د.مصطفى البرغوثي
الامين العام لحركة المبادرة الوطنيةالفلسطينية
أعلنت حكومة إسرائيل أنها أمنت ثمانية ملايين لقاح ضد وباء الكورونا من شركة فايزر بالإضافة إلى ستة ملايين لقاح من شركة مودرنا، وبذلك فإنها ضمنت كمية كافية لتطعيم كل من تنطبق عليهم قواعد التطعيم ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية .
ولكن حكومة إسرائيل تنكرت لمسؤوليتها كقوة احتلال وتجاهلت حاجة ما يزيد عن خمسة ملايين فلسطيني من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، الواقعة تحت الاحتلال والحصار الإسرائيلي، لهذه المطاعيم.
ويتجلى الطابع العنصري لهذه الممارسة والذي يذكرنا بما كان عليه نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا في الضفة الغربية، حيث ينتشر 750 ألف مستوطن اسرائيلي، غير شرعي حسب القانون الدولي،يتلقون الان جمعياً التطعيم ضد وباء الكورونا ، في حين لن يحصل اكثر منة ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون في نفس المنطقة على أي لقاح، ومن غير المعروف متى ستتمكن منظمة الصحة العالمية من توفير كميات محدودة من اللقاح لبعضهم .
وتتجلى عنصرية النظام الحاكم في اسرائيل بابشع صورها في قراره تطعيم الجنود والسجانين في السجون الاسرائيلية ومنع تطعيم اكثر من خمسة الاف اسير سياسي فلسطيني في هذه السجون.
أما قطاع غزة الذي تحاصره إسرائيل حصاراً محكماً براً وبحراً وجواً، ولا تتوفر فيه الكهرباء الا لعشرة ساعات يومياً في احسن الأحوال، بعد أن دمرت القوات الإسرائيلية الجزء الأكبر من محطات توليد الكهرباء فيه، وحيث تصل نسبة الملوحة والتلوث إلى 94% من مياهه، وتصل نسبة الفقر فيه إلى 53%، كما تصل بطالة الشباب المتعلم فيه إلى 80%، فإنه يعاني اليوم من انفجار وبائي بعد أن تسلل فيروس الكورونا إليه، وتصل نسبة الإصابات فيه وفي الضفة الغربية إلى %30 من إجمالي الفحوصات بالمقارنة مع 4.5% فقط في إسرائيل، مما يعني ارتفاعا حاداً في انتشار الوباء، في حين لا تبدو في الأفق القريب فرصة لوصول اللقاحات المضادة للفيروس إلى سكانه .
وتتصاعد يومياً مخاطر انهيار القطاع الصحي في الضفة الغربية وبشكل أكبر في قطاع غزة، حيث وصلت نسبة إشغال الأسرة المخصصة لمرضى الكورونا إلى 100%، كما يبدو الأفق سوداويا فيما يتعلق بتوفير أجهزة التنفس الإصطناعي حيث لا يزيد عدد هذه الأجهزة عن 400 جهاز في الضفة الغربية تخصص منها 130 فقط لمرضى الكورونا، وحوالي 140 جهاز في قطاع غزة تخصص معظمها لمرضى الوباء، وتعاني مستشفيات قطاع غزة من نقص خطير في الأكسجين، ومولدات الأكسجين، ولكم أن تتخيلوا ماذا يحدث لمرض الكورونا وهم يعانون من الاختناق نتيجة اصابة جهازهم التنفسي دون أن يتوفر الإكسجين لهم .
قد تدعي السلطات الإسرائيلية أن مسؤولية توفير التطعيم في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين تقع على عاتق السلطة الفلسطينية، ولكن هذا الإدعاء لا يصمد أمام الحقائق العنيدة التي تؤكد أن السيطرة المطلقة في هذه المناطق هي لإسرائيل وجيشها، فالسلطة الفلسطينية لا تسيطر على الحدود ولا المعابر، ولا الأجواء وهي فعلياً موجودة فقط في 38% من مساحة الضفة والقطاع المقطعة الأوصال بالجدار والحواجز والمستوطنات الإسرائيلية، وتفرض إسرائيل سيطرتها العسكرية والأمنية على كل شبر في الأراضي المحتلة ، ولا تستطيع السلطة الفلسطينية استيراد أي لقاح دون موافقة الجانب الإسرائيلي لأنها لا تسيطر على الحدود ولا الواردات والصادرات. وما يزيد الطين بلة، أن قطاع غزة محاصر اسرائيلياً بالكامل، ويعاني أطباؤه وجهازه الصحي الأمرين كلما حاولوا الحصول على موافقة اسرائيلية لادخال أجهزة طبية وأدوية، ويمنع سكانة من التنقل بحرية إلى خارج القطاع .
