الكاتب:
العميد أحمد عيسى
المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
كشفت وسائل الإعلام المحلية والخارجية مع بداية العام الجديد عن رسالة كان قد أرسلها السيد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس للسيد الرئيس محمود عباس يوم الخميس الموافق 31/12/2020، يعلن فيها أن المؤسسات القيادية في حركة حماس قد قررت بعد التشاور فيما بينها العودة لمسار تحقيق المصالحة والشراكة والموافقة على إجراء الإنتخابات الثلاثية بالتزامن والترابط خلال ستة شهور من لحظة إصدار مرسوم رئاسي في هذا الشأن.
وكان مسار تحقيق المصالحة قد تعطل في جولة القاهرة التي انعقدت في شهر نوفمبر الماضي، نتيجة تراجع حركة حماس عن تفاهمات اسطنبول التي تم فيها التوافق على إجراء الإنتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني بالتتالي وفق النظام النسبي الكامل، وإشترطت بالمقابل إجراء الإنتخابات بالتزامن.
وكانت المحاولة الأخيرة لإنهاء الإنقسام المتواصل منذ صيف العام 2007 نتيجة لسيطرة حماس على قطاع غزة بالقوة العسكرية، قد بدأت في شهر يونيو/تموز الماضي، عقب إعلان القيادة الفلسطينية في شهر مايو/آيار الماضي على لسان الرئيس محمود عباس عن قررارها التحلل من الإتفاقات والتفاهمات مع كل من الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية الحالية بما في ذلك الإتفاقات الأمنية، لا سيما بعد إعلان الأولى عن عزمها ضم مناطق واسعة من الضفة الغربية لسيادتها طبقاً لخطة الثانية للسلام والإزدهار المعروفة بصفقة القرن.
من جهته رحب الرئيس محمود عباس بموقف حركة حماس الذي عبر عنه هنية في رسالته، وأكد في رسالة مكتوبة للسيد هنية وفقاً للبيان الصادر عن المستشار الإعلامي للسيد هنية طاهر النونو بتاريخ 3/1/2021، "إلتزامه والتزام حركة فتح ببناء الشراكة وتحقيق الوحدة باعتبارها هدفا إستراتيجيا، لا سيما وأن رسالة هنية تشكل أرضية للإنطلاق باتجاه بناء الشراكة وإنهاء الإنقسام وتجسيد وحدة الوطن والشعب والقيادة والقرار من خلال عملية ديمقراطية حرة ونزيهة"، وفي نفس اليوم أعلنت الرئاسة أن الرئيس قرر دعوة الدكتور حنا ناصر رئيس لجنة الإنتخابات المركزية لبحث الإجراءات واجبة الإتباع لإصدار المراسيم الخاصة بالإنتخابات وفق القانون، وفعلاً تم اللقاء يوم السبت الموافق 9/1/2021، وجرى تحديد موعد أقصاه 20/1/2021 لإصدار المراسيم الخاصة بالإنتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني.
في الواقع دفع قرار حركة حماس الدراماتيكي المراقبين للشأن الفلسطيني من الفلسطينيين وغير الفلسطينيين البحث عن أسباب هذا القرار، لا سيما وأن هناك انقسام واضح داخل حركة حماس من المصالحة، إذ هناك فريق لا يستهان به سواء في المستوى القيادي للحركة أم على صعيد القاعدة لا يزال يرى أن المصالحة غير ممكنة، الأمر الذي تجلى في خطاب حماس السياسي والإعلامي بعد جولة القاهرة الأخيرة، حيث أخذ هذا الخطاب منحى يظهر أن أسباب الإنقسام لا زالت حاضرة وفاعلة وهي اكثر بكثير من أسباب تحقيق المصالحة.
وفيما سارعت حركة حماس ووضحت في نص رسالة هنية للرئيس محمود عباس والأمناء العامين لفصائل العمل الوطني والإسلامي أن السبب الرئيس لقرارها التراجع عن مبدأ التزامن وقبول مبدأ التتالي والترابط في الإنتخابات يعود للضمانات التي تلقتها الحركة من كل من مصر وقطر وتركيا وروسيا، إلا أن هذا التوضيح لم يقنع الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني بما في ذلك المؤيدين والمناصرين لحركة حماس، الأمر الذي دفع البعض لتقديم تفسيرات أخرى توضح هذا التراجع، وقد برز في هذا الشأن ثلاثة تفسيرات.
