الكاتب: هبة بيضون
هنالك جدل حول شرعية وقانونية تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني، والذي يفترض أنه تم التصويت على تعديل بعضاً من بنوده التي تتعارض مع رسائل الاعتراف المتبادلة بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين دولة الكيان الصهيوني، وهناك جدل آخر وأهم، وهو إن كان الميثاق الوطني قد عدل فعلاً أم لم يعدل .
حيث أن من يشكك في أن يكون التعديل شرعياً وقانونياً، ينطلق من أن الاجتماع الذي كان من المفروض التصويت فيه على تعديل الميثاق لم يبلغ النصاب، وأن عدداً كبيراً من غير الأعضاء من مخاتير وهيئات شعبية وكوادر حضروا الاجتماع الذي عقد في غزة بتاريخ 14 آب 1998بحضور الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون، والذي كان أول رئيس أمريكي يزور فلسطين (مناطق الحكم الذاتي) بعد أوسلو، وذلك لتعبئة المقاعد، وأن عدد الحضور من أعضاء المجلس الوطني كان محدوداً نسبياً، ما يجعل التصويت غير قانوني من وجهة نظرهم.
كما أن الكثيرين يجزمون بأنه تم تعديل بنود الميثاق الوطني الفلسطيني الذي صدر عام 1968 ، ويتهمون السلطة الوطنية الفلسطينية بالتخلي عن الميثاق الأساس لسنة 1968 الذي قامت عليه الثورة الفلسطينية المعاصرة، بل أن منهم من اتهمها بالخيانة .
أين الحقيقة؟ هل تم فعلاً تعديل بنود الميثاق؟ وهل كان التعديل – إن حدث- غير شرعي وغير قانوني؟ حاولت البحث لأتوصل إلى الحقيقة ، ولإنهاء هذا اللغط السائد ما بين شرعية تعديل بنود الميثاق وعدم شرعيتها، وما بين أن التعديل قد تم أو لم يتم، وبدأت البحث عما كتب ونشر بهذا الخصوص، وهنا لا بد لي أن أذكر بأن هناك قرار قد صدر من المجلس الوطني الفلسطيني بتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني بتاريخ 24 نيسان 1996 وإلغاء المواد التي تتعارض مع الرسائل المتبادلة بين منظمة التحرير وحكومة الكيان، ولكن تبع هذا النص بأن المجلس يكلف اللجنة القانونية إعادة صوغ الميثاق الوطني وأن يتم عرضه على المجلس المركزي في أول اجتماع له، وقد نشر هذا القرار في مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 7، العدد 27 (صيف 1996)، ص 249.
خلال البحث، وقع بين يدي مقالاً بعنوان "عقد المجلس الوطني الفلسطيني: تحديات وفرص" للدكتور نايف جراد بتاريخ 16 نيسان 2018، وكان الكاتب قد تطرق بفقرتين من فقرات المقال إلى هذا الموضوع حاسماً الجدل الأول والثاني، حيث ذكر بأن المجلس الوطني الفلسطيني لم يقم بإلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني في دورته الحادية والعشرين المنعقدة في نيسان عام 1996 في غزة، كما يقول الكثير من الناس، وأعتقد أنه قصد القول بأن المجلس لم يقم بإلغاء أو تعديل بنوداً محددة من الميثاق والتي كان عددها كما أذكر أحد عشر بنداً وليس إلغاء الميثاق، لأن إلغاء الميثاق كاملاً لم يكن مطروحاً حسب علمي، وأضاف أن المجلس قرر نصاً مفاده بأن يتم تصحيح الميثاق الوطني الفلسطيني على نحو تلغى معه كافة الفقرات التي تتعارض مع رسائل الاعتراف المتبادلة بين منظمة التحرير ودولة إسرائيل، وتكليف اللجنة القانونية بإعادة صياغة الميثاق الوطني على أن يقدم الصيغة الجديدة في الدورة القادمة للمجلس" (وهو ما جاء في القرار الذي ذكرت في الفقرة السابقة) ولكن د. نايف أكد أن اللجنة القانونية المكلفة لم تقدم الصيغة الجديدة للميثاق حتى لحظة كتابته للمقال. وقد قمت أنا بالمتابعة والتأكد من أن اللجنة القانونية لم تقدم أي صيغة جديدة معدلة للميثاق حتى لحظة كتابتي هذا المقال، ما يجعل القرار الصادر في نيسان 1996 غير مكتمل وغير نافذ.