كما يمنع معظم سكان الضفة الغربية بما في ذلك الأطباء من الوصول إلى قطاع غزة، أو الدخول إلى القدس العربية التي تمثل جزءً من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفيها بعض أهم المرافق الصحية الفلسطينية. ويمثل قطاع غزة واحدا من أكثر مناطق العالم ازدحاما بالسكان ففي مساحة لا تتجاوز 140 ميلا مربعا يعيش أكثر من مليوني انسان، سبعون بالمائة منهم لاجئون، طردوا من مدنهم و قراهم عام 1948 على يد القوات الإسرائيلية، ويعيشون في مخيمات مزدحمة وقد يصل عدد الأفراد إلى ستة في الغرفة الواحدة، ولهذا يستحيل على المصابين بالفيروس عزل أنفسهم كما تطالبهم الأجهزة الصحية، إذ لا يوجد في بيوتهم أماكن للعزل او مرافق صحية كافية مما أدى إلى انتشار سريع وخطير للوباء لا علاج له إلا توفير المطاعيم بسرعة لجميع السكان.
أما ما يسمى بمناطق (ج) في الضفة الغربية التي تزيد مساحتها عن 60% فهي ممنوعة على السلطة الفلسطينية، وكلما حاول الفلسطينيون بناء عيادات أو مراكز صحية أو مدارس فيها يقوم جيش الاحتلال الإسرائيلي بهدمها . و في مدينة القدس قامت السلطات الإسرائيلية باعتقال متطوعين في جمعية الإغاثة الطبية الفلسطينية في شهر آذار عندما حاولوا توزيع مواد تثقيفية صحية للتوعية بوباء الكورونا، كما قامت هذه السلطات بإغلاق أكثر من مركز صحي تم إنشاؤها بجهد تطوعي من المجتمعات المحلية .
هذا التمييز الصارخ ضد أكثر من خمسة ملايين فلسطيني يعيشون في أرض فلسطين يمثل تنكراً فاضحاً لحقيقة أن الأوبئة والأمراض لا تعرف الحدود، بل أن سلوك نتنياهو وحكومة إسرائيل العنصري بتوفير اللقاح لحاملي الجنسية الإسرائيلية فقط دون اعتبار لملايين الفلسطينيين المقيمين على نفس الأرض، يمثل خطيئة صحية، فالمناعة الجماعية لن تتوفر حتى للإسرائيليين الذين يستغلون جهد وعمل أكثر من مائة وثلاثين ألف عامل فلسطيني، وما دام مئات آلاف الإسرائيليين يواصلون عبر المستعمرات الأستيطانية والأنشطة العسكرية القمعية التواجد في الأراضي المحتلة .
ومن المبشر بالخير ان انفضاح " طب الابرتهايد الاسرائيلي " و نتيجة الجهود التي نقوم بها مع المؤسسات العالمية ووسائل الاعلام ادى الى انفجار حملة عالمية فعلا لادانة السلوك الاسرائيلي و لمطالبة كل دول العالم بالضغط على اسرائيل وتوفير المطاعيم للفلسطينيين. بل ان فضيحة "طب الابرتهايد" جعلت الملايين يرون اخيرا ما حاولنا ايضاحه مرارا وتكرارا بأن كل المنظومة الاسرائيلية هي منظومة ابرتهايد أسوا مما كان في جنوب افريقيا و ذلك يفتح الباب على مصراعيه لتصعيد النضال لاسقاط نظام الابرتهايد بكامله.
هناك تناقض كامل ومطلق بين الرعاية الطبية التي أؤمن بها كطبيب والتي لا يمكن أن تفرق بين إنسان وآخر بسبب الدين أو اللون أو العرق، وبين الممارسة العنصرية لحكام اسرائيل، لأن أول قاعدة تعلمناها في كليات الطب "لا تؤذي أحداً ولا تميز بين إنسان وإنسان" وعلى هذا أقسمنا عندما حملنا شهادة الطب .
ولا يحق لسياسيين كنتنياهو، مهما كانت قوتهم، أن يُخضعوا الطب والرعاية الصحية لتمييز عنصري لأنهم بذلك يؤذون الجميع ويهينون القيم الإنسانية السامية لمهنة الطب .