نراه في كل الرياح العاتيات وفي كل الفصول المتقلبات، انسان الحرية هو الثابت الذي لا يهبط الى التهميش او القاع، انه فارس الأحلام الذي يأتي على صهوة المجد المجلل بهالة الابطال يهبط على بساط الوعد ويعبر تحت أقواس النصر، هذه كلمات منار خطيبة أسامة وقد مدت بالحب والأمل حبل التواصل مع زمن أسامة الأشقر، أصبح الزمن ملك أسامة ومنار وليس ملك نظام السجن وإرادة السجان.