وحول الاجتماع الذي عقد بتاريخ 14/12/ 1998في غزة وحضره الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون والذي قيل إن التصويت تم فيه برفع الأيدي لإلغاء الميثاق الوطني ، نفى د. نايف جراد في مقاله أن يكون اجتماعاً للمجلس الوطني الفلسطيني كما يقال، بل كان اجتماعاً شعبياً واسعاً، ليس له صفة السلطة العليا التشريعية والتقريرية التي للمجلس الوطني، وقد علمت من د. نايف بأن الدعوة التي وجهت له لحضور الاجتماع كان نصها ما يلي:
يسرني دعوتكم لحضور المؤتمر الذي يشارك فيه أعضاء المجلس الوطني والمجلس المركزي والمجلس التشريعي والهيئات الوطنية والشعبية للاستماع لخطاب الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الخاص بتأييد عملية السلام.
وأعتقد أن دلالة النص واضحة.
وما يؤكد أيضاً على أن اجتماع غزة لم يكن اجتماع مجلس وطني هو أنه لم يكن هناك افتتاح ولم يحصل حصر للنصاب ولم يكن هناك جدول أعمال ولم يكن هناك حضور لرئاسة المجلس ولا نائبي رئيس ولا أمين السر لقيادة الجلسة، كما أن الاجتماع لم يعطى رقماً ولم يصدر بياناً ختامياً في نهايته ولم يسجل في سجلات المجلس الوطني، وكل ما سبق يؤكد على أنه كان فقط تجمعاً شعبياً، ويعني أن التصويت أوالإجماع الذي حصل من قبل الحضور على تعديل بنود الميثاق، لا يمكن إعتباره قانونياً ولا شرعياً ولا ملزماً للسبب الذي ذكره كاتب المقال أعلاه ، بل كان التصويت اجتهادياً واعتبارياً لزيارة الضيف كلينتون الرمزية فقط.
من حضر المؤتمر الشعبي الموسع الذي عقد في غزة وحضره الرئيس كلينتون يذكر كيف طلب أبو عمار آنذاك مخاطباً الحضور: أتوجه إليكم جميعاً لتأييد هذه الرسالة، والتأكيد على القرارات السابقة الذكر للجنة التنفيذية والمجلس المركزي في دعم عملية السلام، فهل تتفضلون وترفعون أيديكم بالموافقة على ذلك، فجاء تأييد الحضور بالتصفيق والوقوف.
يمكن وصف ما حدث بأنه نوعاً من الفوضى السياسية ، لقد كان ذلك الاجتماع الشعبي مقصوداً أن يأخذ هذا الشكل، وبذات الوقت أن يكون إشارة إيجابية للضيف، وكان أبو عمار يعلم جيداً أن أي تصويت على تعديل بنود الميثاق لن يكون له أي قيمة قانونية تذكر.
ألقى كلينتون بعد ذلك كلمة قال فيها:
أشكركم لإلغاء هذه الفقرات في الميثاق الفلسطيني التي تطالب بتدمير إسرائيل، لأن هذه الفقرات كانت القاعدة الأيديولوجية للصراع الذي شجبتموه في أوسلو، فمن خلال إلغاء تلك الفقرات ، أرسلتم رسالة قوية ليس لإسرائيل بل لشعب إسرائيل.
بصراحة، أستغرب ما قاله كلينتون، وكيف افترض أن الفقرات من الميثاق قد ألغيت أو عدلت، لقد كان التصويت الرمزي الشعبي للفكرة بشكل عام ولم يكن أبداً على أي تعديل حقيقي للبنود المقترح تعديلها ، أي لم يكن هناك فعل تنفيذي بعد. هل يعقل أن حماسه لتعديل الميثاق جعله يتسرع بهذا القول ليسجل إنجازاً وليطمئن دولة الكيان!!!.
كان لا بد لي خلال بحثي عن الحقيقة من العودة إلى كتاب (السيرة والمسيرة) وهي مذكرات الأخ سليم الزعنون (أبو الأديب) بصفته رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، والذي احتوى فصلاً بعنوان" في الميثاق الوطني الفلسطيني" ، وتحت العنوان الفرعي: هل عدل الميثاق؟ كان من ضمن ما كتب أبو الأديب حول تعديله أنه عندما ذهب إلى دمشق عام 2001 ، إلتقى به قادة حماس وطلبوا منه تطمينات بأن الميثاق الوطني لم يعدل كما سبق وذكر، فأجابهم : يبدو أنني كنت مخطئاً، فالميثاق قد عدل فعلاً لدى انعقاد المجلس الوطني في غزة بحضور كلينتون. هذه النقطة أصبحت جدلية / محسومة الآن بعد أن عرفنا أن الاجتماع بحضور كلينتون لم يكن اجتماع مجلس وطني، ولو افترضنا جدلاً أنه كان كذلك، فإن الاجتماع لم يبلغ النصاب، فبكلتا الحالتين لم يحصل التعديل ولو حصل فعلاً فهو غير شرعي وغير قانوني للأسباب المذكورة سابقاً، ولا أدري ماذا كان ببال الأخ أبو الأديب عندما غيّر أقواله.
