الكاتب: داوود كتاب
يعاني سكان القدس الشرقية الفلسطينيون من مأساةٍ دامت أكثر من خمسة عقود، فمنذ احتلال عام 1967 لم يحظوا (330 ألف نسمة) من أي سلطة مركزية تنظم حياتهم وتخطّط لمستقبلها. قد يكون الاستثناء الجزئي الوحيد في أثناء هذه العقود في فترة القائد الوطني فيصل الحسيني، الذي على الرغم من انشغاله بدور قيادي في كل ما يتعلق بالانتفاضة الأولى، إلا أنه حاول، من خلال بيت الشرق، توفير عنوان ولو غير مكتمل للمقدسيين.
مشكلة القدس الرئيسية أن أبناءها محرومون أي دور قيادي سياسي، حتى في الأمور المحلية، فعلى الرغم من أهمية بيت الشرق، إلا أن إسرائيل نجحت في إغلاقه في وقت سريع بعد توقيع اتفاقية إعلان المبادئ مع منظمة التحرير الفلسطينية (أوسلو)، التي استثنت القدس من الحلول المباشرة، وأجّلت مستقبلها إلى مرحلة المفاوضات النهائية. وعلى الرغم من أن تلك المفاوضات كان مفترضاً أن تنتهي في أقل من خمس سنوات، إلا أنها امتدت الآن إلى أكثر من 25 سنة، ولا يوجد أي ضوء في آخر هذا النفق المظلم. وقد وضعت وفاة أبو العبد (فيصل الحسيني) المفاجئة، في أثناء وجوده في الكويت عام 2001، وضعت حدّاً نهائياً لآخر رمز وطني، كان يستطيع أن يلمّ شمل المقدسيين، ويحاول أن يوفر توجهاً معيناً وقيادة سياسية تربط المواطنين بالقيادة الرئيسية في رام الله، على الرغم من أن العلاقة بين فيصل الحسيني والقيادة في المقاطعة لم تكن دائماً في أفضل الحالات.
إذاً، ترك غياب قيادة وطنية وعنوان متفق عليه، القدس والمقدسيين في مهب الريح، وقد يكون الوضع في ضاحية كفر عقب، خلف جدار العار الذي نصبته إسرائيل، أسوأ علامة على غياب أي قيادة مركزية، حيث توفي، في الأسبوع الماضي، ثلاثة شبان، أحدهم طبيب، كلهم من عائلة الرجب، ضحية شجارات عائلية مسلحة، وفي غياب أي نظام أو مرجعية لحل الإشكالات الداخلية. لقد أعاد الوضع الحالي النظام العشائري لحل الإشكالات، وترك المقدسيين الضعاف فريسة في يد الأقوياء، عائلات وعشائر أو أشخاصاً تابعين، ولو شكلاً، لهذا الفصيل الفلسطيني أو ذلك الجهاز الأمني المرتبط برام الله. وعلى الرغم من وجود عشرات المؤسسات الفلسطينية واللجان التي تدّعي الاهتمام بالقدس، إلا أن تلك المؤسسات لم تقم بأي عمل لتوفير مرجعية وطنية للمقدسيين، إما بسبب إسرائيل، أو بسبب ضعفها وعدم نجاعتها وتغوّل فساد القائمين عليها.
غياب المرجعية جعل المقدسيين أيتاماً سياسيين، فإسرائيل تمنع، بقوة السلاح وأوامر الدفاع المعتمدة على قانون الطوارئ البريطاني لعام 1945، أي تجمع سياسي، أو وجود رابط وحدوي مع أي طرفٍ وطنيٍّ، يهتم بالمصلحة العليا للمقدسيين. وطبعاً فرصة العمل السياسي تحت الاحتلال المقدسي متوافرة، بسبب ضمّ القدس إلى إسرائيل، وسريان القانون المدني (بدل من العسكري)، ولكن امتناع المقدسيين عن المشاركة السياسية في أي أمر يتعلق بإسرائيل وعدم التوجه للحصول على الجنسية الإسرائيلية (إلا لعدد قليل جداً لا يتجاوز 2% من سكان القدس العرب) سبب استمرار هذا الفراغ السياسي. وعلى الرغم من أن المقدسيين غير المجنّسين لدى إسرائيل لا يسمح لهم بالتصويت والمشاركة في انتخابات الكنيست الإسرائيلي، إلا أن القانون الإسرائيلي يوفر لهم الحق بالمشاركة في الانتخابات البلدية من خلال هوية الإقامة الزرقاء، ولكن قرار مقاطعة بلدية القدس الموحدة من طرف واحد منذ 1967 أيضاً أضاع للمقدسيين القدرة على التأثير بما يجري في مدينتهم المفترض أن تصبح عاصمة دولة فلسطين.
ليس الأمر محصوراً في المجال السياسي، فالبنية الاجتماعية للمقدسيين تغيرت كثيراً، فمع مرور الزمن، ومنذ أوائل القرن الماضي، تقلصت العائلات المقدسية التاريخية، حيث ذهب عديد منهم للعمل في الدول العربية والأجنبية، وأبلوا حسناً، ولكن ذلك كان على حسب فراغ فكري وقيادي. ولم تقتصر الهجرة على العائلات المعروفة، بل شملت أيضاً أبناء القدس المسيحيين، الذين كانت نسبتهم حوالى 20% من سكان القدس، وهي حالياً حوالى 1% من السكان.
المشكلة سابقة للاحتلال، وكان المفتي أمين الحسيني واعياً لخطورة تفريغ القدس من قيادتها، فعمل في أوائل القرن الماضي وأواسطه على إقناع فلسطينيين عديدين، وخصوصاً أهل الخليل، بالانتقال للعيش في القدس. بعد الاحتلال، وبسبب وجود فراغ إداري، وعدم معرفة المقدسيين باللغة العبرية والقوانين الإسرائيلية، شهدت القدس هجرة واسعة إليها من أبناء الجليل والمثلث، الذين عملوا في كل المؤسسات الإدارية الإسرائيلية، وعملوا أيضاً في المهن المحترفة، مثل المحاماة وتدقيق حسابات وطب، وغيرها من المهن التي خدمت المقدسيين، أو شكلت فرص عمل لفلسطينيي الداخل، للإقامة في بيئة عربية، وتعليم أولادهم في المدارس العربية في القدس، فيما كان الأهل يعملون في المؤسسات والشركات الإسرائيلية، إضافة إلى العمل في القدس.
لقد أوجد الوضع الديمغرافي في القدس جزراً مختلفة من الناس، لا علاقة أو تنسيق فيما بينهم. والأكثر خطورةً أن غياب الهوية الجامعة أحدث حالةً من انفصام الشخصية، وتطرفاً واستقطاباً وضياعاً، خصوصاً لفئة الشباب حول من هم وما هو مستقبلهم. لم يعد الوضع المقدسي يتحمل غياب خطة وطنية استراتيجية للعمل المشترك لما هو مصلحة القدس وأهلها. المطلوب الآن، وبدون أي تأخير، توحيد المقدسيين حول هوية وطنية جامعة، وأهداف منطقية قابلة للتحقيق، من خلال استراتيجيةٍ عمليةٍ يمكن تطبيقها والعمل عليها. فهل من مستمع إلى هذا النداء؟