الكاتب: المتوكل طه
لم يتسنَّ لنا، نحن أبناء الأطراف والهوامش الجغرافية ، أن نطَّلع مبكراً على مظاهر التحلّل الجنسي، بكل هوسه وشذوذه، بل لم نستطع، حتى اللحظة، استيعاب الكثير من مظاهر الإباحية من مِثليّة ودِياثة ونخاسة .. مع إدركنا أن الجنس أصبح كوكباً كاملاً له أغانيه وأدبياته وصحافته وفنونه وقنواته وأفلامه ومنظّروه وأطباؤه وعلماء نفسه واجتماعه.
وبالرغم من طغيان هذا الطوفان اللامع، الذي تخور أمامه الرُّكب، ويجفّ الحلق، ويهتاج المكان بعصارته، فإننا ما زلنا خلف حواجز سميكة، تحول بيننا وبين فتح صدورنا لمثل ذلك الطوفان، الذي وصلت دفقاته كل بيت وعين وخفقة قلب وخيال.
ولعل الكثير من المنظّرين يربطون بين ذلك الطوفان المليء بالوباء، والسياسات الهادفة إلى تخريب منظوماتنا الأخلاقية، ودفعنا نحو التّفكك والاغتراب والاستهلاك.
وربما، يتمتع ذلك الكوكب الجنسي بقوة إغواءٍ تجذب الجميع، إلا مَن رحم ربّي، ولم تعد تجدي كل عمليات الرقابة، والحيلولة دون إقصاء موجات الجنس، التي تطلّ عبر كل الأذرع الإعلامية ووسائل الاتصال ومنصّات المسارح، حتى أصبحتْ كل الأذرع والوسائل شركاء أقوياء في إنتاج الأجيال الطالعة، وتأصيل مدارك الأبناء. ولا مجال أمامنا إلا تحصين أجيالنا أمام هذا الطوفان، بالتعرّف، علمياً ونفسياً واجتماعياً، على هذا الكوكب، عبر المنهاج المدرسي والموازي، ووسائل التعليم والاتصالات الأخرى، دون خجل أو تردد أو خوف.
وبالتأكيد، ليس غريباً أن تفيد العلوم من بعضها؛ بمعنى أن يأخذ العالِم من الأديب، والفيزيائي من الرياضيّ، والفلكيّ من المؤرّخ ... إلخ، بل أمر طبيعي أن تسيل المعارف بعضها على البعض، وتتقاطع، وتتزاوج، وتتضافر، وتنتج معرفة جديدة .. وهكذا.
غير أن أَخْذَ السياسي أو الإعلامي من علوم الجنس، طريقةً أو أسلوباً، أمر فيه إغراء جديد وطرافة حديثة، تستوقفنا وتوقظ انتباهنا.
والطريقة هي "الإستربتيز" أو التعرّي قطعةً قطعة ! حيث تقف امرأة، على خشبة مرتفعة، أمام اللهاث المكتوم والعيون المندفعة، وتبدأ بخلع قميصها، ثم بنطالها، ثم غلالتها الداخلية، ثم حاملة صدرها، إلى أن تصل أصابعها إلى ما تبقّى من ورقة التوت، لتلقيها على ذهول الناظرين !
وكذلك السياسيون الذين يصنعون خطابنا الإعلامي، لينقلوا عقولنا أو مواقفنا من نقطة إلى أخرى، يريدون إيصالنا إليها، تدريجياً، عبر ترديدنا المصطلح الذي ينتقل بدوره، تدريجياً، من مستوىً إلى آخر، حتى نصل إلى ما يريدون. أي ثمة رسم بياني للمصطلح الإعلامي ولتدرّجه حتى يصل إلى القاع، فمثلاً : كان السياسيون، في البداية، يطلقون مصطلح "العمليات الاستشهادية" على تلك العمليات التي يقوم بها نفر من الشباب في تجمعات إسرائيلية، في مطلع الانتفاضة الثانية، ثم خفّ المصطلح وتم انتقاصه ليصبح "العمليات الفدائية"، ومن ثم "العمليات التفجيرية"، ثم "العمليات الانتحارية"، ثم "العمليات الإرهابية". وبالتدقيق في هذا الهبوط المتدرّج المدروس يتبين أنه ليس سوى نقل الوعي من حالة إلى أخرى، للقبول بمفهوم يتم تكريسه عبر المصطلح الأخير.
هذه الكيفية تبدو حاذقة وجديدة، لكنها ليست كذلك، حيث تم تطبيقها على الكثير من القرارات الاستراتيجية الكبيرة، المتعلّقة بأمتنا العربية وبقضيتنا الفلسطينية ! منها قرارات القمم العربية التي تدرّجت من "اللاءات الثلاث" في الخرطوم، إلى "قبول الصلح" في قمة بيروت. وكذلك قرارات المجالس الوطنية الفلسطينية التي هبطت من "تحرير كامل التراب" إلى توسّل العالم لتطبيق ما يسمّى "خارطة الطريق" !
