الكاتب: المتوكل طه
في التاسع عشر من شهر تشرين الثاني من كلّ عام ، تمرّ ذكرى استشهاد المجاهد الشيخ عزّ الدين القَسّام ، الذي قضى شهيداً في وادي السرّيس ببلدة يعبد، جنوب جنين ، العام 1935، بعد معركة شرسة مع قوات الاحتلال البريطاني، شهدها الوادي، لتكشف الستار من جديد، عن حياة واحد من أهم وأبرز قادة الثورة الفلسطينية، في إرهاصاتها الأولى، حتى أننا نعتبره أباً للثورة المسلّحة، ووالداً شرعياً لكل ما توالد في فلسطين من ثورات وانتفاضات .. حتى الساعة ، للاعتبارات والأسباب التالية:
أولاً: استطاع القسّام أن يكسر فكرة الإقليمية الوطنية مبكّراً، على طريق تأكيد دعوته، التي تقف على مفهوم "الأُمّة الواحدة"، ما يفسّر اشتراكه في محاربة الفرنسيين في سوريا ، والاحتلال (الانتداب البريطاني) والعصابات الصهيونية في فلسطين، بعزيمة وبسالة.
ثانياً: أنزل شيخُنا الجليل فكرة الجهاد من النصّ الغيبيّ العام إلى أرض الممارسة والواقع، ولم يكتفِ بالدعوة اللفظية، بقدر ما جعل الجهاد خطاباً ملموساً، يُعطي أُكله ، ما يشكّل تحدياً للجماعات الإسلامية التي تدعو إلى الجهاد، علّها تسبر غور تجربة هذا الداعية العملي.
ثالثاً: قدّم القسّام الدعوة الإسلامية بشكل معاصر، حيويّ ومَرِن، آخذاً بعين الاعتبار كلّ المعطيات المعاصرة والإحداثيات المعيشة، واستطاع هو ورفاقه والمجاهدون معه أن يصلوا إلى كل فئات المجتمع، حتى أصبحت دعوته مظلّة واسعة، انضوت تحتها جماعات أخرى، أي لم يَسِم ثورته بأفق ضيق، ولم يكن جميع مَنْ سار مَعه من المتعبّدين.
رابعاً: تميّزت حركة القسّام بقوة التنظيم والعمل، حيث وضعت شروطاً ومواصفات للثورة والثائر، حيث لم يقبل في صفوفه ، إلا كل مَنْ خضع للتجربة والمراقبة، ضمن إطار تنظيمي مُسيّس، ولديه قدرة على التحليل، ووجهة بوصلته محددة نحو العدو المركزي.
ثم إنّ القسّام في التجائه إلى الريف الفلسطيني دون إهماله المدينة، أعطى طابعاً شعبياً واسعاً لحركته الثورية.
خامساً: لم تكن ثقافة القسّام الدينية العميقة مبنيّة على الخرافات والأوهام، أو على التأويلات الجانحة ، ولم يكن ذراعاً لقوى خارجية مشبوهة تعمل على تلويث الإسلام ، مثل داعش ، عبر فجورها الإرهابيّ المدسوس ، بل كانت لدى القسّام قدرة على الاجتهاد ، مثلما لديه خبرة ميدانية صاحبته منذ جهاده الأول ضد الفرنسيين في سوريا ، كما أنه كان من دعاة الوحدة وممارسيها ، ولم تكن حركته منكفئة على مجموعة محددة أو منزوية في مربع ذي لون ما ، بل وضع ذراعه في سواعد القوى الأخرى ، التي كانت تناطح الانتداب والعصابات. كما أدرك أن مفهوم الجهاد لا يتّصل ولا علاقة له بالمجتمعات الإسلامية ، بل إن الجهاد يتّجه ويقتصر على مقارعة أعداء الوطن والدّين من المحتلّين.
إن استشهاد عزّ الدين القسّام لم يوقف ثورته، بقدر ما كان استشهاده سبباً آخر لتفجير الثورة وتصاعدها حتى كانت ذروتها تتمثل في ثورة 1936.
لقد كان القسّام يزاوج بين ما يقوله على المنبر وما يفعله في الوديان والجبال . وإن مواصلة جهاده جعلته يسبق تلك النماذج اللاتينية الثورية التي تمّ اتّخاذها أيقونات وقِبلة للنقاء الثوري من جيفارا وساندينو وزاباتا وانتهاء بأنتونيو غومز ، وفرابندومارتي .
إن توقّفنا أمام ذكرى القسّام يعني تنبيه أشقائنا في الفصائل "الإسلامية" للاحتذاء بهذا الرجل، وبثورته.. بدءاً من مغادرة اللغة النهائية ، والفصائلية، والمصلحية التبريرية ، سعياً إلى دفعها لتتجلّى عملياً ، مروراً بتقديم خطاب دينيّ صحيح وعملي قابل للتطبيق ، وصولاً إلى تغليب الوحدة بين كل الأطياف ، على قاعدة مناجزة العدو ومفارقة شهوات السلطة .. وإحياءً للنموذج الذي يقول أكثر مما يجهش بالكلام ويزبد بالشعارات.
وعلى القسّام السلام .