الجمعة: 24/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

عن احمد عبد الرحمن في ذكرى رحيله..

نشر بتاريخ: 12/12/2020 ( آخر تحديث: 12/12/2020 الساعة: 19:52 )

الكاتب: د. محمد نعيم فرحات

من اللحظات الشاقة في حياة الناس وأقدارهم ومصائرهم، ألا تكون نهايات حياتهم تتويجا معقولا ونسبيا، لمساراتهم وخياراتهم ورهاناتهم وأمالهم وهواجسهم وحتى لهلوساتهم.جيل من الفلسطينيين يتجشم على نحو مكلف مشقة عيش لحظة كهذه ، ربما ليس لها نظير في حياة الجماعات والأمم. لحظة إختلط فيها حابل النهايات بنابل البدايات على نحو مؤلم للغاية.

واحد من هؤلاء، الذين عاشوا مسارات الصعود الواعد- لكن، المرتبك والعاثر- للفكرة الفلسطينية المعاصرة، التي تمحورت حول قيم التحرر والانعتاق هو احمد عبد الرحمن ، كان فيها فاعلا وشاهدا قبل أن ينتهي به المقام في سنوات عمره الأخيرة حزينا ومتأسيا.وكان ممن عرفوا مزايا الحلم وآفاقه الواسعة وخيراته الممكنة والمحتملة وصعوباته أيضا، إلا أنه صار رغما عنه وعن جيل على الاقل، ممن عاينوا ضمور القدرة على الحلم ، والمفجع أن يجرى ذلك في حدود الحياة المحتملة لشخص وليس بعد ثلاثة أجيال مثلا.

وفي مكان ما يمكن القول، بأن التجربة الفلسطينية المعاصرة، قد أطاحت بأطروحة ابن خلدون التي تحدثت عن خمسة أطوار وأربعة أجيال تقطعها الفكرة والعصبية والمشروع السياسي،بين صعودها وترديها في ظروف لا يكون فيها احتلال وصراعات معقدة،لقد تمكنت القوى المهيمنة في المشهد الفلسطيني من قطع أطوار ابن خلدون الخمسة وأجياله الأربعة ، ونزلت بفكرة الانعتاق والتحرر من افقها العالي إلى طور الضمور والتردي في حدود الجيل نفسه.

***

كان أحمد عبد الرحمن من الوجوه المعروفة في الحقبة الفلسطينية بحكم مسؤوليته عن الإعلام الموحد في منظمة التحرير الفلسطينية، أيام كان للإعلام صداه ودوره وحضوره. وبحكم تقلده الأمانة العامة لاتحاد كتاب فلسطين وصحفيها، يوم كانت الكتابة لفلسطين تعني مجد حراسة الوعي والذاكرة والحق. وبحكم رئاسته لتحرير مجلة" فلسطين الثورة" ، أيام كانت الدول وأجهزة التحليل والتقدير تنتظر صدورها كي تقرا السطور وما ورائها.

عرفت أحمد عبد الرحمن على نحو مباشرة وليس كإسم، في زيارة كانت الأولى قمت بها للراحل ياسر عرفات- ياسر عرفات الذي كان متاحا لكل الناس- في مقره بضاحية المتيال فيل شمالي تونس، وذلك بصفتي مراسلا صحافيا وكاتب مقالة في منابر عدّة.

يومها، وبعد أن سلمت على الراحل عرفات اتجهت إلى حيث كان يجلس أحمد عبد الرحمن وحيدا على يساره، في طريقي للسلام عليه، سأله عرفات: هل تعرفه يا أحمد. رد بكياسة دقيقة، نعم ، أعرفه من خلال كتاباته. عندما غادرت مقر الراحل ياسر عرفات، دعاني أحمد عبد الرحمن بكرم حميم لزيارته في مقر الإعلام الموحد، ففعلت، ومنذ ذلك الوقت ربطتني به مساحة خاصة ومميزة ،رغم أنها ظلت لاعتبارات موضوعية محدودة.

ياسر عرفات الذي كان لديه حس خاص إزاء الإعلام وأهميته- شرحه ذات يوم على نحو نبيه كريم بقردوني – احتفظ بأحمد عبد الرحمن في خطوط الجبهة الداخلية مقلدا إياه مسؤوليات متعددة ووازنة، ولم يدفع به نحو الخطوط الصاخبة، هناك كان لأحمد عبد الرحمن حضور مستدام وهام، وكانت له قدرة خاصة على قراءة المشهد الفلسطيني من خلال مشاركاته السياسية متعددة المستويات، ولاحقا، قدم واحدة من أهم الشهادات الفلسطينية عن تجربته تحت عنوان "عشت في زمن عرفات"، لم يجعل من المشهد العام دليلا على حضوره الشخصي ، بل روى شهادته بتوازن غير مألوف عند اغلب الفلسطينيين المعاصرين ،وهو نص هام يستحق التمعن فيه بعمق. وقليلة جدا هي النصوص السياسية الفلسطينية التي تتمتع بالجاذبية، خصوصا نصوص الشهادة.

***

عام 1990 وبمناسبة زيارة قمت بها لأحمد عبد الرحمن بمقره شمالي تونس العاصمة تيسرت لي لحظة تعارف عن كثب مع محمود درويش، كان ذلك في مدخل مقر الإعلام الموحد في حي المنزه السادس شمالي تونس، يومها كان محمود درويش يزور احمد عبد الرحمن حيث كانت تربطهما علاقة وثيقة..

وتزامن وصولي لزيارته مع لحظة وداعه لمحمود درويش على المدخل الخارجي للمقر، سلمت على الاثنين، فسأله أحمد عبد الرحمن بلطف، هل تعرف محمد فرحات، فرد درويش بكياسة من لا يعّرف الشخص الذي قدم إليه بغتة بالقول"الوجه ليس غريبا". فقلت له، أنا احد مواطنيك، احمل اسم محمد نعيم فرحات، ويكفيني أنني أعرفك نصا ومعنىً على نحو عميق وخاص. فقال لي هو أنت "محمد نعيم فرحات" قلت نعم، فعلق بأناقة، انه معجب بمقارباتي للمشهد الفلسطيني وبجمالية التطرق وتناول اليوميات السياسية الفلسطينية المتعبة، كما تنقلها إذاعة الشرق في باريس، التي كنت اعمل فيها في تلك الآونة، مندوبا للشؤون الفلسطينية في تونس، وكان محمود درويش يقيم في تلك الفترة في فرنسا ويسمع إذاعة الشرق بانتظام، شكرته وقلت له، أنا محظوظ بوجود مستمع خطير في باريس بحجم محمود درويش.

***

انطوى أحمد عبد الرحمن على مساحة مختلفة بالمعنى الايجابي عموما في مقاربة السياسة واليوميات والعلاقة مع الناس، وعاش داخل كثافة المشهد الفلسطيني بطريقة تخصه، وتمتع بطاقة مبادرة في التعامل مع المسائل واللحظات والمتطلبات، كانت غير ملحوظة سوى عند عدد قليل من زملائه في النخبة الفلسطينية.

في ذكرى وفاته الأولى التي تمر هذه الأيام، فإن احمد عبد الرحمن جدير بالتذكر والاستعادة ....

* كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين.