الكاتب:
بقلم: د. صلاح الزرو التميمي / رئيس الجامعــة
مع دخول العام الجديد (2021) تكون جامعة الخليل قد أتمت الخمسين عاما من عمرها الزاهر. وبعد أن أضحى من غير اللائق إقامة أية أنشطة احتفالية بهذه المناسبة بسبب فيروس كورونا الذي اجتاح البلاد والعباد، فلا أقلَ من تسليط الضوء على بعض من دُرَر الجامعة النفيسة ولآلئها المضيئة التي تجلت فيما مضى من عمرها، في ساحات الصمود، والنضال، والعطاء، والبناء، والأمل الواعد وذلك جُهد المُقلّ.
خمسون عاما من الصمود مضت في مواجهة كل الضغوط السياسية والاقتصادية والنفسية، لم يفُتُ ذلك في عضُدها، ولا أطفأ جذوتها، فبقيت كما خُطط لها، جامعة فلسطينية مستقلة أبيه. قلعة شامخة تؤمن بالأصالة وتتطلع نحو الحداثة. منح وجودها الفرصة لآلاف الطلبة الذين كانوا مشاريع هجرة إلى الخارج للالتحاق بها، فبقوا بفضلها في وطنهم، ناهيك عن مئات الكوادر البشرية الأكاديمية والادارية والفنية التي وجدت فرص عمل لها في الجامعة، فأعالتهم وعائلاتهم، وكفتهم مذلة الرحيل عن الوطن والعوز ومزالق الطريق.
خمسون عاما من النضال والمواجهة المفتوحة طويت ضد الاحتلال وسياساته وحصاره واملاءاته، في ظل إصرار الجامعة دون تلجلج أو تردد على تعزيز الهوية الوطنية والانتماء للأمة، سقط خلالها عشرات الشهداء ومئات الجرحى والمعتقلين والموقوفين والمطاردين من طلبة الجامعة والعاملين فيها. هاجمها المستوطنون بشراسة في العام 1983 فوقع عدد من أبنائها ما بين شهيد وجريح. وأغلقها الإحتلال أكثر من مرة، أمتد بعضها لسنوات عدة، فما نال ذلك منها، ولا أوهن عزيمتها.
خمسون عاما من العطاء مرت، قدمت فيها الجامعة لمجتمعها كل سعتها، فرفدته بأكثر من ثلاثين ألف خريجٍ وخريجةٍ في دِراب العلوم المختلفة، ودعمته بمئات الأبحاث والمؤلفات النافعة، والكوادر المؤهلة من قادة فكر ودعوة وتنظيم وقضاة ورجال دولة وإدارة وقانون. يضاف إليهم سيل متدفق من الخدمات المجتمعية من فحوصات علمية وأنشطة بحثية واستشارية ورياضية وتطوعية، وبرامج التأهيل والتعليم المستمر والتوعية والتميز.
خمسون عاما من البناء صُعدا في المرتقى العالي، والاستثمار المدروس في الأرض والإنسان انقضت. كان باكورتها كلية وحيدة هي الشريعة ببناية صغيرة، وبضعة
محاضرين، وثلاثة وأربعين طالبا وطالبة ليس إلا. لتنطلق بعدها رحلة التجذر والتمدد والتطور في كليات أخرى فكانت: الآداب، ثم العلوم والتكنولوجيا، فالزراعة، فالتربية، ثم التمويل والإدارة، والتمريض، والدراسات العليا، ثم الصيدلة، فالحقوق والعلوم السياسية، ثم تكنولوجيا المعلومات، والمهن والعلوم التطبيقية، فالطب البشري. ثلاث عشرة كلية تضمها جنبات الجامعة اليوم بمختبراتها، وأقسامها، وبرامجها البحثية، مدعومة بشبكة علاقات ممتدة محلية واقليمية ودولية، ينهل من معين علومها اليوم قرابة عشرة آلاف طالبٍ وطالبةٍ في أكثر من مائة برنامج أكاديمي وتطبيقي في كل مستويات التعليم العالي (الدبلوم المتوسط، والبكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه) تحت إشراف كوادر مؤهلة تضم مئات المحاضرين والباحثين والمتخصصين والخبراء في الجانبين الأكاديمي والإداري.
