الكاتب: د. وليد القططي
دون كيشوت، رواية عالمية للكاتب الإسباني (ميجيل سيرفانيتس)، تروي قصة رجل تخيّل نفسه فارساً من العصور الوسطى، فارتدى ملابس الفروسية المخزونة البالية، وحمل سلاح أجداده القديم الصدأ، وامتطى صهوة فرسه العجوز الهزيل، وانطلق هائماً على وجهه في ربوع إسبانيا، باحثاً عن بطولات وهمية، وانتصارات مزعومة، وإنجازات مختلقة، فخاض معارك مُظفّرة عديدة من وحي خياله، أولها مع طواحين الهواء، مُتخيِّلاً أنها شياطين عملاقة تُصارعه، وثانيها مع قطيع الغنم مُتوّهِماً أنها جيش جرّار يُنازله، وهكذا تتوالى معاركه المُفتعلة، مُحوِّلاً بأوهامه الهزيمةَ إلى نصر، ومُبدِّلاً بظنونه الإخفاقَ إلى إنجاز، ومُغيِّراً بأخيلَته الفشلَ إلى نجاح، وعندما اكتشف الحقيقة المُرّة رفض الاعتراف بالهزيمة والإخفاق بالفشل، وأصرَّ على التشبث بأوهامه وظنونه وأخيلَته، مُفسِّراً ذلك بوجود مؤامرة عليه يقودها السحرةُ حرموه فيها من النصر والإنجاز والنجاح، فمسخوا الشياطين العملاقة إلى طواحين هواء، وطمسوا الجيش الجرار ليبدو قطيعاً من الأغنام... وهكذا آثر المسكين الإيمان بالوهم الكاذب المُريح على اليقين بالحقيقة الصادقة المُتعِبة.
رواية (دون كيشوت) كُتبت مطلع القرن السابع عشر الميلادي، وأصبحت مع الزمن جزءاً من التراث الأدبي العالمي؛ ذلك بأنها تُناقش ظاهرة إنسانية عُرفت بـ (الدونكيشوتية)، أو تضخيم الذات والإنجازات، وتُطلق على كل شخص يصنع من هزائمه انتصارات، ويختلق من إخفاقاته إنجازات، ويبتدع من أَفشاله نجاحات، وقد فاق العرب غيرهم في جميع جوائز ظاهرة الدونكيشوتية، ومن أكثر الأمثلة غرابة وعجباً، ما قاله بعض الناصريين عقب هزيمة يونيو الساحقة المُسماه (النكسة) تخفيفاً، "أنَّ النصر قد تحقق، فرغم خُسارة المعركة قد ربحنا الحرب، طالما لم يتحقق هدف العدو بإسقاط النظام الثوري الناصري!". ولم يكن البعثيون في العراق عن ذلك ببعيد، حين زعموا أنهم قد انتصروا في حرب الخليج الأولى، أو حرب الثمان سنوات، المُسماه تضخيماً (قادسية صدام)، رغم سقوط أكثر من مليون عراقي ما بين قتيل وجريح وأسير، وخسارة مئات المليارات من الدولارات، واندحار الجيش العراقي من (الأراضي العربية) التي زعم أنه خاض الحرب لتحريرها. ولا زال نظام آل سعود الحاكم في جزيرة العرب يواري هزيمته في اليمن بعد خمس سنوات من العدوان المُسمّى تزويراً (عاصفة الحزم) التي بعثرتها عاصفة الصمود والمقاومة اليمنية.، باحثاً عن صورة النصر المفقود بين حُطام المباني المُدّمرة، وأشلاء الأطفال المُبعثرة.
