الكاتب: راسم اصلان
عانت فلسطين في الآونة الأخيرة سلسلة أزمات متتابعة ومتزامنة، تُمثل في جوهرها انكشاف المشروع السياسي الفلسطيني المؤسس للسلطة الفلسطينية، الذي يعتبر وعداً من منظمة التحرير الفلسطينية بأن تمثل السلطة مرحلة انتقالية لمدة خمسة سنوات فقط، ثم تنتهي إلى دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967م ، ثمّ عدم تمكن القيادة الفلسطينية من ادارة الأزمة في ظلّ جائحة كورونا، سواء من حيث بسط سيطرتها الأمنية أو فرض إجراءاتها الوقائية، أو من حيث احتواء التبعات الاقتصادية الفادحة الواقعة على الوضع الفلسطيني بسبب هذه الأزمات، وجرّاء أزمة المقاصّة المتجدّدة.
وبالرغم من جدية القيادة الفلسطينية في مساعيها نحو اقامة دولة فلسطينية مستقلة استناداُ لقرارات الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولي والجهد الدولي الكبير الداعم لهذا التوجه، الا أن دولة الاحتلال كانت دائماً تعرقل هذه المساعي من خلال عدّة محطّات تاريخية تمثلت في هبّة النفق عام 1997م، ثمّ انتهاء المرحلة الانتقالية عام 1999م، وفشل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000م، وما تبعها من انتفاضة الأقصى، ثم توجه القيادة الفلسطينية الى إنجاز اتفاق سلام نهائي بالمفاوضات مع أولمرت وبرعاية الرئيس الأمريكي أوباما وفشل ذلك، ثم بسلسلة الخطوات التي اتخذتها إدارة ترامب لصالح الرؤية الإسرائيلية، كالإعتراف بالقدس عاصمة لـ "إسرائيل"، وقرار نقل سفارة الولايات المتحدة الامريكية إلى القدس، واعتبار المستوطنات الإسرائيلية في المحافظات الشمالية (الضفة الغربية) قانونية، والإعلان عن "صفقة القرن" التي بدت تصفية شاملة للقضية الفلسطينية، وإلغاءً للوجود السياسي للفلسطينيين، وتوجهات الادارة الاسرائيلية بضم أراض من المحافظات الشمالية (الضفة الغربية) الى دولة الاحتلال، وقرار الحكومة الاسرائيلية بتحويل الضمّ للتنفيذ الفعلي، قبل أن يعود ويعلن عن تأجيله، فضلاً عن خطوات وإجراءات أخرى، كتلك المتعلقة باللاجئين، واغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وتوقف المعونات الأمريكية المقدمة للشعب الفلسطيني، وأخيراً الإعلان عن اتفاق التطبيع الإماراتي البحريني الإسرائيلي وتوقيعه الذي يضعف الموقف الفلسطيني.
وبالنسبة للوضع الفلسطيني الداخلي، وعلى وجه الخصوص الأزمة المالية الفلسطينية، فان المواطن الفلسطيني يعلم بأن انتهاء هذه الأزمة مرهون باستلام أموال المقاصة التي ترفض السلطة الفلسطينية استلامها تنفيذا لقرار القيادة الفلسطينية بوقف كافة أشكال التنسيق مع دولة الاحتلال ردا على مؤامرات الاحتلال ومخططاته المتمثلة في مشروع الضم على وجه الخصوص وصفقة القرن واقتطاع جزء من أموال المقاصة التي تصرف عادة للأسرى وذويهم وتصرف لذوي الشهداء، الأمر الذي رفضه الرئيس محمود عباس ورفضته القيادة الفلسطينية، وبالرغم من ذلك ومن استمرار الاحتلال الإسرائيلي في تكريس هذا الواقع الاستعماري على الأرض، الذي يحول دون أيّ إمكانية لإقامة دولة فلسطينية، ومن الوضع الاقتصادي الفلسطيني بشكل عام، والاثار المترتبة عليه بسبب جائحة كورونا وعدم انتظام صرف رواتب الموظفين، الا أن وعي المواطن الفلسطيني بصعوبة هذه المرحلة وصموده وثقته بقيادته ممثلة بالرئيس محمود عباس في مساعيه كان له الأثر الكبير في تعزيز توجهات القيادة الفلسطينية لاتخاذ القرارات والتدابير اللازمة للتصدي لمؤامرة حكومة الاحتلال والادارة الأمريكية، فإن القلم الفلسطيني هو صاحب القرار، وبصمود الشعب الفلسطيني تقترب ساعة التحرر والاستقلال والدولة.