حيث يرى التفسير الأول أن قرار حماس الذي عبرت عنه رسائل هنية للرئيس عباس والأمناء العامين، لا تنطوي على أي جديد وتعكس شهوة حب الظهور، خاصة في هذه اللحظة من الزمن التي تشهد فيها حركة حماس انتخابات داخلية، لا سيما وأن هناك حالة من السخط وعدم الرضا التي تجتاح قواعد الحركة تحديداً في قطاع غزة قد وصلت درجة القرف من كل ما يتلفظ به من هم في مشهد الحكم والسياسة، فضلاً عن درجة "الجهر بالسوء من القول" نتيجة يأسهم من تحسن حالهم خاصة وأن من يتولى أمور الحركة قد شاخوا وإستمرؤوا بهجة السفر والكلام، مما أدى الى إستثناء عقول الحركة الإستراتيجية وثروتها الفكرية، الأمر الذي تجلى بوضوح في مقالات أحمد يوسف وغازي حمد الأخيرة التي تحيل إليها هذه المقالة، وقد زادت التسريبات الأخيرة لأحد أفراد كتائب القسام قبل عدة أيام من هذا الوضوح.
ويضيف أصحاب هذا التفسير أن القرار لا ينبع من قراءة إستراتيجية للواقع الفلسطيني أعدتها مؤسسات التقدير الإستراتيجي في الحركة، لأن الحركة ببساطة تفتقد لوجود هذا النوع من المؤسسات في صنع القرارات لذلك تغيب عنها الرؤية الإسترايجية والشمولية في معظم قراراتها.
بالمقابل يرى أصحاب التفسير الثاني أن بعض الأطراف الدولية التي أشارت إليها رسالة هنية قد أبلغت الفلسطينيين بما في ذلك حركة حماس أن الإدارة الأمريكية الجديدة ترغب التعامل مع سلطة فلسطينية جرى انتخابها من خلال انتخابات ديمقراطية نزيهة وشفافة.
أما التفسير الثالث الذي يقف على رأسه الشيخ صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، فيرى أن القرار يأتي من باب الضرورة وعلى قاعدة أن درء المفاسد أولى من جلب المنافع، حيث تقتضي الضرورة تقديم المصلحة الوطنية العامة على مصلحة حماس حتى وإن بدى القرار للبعض من أعضاء الحركة ومحبيها ومؤيديها وأنصارها مؤشر على ضعف حركة حماس وتسليم منها بالنهج السياسي للرئيس عباس وشروطه في تحقيق المصالحة، لا سيما وأن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح مهددة في هذه اللحظة من الزمن بالإستبدال، وإذا ما جرى الإستبدال الذي يبدو ممكناً خاصة في ظل التطبيع العربي مع إسرائيل وغياب المجلس التشريعي وما قد ينشأ عن ذلك من فراغ في مرحلة ما بعد الرئيس، إذ سيفرط البديل في هذه الحالة بالقضية الفلسطينية وستكون أولويته شن حرب مقدسة ضد حماس ومشروعها المقاوم.
ويضيف أصحاب هذا التفسير أن هذا السيناريو قد أدى الى إلتقاء المصالح بين حركتي فتح وحماس في جعل تجميع الصف وإصلاح الوضع الداخلي من خلال إنتخابات حرة ونزيهة نقطة الإنطلاق لمواجهة إستحقاقات المرحلة القادمة التي تشهد تغيرات متسارعة في المنطقة والعالم حتى بعد رحيل الرئيس ترامب وحلول الرئيس بايدن محمولا على مقاربة أمريكية مختلفة عن مقاربة سلفه ترامب.
وفيما لا تقلل هذه المقالة من أهمية التفسيرات أعلاه وتأمل أن يكون التفسير الثالث هو المحرك الأساس لقرار حركة حماس في التراجع عن شرطها للإنتخابات، إلا أنها لا ترى أن الفلسطينيين قد إستعدوا لمواجهة تحديات المستقبل وما ينطوي عليه من تهديدات، لا سيما وأن حال حركة فتح المكون الأكبر والأقدم في المشهد الوطني والسياسي الفلسطيني المعاصر لا يختلف كثيراً عن حال حركة حماس، حيث لم تقنع أصغر الفلسطينيين سناً أنها قد عالجت أسباب فشلها في تقديم نموذج جاذب للشعب الفلسطيني في الحكم، كما أنها لم تنجح في تحصين بنيتها التنظيمية التي بات من السهل أمام المدعيين التسلل من خلالها للصفوف الأولى في مواقعها القيادية، وذلك وفقاً للتقرير الصادر عن اللجنة الرئاسية التي شُكلت للتحقيق في أحداث غزة العام 2007، وعلى الرغم من ذلك تأمل هذه المقالة ان تكون المصلحة الوطنية العامة هي المحرك الرئيس هذه المرة لإستئصال كل اسباب الإنقسام وتحقيق الوحدة والشراكة، كما تأمل أن تكون قد قررت فعلاً تعزيز مناعتها لتصبح عصية على المدعين سرقة قرارها الوطني.