ثمة عملية "إستربتيز" مرّت بها قضايانا العربية، حيث كانت هناك محطات "خلع" شكّلت نقاط تحوّل عميقة في وعينا الجَمْعي، وحَمْلنا من موقف إلى آخر .. تحت دعاوى موضوعية وذاتية .. وظروف قاهرة !
وهنا يبرز غياب المثقفين والمفكرين الذين تماهوا مع ذلك التنازل، وهبطوا إلى الدرك الأسفل، الذي أعدّه الآخرون لنا جميعاً، دون أن يثيروا خطورة هذا الهبوط غير الاضطراري إلى أرض الاستسلام والحيف. بل ما زالت تلك السلالم المشدودة منصوبةً لكل فئات أُمّتنا، لإنزالها من قمة مصالحها ومبادئها وأحلامها إلى هاوية التردّي والقبول بما يقدّمه الآخر النقيض .
وللتأكيد على أن مطابخ المحتلّين الغزاة ما زالت تُنتج لنا المصطلح المطلوب، وتصدّر لوسائلنا الإعلامية القوالب الجاهزة، التي بات يتلقّفها معظم السياسيين والإعلاميين والكتّاب العرب، تبرز آلاف المصطلحات السياسية والإعلامية الدخيلة التي تفتّ في وعينا، وتكسر مواقفنا، وتؤسس لفهم سياسي وعقدي جديد، يخدم الآخر ويحقق مآربه، مثل تلك المصطلحات التي برزت في العقد الأخير، ورحنا ندحرجها، دون وعي منا، لتكبر مثل كرة الثلج، التي غطّت على الحقائق، وطمست معالم الحقيقة والجريمة !
فمثلاً؛ يستخدم الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي، ومن لفّ لفهما، المئات من المصطلحات، في سياق تحقيق الإدانة لنا، ويعطي مدلولات جديدة، ينسخ المضمون القديم للمصطلح، لنجد أنفسنا، في النهاية، مثل الببغاء التي تردّد طلب قطع رأسها بيد الدخيل الذي احتل بيت صاحبها.ولأن الاحتلال يدرك خطورة المصطلح وتكراره، راح يعطي للأماكن والجغرافيا أسماءه ليلغي التاريخ الأصلي؛ تاريخنا، ويلغي بجغرافيته الجديدة جغرافيتنا وأسماءنا القديمة، بدءاً من أسماء القرى التي دمّرتها دولة الاحتلال، مع النكبة وقبلها، مروراً بحائط البراق، وليس انتهاءً بأسماء الشوارع والمداخل والأبواب، والألفاظ الجديدة التي رُحنا نُرصّع بها لغتنا اليومية، ونسينا أنها هجينة مُقحمة، حتى صدق قول القائل : إنهم يحتلّون لغتنا، أيضاً. عداك عن عشرات المصطلحات والمفاهيم التي عُكِسَت مضامينها وراحت تقلب الحقائق، رأساً على عقب، بدءاً من مفهوم "الإرهاب" و"المقاومة" ومروراً بـ"الاحتلال" و"تحرير الشعوب"، وليس انتهاءً بـ"السلام" و"التعاون بين الدول".
بقي أن نشير إلى أن الكثير من المؤسسات غير الحكومية وجمعيات حقوق المواطن والمرأة والإنسان ودعاة الديمقراطية، لهم تأثير خطير في تحوير المصطلح، واللعب بأولويات تقديم مصطلح على غيره، وتغليب مفهوم على آخر، خدمة للآخر النقيض، بقصد أو دون قصد، فمثلاً يُطالب هؤلاء بتحقيق حقّ المرأة كأولوية على حق تقرير المصير، وكأننا لسنا محتلّين من النهر إلى البحر بكافة فئاتنا. أو يطالبون السلطة الفلسطينية بحفظ حقوق المواطن – وهذا مطلب حق – ولا يطالبون العالم ليقف ضد غوائل "إسرائيل" التي تنال من حقوق الإنسان والحيوان والشجر في فلسطين. أو يُلحفون في حفظ حرية التعبير والتعددية السياسية ليكون ذلك مدخلاً للنّيل من الثوابت الوطنية، وجعل الخيانة وجهة نظر.
إننا مع كل أشكال الحرية وتكريس الحقوق، ولا شرط على ذلك إلا المزيد منها، لكنني أعني الرّد على وجهة النظر بوجهة نظر أخرى، وهذا من باب ممارسة الحرية والأخذ بالحقوق وتعميقها في حياتنا المعيشة.
الملاحظة الأخيرة هي أن الاحتلال ووسائله وأذرعة والجمعيات والمنظمات غير الحكومية التابعة له لا تعمل منفردة، بقدر ما يجمعها خيط واحد، ويقف أمامها "مايسترو" واحد، يوزع الأدوار، ليقدّموا لنا في النهاية "أوركسترا" متكاملة، تأخذ الأبصار والأسماع والأفئدة.