السبت: 21/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

شعبوية ترامب وتداول السلطة

نشر بتاريخ: 17/11/2020 ( آخر تحديث: 17/11/2020 الساعة: 13:14 )

الكاتب: رمزي عودة



لم تزل مشكلة انتقال السلطة مثار جدل في الولايات المتحدة الامريكية، فقد كرر ترامب تصريحاته وتغريداته عن وجود تزوير كبير وغياب الشفافية في الانتخابات الرئاسية التي جرت أوائل الشهر الجاري. وقام محاموه برفع العديد من القضايا أمام محاكم الولايات من أجل اعادة فرز الاصوات. وتهدف هذه الدعاوي بشكل واضح الى تعطيل الاعلان النهائي والرسمي لفوز منافسه الديمقراطي بايدن. ومؤخرا، ألمح ترامب من خلال بعض الخطوات السياسية والتغريدات الى عدم رغبته في تسليم السلطة لانه لا يعترف بنتائج الانتخابات، وقد عبر عن هذه النوايا عندما طلب من الوكالات الفيدرالية المضي قدما في اعداد الموازنات الخاصة بها، وهو الاجراء الذي يجب على فريق بايدن الانتقالي القيام به بنفسه. كما يبدو اعلان بومبيو وزير الخارجية الامريكية عن ترتيبات انتقال السلطة في وزارة الخارجية الى الادارة الجديدة وهي التي ستكون حتما ادارة ترامب تحدي صريح وواضح للاسس الديمقراطية التي أنشأت بموجبها الولايات المتحدة في توافق الاباء المؤسسين عليها قبل اكثر من ثلاثة قرون.

