الكاتب: د. جمال زحالقة
لم يكن متوقّعًا أن تعلن السلطة الفلسطينية، في هذه الأيّام بالذّات، عن تجديد العلاقة وإعادة التنسيق الأمني مع إسرائيل، إلى ما كان عليه قبل القطيعة التي أعلنت في أيّار/مايو الماضي، لكنّ ذلك لم يشكّل مفاجأة بالنسبة لجماهير الشعب الفلسطينية، التي فقدت عنصر المفاجأة، بعد تجربة طويلة مع تداعيات السياسة الفلسطينية الرسميّة ومخرجاتها البائسة.
لقد جاء هذا الإعلان بالتزامن مع مفاوضات المصالحة في القاهرة، التي أشيع أنّها قاب قوسين من النجاح ووضعها في خبر كان. كما تم النشر عن عودة العلاقة والتنسيق، يومين بعد الخروج بقرار رسمي ببدء الإجراءات الإسرائيلية لبناء حي استيطاني، في المنطقة الواقعة بين بيت لحم والقدس، الذي يعتبر أخطر مشروع استيطاني منذ عشرات السنين.
لقد تم في حينه اتخاذ قرار بقطع العلاقات بالكامل مع إسرائيل، ووقف التنسيق الأمني معها، بمشاركة وبإجماع في الهيئات الفلسطينية المركزية، من المجلس الوطني حتى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، مرورا بالحكومة الفلسطينية، وبحركة فتح وسائر الفصائل. أمّا قرار العودة بالعلاقة مع الاحتلال إلى سابق عهدها فلم يمر سوى في الرئاسة الفلسطينية، ولم يبحث في أي هيئة، ولم يعلم به وبمجرياته إلّا قلّة قليلة من المسؤولين المقرّبين.
هكذا تنكشف أمامنا وأمام العالم حقيقة أن الهيئات القيادية الفلسطينية أصبحت كيانات صورية، تظهر وتختفي حسب الحاجة والطلب، وأن النظام السياسي الفلسطيني الرسمي هو نظام هجين، فلا هو يتمتع بشرعية ثورية، ولا يعتمد على شرعية دستورية، ولا على قاعدة جماهيرية متينة، ولا يستند إلى أنظمة مؤسساتية، ومركز اتخاذ القرار ينحصر بشخص واحد مع مجموعة صغيرة من المقربين. هذا وضع في غاية الخطورة لأنّه يجعل القيادة الفلسطينية أكثر تعرّضًا للضغط والابتزاز، وأكثر عرضة لاتّباع سياسات خاطئة، في ظل غياب التوازنات، وتغييب المساهمات المختلفة.
قضت العودة الى التنسيق الأمني على الجهود الحالية لتحقيق المصالحة، التي توهم الكثيرون انها جدّية هذه المرّة، خاصّة بعد اجتماع الأمناء العامّين وقراراته، وما تبعه من تصريحات ولقاءات. لقد أرادت القيادة الفلسطينية توظيف الحديث عن المصالحة لكسب الوقت، بانتظار نتائج الانتخابات الأمريكية، ولامتصاص الضربات المتتالية من ترامب وإسرائيل ودول التطبيع، ولكنّها لم تكن ناضجة لبناء شراكة حقيقية، والتنازل عن الاستفراد بالسلطة وباتخاذ القرار. لا مصالحة بدون تقديم تنازلات، ومن لا يريد تقديم تنازلات لا يريد المصالحة. وفي الحقيقة أن كلمة تنازلات هنا لا تفي بالحقيقة، لأنّ المصالحة هي مكسب كبير مقابل تنازل ليس كبيرا. هي ربح للكل الفلسطيني، لكن هناك من لا يحسب الربح ربحًا، إلّا إذا كان فئويًّا صافيًا. هذه العقلية الفئوية ضيّقة النظر والأفق، هي مصيبة أخرى من مصائب النظام السياسي الفلسطيني، وهي تنخر عميقًا في الضفة وغزة، وفي كافة التجمعات الفلسطينية في الوطن والشتات، وحتى في الجاليات في أوروبا والقارة الأمريكية، نجد الانقسام هو سيّد الموقف. أمّا وحدتنا الوطنية الكفاحية المميّزة في الداخل الفلسطيني، فتتعرض لمخاطر جدّية هذه الأيام. ومن المؤلم القول إنّ هناك مساهمة فلسطينية طوعية وجدّية في إنجاح سياسة «فرق تسد» الاستعمارية الإسرائيلية.