ان خطة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذكية لمواجهة هذا الواقع الاستعماري كان من خلال تفعيل العمل الجماهيري وتفعيل دور الدبلوماسية الشعبية الخارجية وتجييش الجماهير العالمية لدعم القضية الفلسطينية من خلال تسليط الضوء على الدعوات التي أدلى بها بشأن التزام اسرائيل بالاتفاقيات الثنائية الموقعة مع فلسطين، وجهوزية فلسطين دائماً للسلام، مما أدى إلى ارسال رسائل رسمية خطية وشفوية الى الجانب الفلسطيني الرسمي تؤكد التزام اسرائيل بهذه الاتفاقيات الموقعة مع منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا ما أكده وزير الشؤون المدنية حسين الشيخ يوم أمس الموافق 2020\17\11م، الأمر الذي جعل الجانب الفلسطيني يقرر العودة إلى العلاقة مع اسرائيل كما كانت، التي سيترتب عليها استلام أموال المقاصة بعد بطلان السبب من عدم استلامها المتمثل بقرار الضم، وصفقة القرن، والانتهاكات الاسرائيلية وعدم التزام اسرائيل بالاتفاقيات، في ظل غياب حزمة أمان عربية تغطي قيمة المقاصة، وانهيار الاقتصادي الفلسطيني بشكل شامل، ووصول المواطن الفلسطيني إلى هاوية الطريق، وفي ظل وجود ادارة أمريكية جديدة من الممكن أن تغير من سياستها ولو جزئيا، واقدام السلطة على إعادة العلاقات، وكل ذلك أدى الى أتخاذ هذا القرار الذي يحاكي الواقع ويعتبر تأقلما مع الوضع المأساوي الذي يعيشه الشعب الفلسطينيون، وبهذا القرار سيتم صرف كامل المستحقات المالية، وستنتهي الأزمة المالية الفلسطينية في وسط تباين لردود الأفعال الشعبية من مؤيد إلى معارض لهذا القرار.
وهنا يدور في ذهن المواطن الفلسطيني تساؤلات كثيرة أهمها، هل ستكون هذه الدعوات مقدمة لعودة العلاقات كما كانت عليه فعلاً في ظل وجود نتنياهو على رأس الحكومة الاسرائيلية؟ وهل سينتهي الاحتلال الأسوأ والأبشع في البشرية؟ وهل ستكون الرواتب مقابل السلام؟ وهل سيكون هناك ثمن سياسي سيدفعه الفلسطينيون مقابل ذلك؟ وهل سينتعش الاقتصاد الفلسطيني من جديد؟ وهل ستؤثر هذه الدعوة على توجهات المتحاورين من حركتي حماس وفتح في القاهرة؟ وهل ستكون هذه الدعوات مقدمة لحل الدولتين؟
ان ثقة الشعب الفلسطيني بالنظرة الشمولية الحكيمة التي يمتلكها الرئيس الفلسطيني محمود عباس أدت الى انتصار الشعب الفلسطيني على مؤامرة الرئيس الأمريكي ترامب والحكومة الاسرائيلية، وبنفس الوقت ان وجوده على رأس الهرم الفلسطيني باعتباره رجل السلام الأول في العالم سيبقي الفرصة مهيأة لتكوين مرحلة سياسية جديدة تنهي الاحتلال، وتتيح للفريق الفلسطيني المفاوض الانتهاء من مسيرة التسوية على أساس الإقرار بمبدأ قيام الدولة الفلسطينية وفقاً لمبادرة السلام العربية.
وأخيراً، في الوقت الذي تؤمن فيه الغالبية العظمى من جيل الألفية الثانية حول العالم، بمن فيهم الفلسطينيون، بضرورة انهاء هذا الاحتلال الذي أصبح لانهائي، نقول لقد دقت ساعة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وحان الوقت لإنهاء الاحتلال الأطول والأسوء والأبشع في تاريخ البشرية