ووفقا لشبكة (CNN)، فان مقربيين من الرئيس الامريكي المهزوم ترامب أشاروا الى أنه قد يفكر باعادة ترشحه للانتخابات القادمة عام 2024، وأنه بدأ يشعر بخسارته للانتخابات، الا أنه وبرغم هذه التسريبات، فان المشهد السياسي في الولايات المتحدة بشكل عام يشير الى احتمالية متصاعدة لانتقال النظام السياسي الى حالة من الفوضى والجمود؛ وخاصة في ظل عدم تناول الدستور الامريكي لموضوعة رفض الرئيس تسليم السلطة بعد الانتخابات. ويزيد من تعقد هذا المشهد وغموضه اصرار ترامب على عدم تسليم السلطة الى بايدن الذي فاز بالانتخابات الرئاسية في غالبية الولايات، وتجاوز الرقم السحري للفوز في الانتخابات بأريحية كبيرة لا يمكن لترامب ان يتجاوزه حتى لو فاز بأصوات كل الولايات المتبقية التي لم تعلن نتائجها بعد.
الجميع في الولايات المتحدة المتحدة يدرك أن ترامب يتلكأ في تسليم السلطة الى الفريق الانتقالي الذي شكله بايدن. وتؤكد صحيفة "واشنطن بوست" بأن تقارير غالبية الخبراء تشير الى أنه حتى لو صحت دعاوي ترامب في الولايات بحدوث تزوير في بعض الاصوات، فان هذه الاصوات لن يكون بمقدارها تغيير النتائج، بسبب الفارق الكبير في الاصوات لصالح بايدن. ومع ذلك، يصر ترامب على مقولته بتزوير الانتخابات وعدم رغبته بتسليم السلطة نتيجة لهذا التزوير.
في الواقع يدرك ترامب بأنه لا يستطيع الا أن يسلم السلطة الى بايدن، فالولايات المتحدة دولة عميقة، والديمقراطية فيها عملية راسخة ليس فقط في الممارسة وانما أيضا في ثقافة الجمهور. كما أن عدم تسليم السلطة يعتبر جريمة فيدرالية تصل في درجتها الى جريمة الخيانة العظمى، وهو الامر الذي يعرضه الى مساءلة قانونية من قبل مجلس الشيوخ ومحكمة العدل العليا في حال استمراره بالسلطة. وبرغم ذلك، فان ترامب يبالغ في تصريحاته العدائية، ولا يمكن فهم هذه التصريحات الا اذا فهمنا طبيعة الشعبوية اليمينية التي يقودها الاخير في الولايات المتحدة. فالشعبوية التي ترفض تمثيل النخب، وتتسم بالتبسيط الشديد لقضايا المجتمع من خلال خطاب كاريزمي يتلاعب بعواطف الناس وأفكارهم لغايات سياسية تمكنهم من تمثيل المواطنيين العاديين البسطاء، تجد نفسها دائما في مواجهة السلطة الحاكمة وفي معارضة حقيقية للعملية الديمقراطية والسياسات النيوليبرالية التي تصطفي النخب بدون تأييد حقيقي لها من قبل الجمهور. ويؤكد ذلك فيرنر مولر في كتابه الصادر عام 2016 حول الشعبوية قائلا بأنه ” في إمكان الشعبوية أن تُعبر عن مضامين مختلفة، ومن الخطأ فهمها على أنها تعبير عن مرحلة اجتماعية أو سياسية وتاريخية ما". وبالضرورة، فكأنما نشير في هذا السياق الى أن انتقادات ترامب لنتائج الانتخابات ما هي الا انعكاس لانتقال ترامب من خانة النخبة السياسية الى خانة المعارضة الشعبوية، وهذا لا يشير الى رفض تسليم السلطة، وانما الى رفض السلطة بحد ذاتها، لانها سلطة لا تقوم على رغبة الجمهور وتطلعاته حسب منظري الشعبوية. وفي السايق، فان هذا الفهم الدقيق لتصريحات ترامب للتشكيك في العملية الانتخابية يشير في خباياه الى قبول ضمني للاخير بأن السلطة لم تعد بيده الان، ولكنه بالمقابل سيتحول الى خندق المعارضة، وهنا لا أقصد المعارضة الجمهورية الكلاسيكية في المؤسسات العامة، وانما تتجاوزها لتصبح معارضة شعبوية تتوسع الى كافة القواعد الشعبية والمدنية. في هذا الاطار، حدد هاشم الخالدي السياق الايديولوجي الذي تتخذه الشعبوية في تعاملها مع النظام السياسي باعتبارها أيديولوجية ترفض التعددية، وتقوم على معارضة النظام والمؤسسات، وتعمد الى تأجيج الخطاب السياسي وتهويله، وتسعى أخيرا الى معادات النخبة السياسية. ومن هنا، فاننا نجد بسهولة أن جميع هذه الملامح النظرية التي حددها الخالدي تتوفر في خطابات ترامب بعد فشله في الانتخابات، وهي بالمحصلة توضح لنا ان الترامبية انتقلت من مرحلة الحكم الى مرحلة المعارضة خارج البيت الابيض، أو الى مرحلة الصراع كما توضح المفكرة الفرنسية شانتال موف في تعريفها لفكرة الشعبوية.
وفي الختام، أعتقد ان ترامب في تشكيكه بنتائج الانتخابات وفي تلكأه بتسليم السلطة لا يشير الى رفضه تسليم السلطة كما تتوقع وكالات الانباء العالمية، وانما تشير الى رغبة ترامب في الحفاظ على المخزون الايديولوجي للترامبية الشعبوية واستمرار افكاره السياسية لدى ناخبيه ولدى مؤسسات الحزب الجمهوري، بحيث تستطيع هذه الافكار أن تتجدد في الممارسة السياسية وتصبح مكونا هاما من مكونات الثقافة السياسية في الولايات المتحدة. ان مثل هذا التجدد سيزيد من فرص ترشح ترامب او أحد حاملي هذا التيار الشعبوي في الانتخابات القادمة من جهة، كما أنه من جانب أخر، يحول صورة ترامب في العقلية السياسية الامريكية الى صورة "البطل التاريخي الشعبي" الذي تآمرت عليه الدولة الامريكية ومؤسساتها، وزورت الانتخابات من أجل افشاله في تحقيق "الحلم الامريكي"، وهذه الصورة المنمقة تعتبر من أهم أهداف ترامب الشعبوي ليظل رمزا من رموز التاريخ الامريكي المعاصر.