وإذا كان النظام السعودي الحاكم لا زال يبحث بصعوبة عن صورة النصر المفقودة في اليمن التعيس، فإنَّ البحث عن الصورة الدونكيشوتية للنصر المفقود في فلسطين السعيدة لم يكن بهذه الصعوبة؛ بل كان في منتهى السهولة، ولم يكن بهذا العُسر؛ بل كان في غاية اليُسر، فالنصر على الطريقة الفلسطينية يأتي دائماً بجهدٍ أقل، ووقتٍ أقصر، وإبداعٍ أسهل، فليس أكثر من أن نقول (انتصرنا) بعد كل حرب، فيتحوّلُ القولَ من حروفٍ إلى وقائع، وينقلبُ الكلامَ من كنْ إلى كائن، ويتبدّلُ الخطابَ من خيالٍ إلى واقع، وإن عجزنا عن تحقيق النصر في ميادين المعارك، فقد حققناه في ميادين المفاوضات، وإن ضعفنا عن انتزاع الانتصارات في ساحات الوغى، فقد انتزعناها في ساحات السلام، والانتصار في ميادين المفاوضات وساحات السلام، ليس بالانتصار العابر العادي، أو الطارئ العرضي؛ بل هو انتصارٌ تاريخيٌ عظيم، وأبدي جوهري، لأنه انتصار لثبات وصمود وكبرياء الزعيم وشعبهِ العظيم، رضخ فيه العدو، وجاء صاغراً مُستسلِماً، ومقهوراً ذليلاً، فأعلن - مُجبراً غير راضٍ، ومُرغماً غير مُخيّر- عن عودة العلاقات مع الفلسطينيين، وفي مقدمتها التنسيق الأمني المُقدّس.
التنسيق الأمني المُقدّس الذي اُجبِر عليه الطرف الآخر (الاحتلال)، مصلحة وطنية فلسطينية عُليا، لا يدركها إلاّ من أوتيَ الحكمة في السياسة، وأُعْطِيَ الفطنة في الكياسة، وامتلك الحنكة من الزعماء والساسة، وهذه الصفات يفتقدها الدُهماء والسواد الأعظم من العامة، لأنها من مزايا الأصفياء والنخبة القليلة من الخاصة، وقد لا تكون موجودة إلاّ في زُبدة الصفوة من خاصة الخاصة، ممن يعرفون بواطن الأمور، ومداخل الثغور، فأدركوا بحكمتهم وفطنتهم وحنكتهم أنَّ التنسيق الأمني اسم على غير مُسمّى، وصورة بدون مادة، نخدع به العدو لنوهمه أنه يتم بين طرفين متكافئين، ودولتين متجاورتين، ويسير في اتجاهين متبادلين، ولكن الحقيقة بخلاف ذلك تماماً، لأنَّ التنسيق الأمني تعاون باتجاه واحد، من الطرف الآخر (الاحتلال) إلى الطرف الأول (السلطة)، يستفيد منه الشعب الفلسطيني، من خلال الكشف عن الإرهابيين اليهود واعتقالهم، والكشف عن العمليات الإرهابية الصهيونية وإحباطها، وبالتنسيق الأمني نستولي على أموال المقاصة الإسرائيلية، المحجوزة عندنا، ونسترجع أموالنا المجمدة في البنوك الأمريكية، وفيه ضمان لاستمرار حياة الثراء والرخاء لأولي الأمر من الفقراء والبؤساء.
خلاصة القول، لمن لا يزال يعيش في عصر القيم والأوهام، ويتمسك بزمن المبادئ والأحلام، ويُمارس الثورة والوطنية رغم الآلام، ممن ينتقدون عودة التنسيق الأمني ليل نهار، ويتهم أبطاله بالشنار والعار، ويوّزع الاتهامات عليهم سداح مداح، ... لقد آن لكم أن تفيقوا من أوهامكم وأحلامكم، وجاء الوقت لتستيقظوا من ثوريتكم ووطنيتكم، لتتعلموا فن الثورة، ومعنى الوطنية، وأصول السياسة، بناء على المنطق الانهزامي الانبطاحي (حط راسك بين الروس وقول يا قطّاع الروس)، ووفق الفلسفة الانتهازية النفعية (اللي يجوّز أُمي أقوله يا عمي)، وحسب النظرية السياسية العبقرية (البندقية تزرع والسياسة تحصد)، التي زرع بموجبها المناضلون من الثوار والشهداء والجرحى والأسرى بذور الحرية فأكلوا على رؤوسهم، وحصد فيها السياسيون من الزعماء والقادة وأولادهم وأحفادهم ثمار تضحيات المناضلين فأكلوا في بطونهم.