كما ذكر الأخ أبو الأديب في مذكراته أيضاً أنه حين كان نتنياهو يفاوض الشهيد عرفات في واي ريفر، قال نتنياهو لعرفات: إن عشرين خبيراً إسرائيلياً يقولون إن الزعنون ضحك علينا ولم يعدل الميثاق. وكان نتيجة ذلك – والكلام للأخ أبو الأديب- أن دعي المجلس الوطني للإنعقاد في غزة بحضور الرئيس الأمريكي ليشهد أنه قد تم تعديل الميثاق، وقال إنه رفض أن يدير الجلسة، فأدارها أبو عمار وقد وافقه على التعديل من رفع يده بالموافقة، باعتبار أن الاجتماع اجتماعاً شعبياً أداره الأخ أبو عمار وطلب التصويت عليه على طريقته.
يستوقفني هنا قول الأخ سليم الزعنون من أنه رفض أن يدير الجلسة، ويقصد جلسة الاجتماع الذي عقد بحضور كلينتون- ولذلك دلالة ، فكيف يمكن أن تعقد جلسة مجلس وطني وهو هيئة تشريعية دون أن يترأسها رئيس الهيئة التشريعية، في تقديري أن رفض الأخ أبو الأديب إدارة الجلسة كانت دليلاً آخر على أنه كان مقصوداً بألا يكون الاجتماع جلسة من جلسات المجلس، وبالتالي أي تصويت فيه لن يكون شرعياً ولا قانونياً ولا حتى ملزماً.
والخلاصة التي قالها الأخ أبو الأديب الزعنون في نهاية هذا الباب في كتابه كانت ما يلي (أنقلها حرفياً) : هناك من يقول إن الميثاق قد عدل، وهناك من يقول إن الميثاق لم يعدل، ولكل اجتهاده، مع ملاحظة أن المجلس الوطني الفلسطيني لم يشكل لجنة لتعديل الميثاق، ولم تتم إحالة الميثاق المقترح إلى اللجنة القانونية في المجلس للنظر فيه، كما أن المجلس المركزي الفلسطيني لم يجتمع لمثل هذا الغرض حتى تاريخه.
بغض النظر عما ذكره الأخ أبو الأديب من أن الميثاق قد عدل ، وعن الدافع الذي جعله يقول ذلك لحماس، إلا أنني أستنتج من الخلاصة التي ختم فيها أن الميثاق لم يعدل، لأن أي تعديل في الميثاق يتطلب أن يمر بمراحل معينة، وكما ذكر سابقاً فقد طلب من اللجنة القانونية إقتراح مواد التعديل، ولكنها لم تجتمع ولم تقدم أي دراسة أو نصوص، علماً أن تعديل الميثاق يحتاج إلى جلسة خاصة بحيث يكون هناك بند واحد فقط على جدول الأعمال، وبحضور ثلثي الأعضاء حكماً وبثلاث قراءات، وبموافقة ثلثي أعضاء المجلس وليس الحضور.
كما أنه لا بد وأن يصادق عليه من قبل المجلس المركزي الذي أكد الأخ أبو الأديب أنه لم يجتمع. وكون أن نتائج التصويت في اجتماع غزة غير ملزمة قانونياً، أجد أنه لا قيمة لذلك الاجتماع أكثر من أنه كان اجتماعاً بروتوكولياً أجري على شرف الرئيس كلينتون.
أختم مقالي هذا بالقول إنه حسب المعطيات السياسية ، أنا شخصياً أرى أن عدم تعديل الميثاق لغاية اللحظة مفهوماً ومبرراً، لأن الاتفاق الذي حصل بين منظمة التحرير والكيان الصهيوني لم يتم الإلتزام به من قبل الطرف الآخر الذي أوقف وأغلق جميع الخطوات الداعية لتنفيذ الاتفاقية، وعندما جاء نتنياهو تنصل من جميع الاتفاقات المتعلقة بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، وبالتالي لم يعد هناك ضرورة لأن تلتزم منظمة التحرير الفلسطينية بتعديل أي بند من بنود الميثاق ولا يوجد ما يجبرنا أخلاقياً ولا سياسياً ولا قانونياً على الإلتزام بالتعديل، وبالتالي يمكن لنا أن نعتبر بأن هذا الملف قد أغلق تماماً بعد اغتيال رابين وكأن شيئاً لم يكن ، خاصة بعد رفض قيادة الكيان كل أوسلو، ، وأي بحث في الموضوع الآن هو مماحكة حزبية أو فصائلية عبثية، ولن يتم فتحه إلا إذا حصل هناك إلتزام كامل بجميع بنود الاتفاقيات المبرمة وبعد قيام دولتنا المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشريف والوصول إلى اتفاق بشأن جميع قضايا الحل النهائي من عودة اللاجئين والمستوطنات والقدس والمياه والحدود، عندها، وبعيداً عن المناكفات السياسية، ليس هناك ما يمنع من تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني بحيث يتناسب مع المرحلة، خاصة أنه ليس كتاباً سماوياً يحظر المس به والتعديل عليه.