خمسون عاما من الأمل المزهر إنبجست. فكانت الجامعة بارقة أمل للشعب الفلسطيني كله حين انطلقت بعد أربعة أعوام من هزيمة العام 1967، حيث ادلهم الخطب، وعم التيه والضياع الرعيب، فعاش الوطن أسود أيامه، وأحلك لياليه. وكانت نافذة أمل لطلاب التعليم العالي حين كانت أولى مؤسسات التعليم العالي تأسيسا على مستوى الوطن. وكانت فسحة أمل للفتيات اللواتي كن الأقل حظا في فرص التعليم العالي، وما هي إلا سنوات قليلة حتى مالت الكفة لهن، وما زالت مائلة إلى يومنا هذا. وكانت فُرجة أمل لأبنائنا الاعزاء من طلبة الداخل الفلسطيني الذين حوصروا ومنعوا من السفر والتواصل مع محيطهم العربي والاسلامي حتى ضاقت عليهم أنفسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فإذا بالجامعة تفتح لهم أبوابها، وتبدأ في استقبالهم منذ العام 1976، وما زالت أفواجهم تترى إلى يومنا هذا.
هذا غيْض من فيْض ما أحدثته الجامعة من تغيير، وبَرْضٌ من عِدِّ ما أنجزته الجامعة في خمسينيتها الأولى، وأهتبل هذه الفرصة للترحم على مؤسس هذا الصرح العظيم، المغفور له بإذن الله تعالى سماحة الشيخ محمد علي الجعبري الذي اشرأبت إليه الأعناق، وشخصت إليه الأبصار بعد نازلة عام 1967، فبادر إلى تأسيس الجامعة إيمانا منه بالإنسان، وبالعلم سبيلا للتنمية والتحرير. كيف لا وهو المتمرس في التجربة، المُكَرسُ حياته لخدمة وطنه وأمته. كان رحمه الله مدرسة في القيادة، ومرجعا في عالم السياسة لا يشق له غبار.
وأُزجي أسمى آيات التقدير لمجلس أمناء الجامعة برئاسة الدكتور نبيل محمد علي الجعبري، باني الجامعة، وحامل لوائها منذ العام 1983، ولجميع العاملين في الجامعة من الإداريين والأكاديميين. والشكر موصول لذاك الركب الممتد المعطاء من الرجال الرجال، الذين خدموا في الجامعة أو تطوعوا لخدمتها من أعضاء مجلس أمناء وغيرهم، من السابقين الأولين الراسخين في الانتماء والعطاء، منهم من قضى نحبه ومنهم من
ينتظر وما بدلوا تبديلا. كانت الجامعة لأولئك الرهط دأبهم وديْدنهم، بيتهم وقبلتهم، حياتهم ومصيرهم. بذلوا في سبيلها الغالي والرخيص حتى استوت على سوقها واستغلظت، وأضحى النيل منها خَرْط القتاد. أسأل الله أن يكلأ اولئك الأخيار بشآبيب رحمته في الدنيا والآخرة.
الايام قُلّبْ، وبعد خمسين عاما من الآن سوف تكون الجامعة وعُشاقها على موعد مع رئيس جامعة آخر، يحدثهم بزهو وافتخار عما حققته الجامعة في مئويتها الأولى من إنجازات وإبداعات. سيطلعهم على كليات جديدة تم افتتاحها، وبرامج نوعية وتطبيقية تم اطلاقها، ومراكز بحثية تم استحداثها، وعلاقات جديدة تم نسجها. سيحدثهم عن جودة التعليم في الجامعة، وعن بحوث وإبداعات كوادرها، وعن المشفى الجامعي وما يقدمه من خدمات للطلبة والمجتمع. وكيف ترفعت الجامعة عبر مسيرتها الطويلة عن الصغائر والمستنقعات والأوحال. فجامعة الخليل وجدت لتبقى، وستبقى بمشيئة الله وحفظه فوق الجراح، وفوق الانقسام، وفوق الغلو والتطرف، وفوق الفئوية والطائفية والعنصرية، وفوق العصبيات القبائلية والفصائلية والجغرافية. سوف تبقى جامعة الخليل جامعة الوسطية والتعددية، جامعة الأحرار، جامعة الوطن والإنسان.