في الوقت الذي نرى فيه مصالحة تتقهقر، نشاهد أمامنا اجتياحًا استيطانيًّا يتقدم ويتوغّل. لقد أعلنت سلطة أراضي إسرائيل هذا الأسبوع عن عطاء لبناء 1257 وحدة سكنية في منطقة دير مار الياس، الواقعة على الطريق بين بيت لحم ومدينة القدس وشرقي بيت صفافا، التي تطلق عليها إسرائيل اسم «جبعات همتوس» أي تلة الطائرة نسبة الى سقوط طائرة إسرائيلية هناك خلال حرب 1967. ويشكل هذا العطاء مرحلة أولى من بناء حي سكني كبير يصل الى أكثر من 2500 وحدة سكنية. وسيؤدي هذا المشروع إلى محاصرة منطقة بيت صفافا من كل الجهات، وفصلها عن بقية أحياء القدس الشرقية، كما سيؤدّي إلى قطع التواصل الجغرافي بين بيت لحم والقدس، ما يشكّل ضربة كبيرة لمشروع «حل الدولتين». وسيكون من السهل تسويق هذه الوحدات السكنية، لأنّها معدة للبيع بأسعار مخفّضة وأقل بكثير من سعر السوق. تم إعداد هذا المشروع قبل أكثر من عشر سنوات، لكنّ إدارة أوباما ضغطت لمنع تنفيذه، وحين حاول نتنياهو بعدها الشروع به تدخلت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، وطلبت منه العدول عنه فاستجاب لها. وبعد عشر سنوات من الامتناع عن التطبيق، جاء النشر الإسرائيلي عن بدء العطاء، وهو خطوة رسمية وفق القانون الإسرائيلي وتنتهي في 18 كانون الثاني/يناير، أي يومين قبل ذهاب ترامب وتولّي بايدن الرئاسة. وبعد أن يرسى العطاء على شركة معيّنة، سيكون من الصعب على الحكومة الإسرائيلية التراجع. لقد جاء توقيت البدء بهذا المشروع لاستغلال ما تبقى من فترة ترامب في البيت الأبيض، واستند إلى تقدير بأن الردّ الفلسطيني سيكون ضعيفًا، فإسرائيل كانت على علم أن الاتجاه هو عودة التنسيق الأمني، وليس تفعيل النضال ضد الاحتلال والاستيطان. ليس من حق أحد ان يتجاهل الأسباب والظروف «القاهرة» التي أدّت إلى اتخاذ قرار إعادة العلاقة مع إسرائيل، ولكن ليس من حقّ من اتخذ القرار أن يسوقه بأنّه إنجاز وانتصار، في محاولة بائسة فيها استخفاف بعقل الناس. لقد وصلت السلطة الفلسطينية إلى درجة الإفلاس المالي، ولم تعد البنوك مستعدة لمنحها المزيد من القروض. حصل ذلك بعد وقف استلام التحويلات من إسرائيل، ووقف الدعم الأمريكي والعربي، ونضوب كافة مصادر التمويل الممكنة، إضافة الى جائحة «كورونا» وآثارها الاقتصادية المدمّرة. هكذا يبدو أننا أمام قلة حيلة وانعدام الخيارات، لكن هذا من صنع البشر، وهناك بالتأكيد إمكانية لعدم الدخول في نفق تعطيل الخيارات، وبناء استراتيجيات بديلة جدّية للخروج من حال الانسداد، مع عدم الاكتفاء بانتظار الخلاص من إدارة بايدن المقبلة، والوقوع مجددًا في فخ أوهام المفاوضات والعملية السلمية.
هنا لا بدّ من مواجهة الحقيقة المرّة وهي، أن ليس السلطة الفلسطينية في مصيدة فحسب، بل هي نفسها المصيدة، وهي محكومة بوجودها لشروط تكبّلها وتشل قدرتها على العمل، وعلى دفع الرواتب، وإدارة الشؤون المدنية، إن هي تمردت وخرجت عن الطوق الذي ترسمه إسرائيل وامريكا وأوروبا ودول «الاعتدال» العربي. هذ الوضع يزداد صعوبة في ظل سيطرة اليمين الفاشي في إسرائيل وهرولة دول عربية إلى التطبيع.
لا يستطيع الشعب الفلسطيني تجاهل السلطة ودورها ومستلزماتها، ولكنّ يجب في المقابل عدم الخضوع لها ولقيودها ولتنسيقها الأمني. كيف لسلطة مرتبطة بعلاقة مع الاحتلال، في كل تفاصيل عملها، أن تفعّل نضالًا ضد الاستيطان؟ كيف يمكن أن يستوي التنسيق الأمني مع مقاومة الاحتلال؟ لقد آن الأوان لتخصيص السلطة لإدارة الشؤون المدنية والاقتصادية، وإعادة الدور السياسي والنضالي لمنظمة التحرير الفلسطينية، بعد إعادة بنائها وضم حماس والجهاد الإسلامي إليها، إذ بدون تحرير القرار السياسي الفلسطيني من عبء إدارة سلطة تحت الاحتلال، سيبقى هذا القرار أسيرًا للعلاقة مع إسرائيل ولشروطها المذلّة.
لا يمكن ان نتوقّع الكثير من السلطة الفلسطينية ببنيتها الحالية، ودورها القائم. ولا يمكن أيضًا أن يكون هناك حراك وطني فلسطيني، وانتفاضة ثالثة ضد الاحتلال في ظل الانقسام والإحباط، الذي يسببه هذا الانقسام. ومهما كانت الخلافات على الساحة الفلسطينية، فهناك شبه إجماع على أن القضية الفلسطينية وصلت الى حالة من الانسداد، وانطفاء الضوء في آخر النفق. لا يمكن الخروج من هذا المأزق وهذه الحالة، إلّا بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني من جديد، وبمنظار الأهداف الاستراتيجية، وليس فقط لملاءمة الظروف «القاهرة» والحاجات الملحّة. ولعل أول خطوة في هذا الطريق هي، أن سلطة تحت الاحتلال تنسق مع الاحتلال، لا يمكن أن تقود النضال للتحرر من الاحتلال. لقد أصبح كيان السلطة ودورها عائقًا أمام السعي لتحقيق المشروع الوطني الفلسطيني، ويجب تحرير الحركة الوطنية من أغلالها، حتى يبقى هنا أمل وسعي لتحقيق هذا الأمل.