الكاتب: الشيخ الدكتور/ يوسف جمعة سلامة
تحتل مدينة القدس مكانة مميزة في نفوس العرب والمسلمين، حيث تهفو إليها نفوسهم وَتُشَدّ إليها الرحال من كلّ أنحاء المعمورة، ففيها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، وهي بقعة مباركة، بل هي من أقدس البلاد وأشرفها، فهي أرض النبوات، وتاريخها مرتبط بِسِيَرِ الرُّسُل الكرام -عليهم الصلاة والسلام-، وهي أرض المحشر والمنشر، وفيها التاريخ الإسلامي العريق الذي يزرع نفسه بقوة في كلّ شارع من شوارعها، وكلّ حجرٍ من حجارتها، وكلّ أثر من آثارها، فهي عزيزة علينا، ديناً ودنيا، قديماً وحديثاً، ولن نُفَرِّط فيها أبداً مهما كانت المُغريات، ومهما عظمت التهديدات.
فهذه المدينة المقدسة تتعرض لمجزرة بشعة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي تستهدف الإنسان والمقدسات والتاريخ والحضارة في ظل تعتيمٍ إعلامي كبير، إلا أنها في الفترة الأخيرة أصبحت تُجَاهِر في تهويدها للمدينة المقدسة وقلبها المسجد الأقصى المبارك، غير آبهة بالمجتمع الدولي ولا بقراراته، وإِنَّنا نُؤَكِّد هنا على أنَّ المسجد الأقصى المبارك مسجد إسلامي بقرار رباني لا يُلغيه أي قرار صادر من هنا أو هناك، وليس لغير المسلمين حقٌّ فيه.
والأقصى: اسم للمسجد كلّه الذي تبلغ مساحته (144) دونمًا بساحاته وأروقته وقبابه ومصاطبه وأسواره، وكلّ جزء فيه سواء كان فوق الأرض أم تحتها هو حقٌ خالصٌ للمسلمين وحدهمٍ.
لقد ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد الأقصى بالقدس في الآية الأولى من سورة الإسراء، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، وذلك حتى لا يفصل المسلم بين هذين المسجدين، ولا يُفَرِّط في أحدهما، فإنه إذا فَرَّطَ في أحدهما أوشك أن يُفَرِّط في الآخر، فرحاب القدس الشريف مثل رحاب مكة المكرمة والمدينة المنورة.
إنّ المسجد الأقصى المبارك هو ثاني مسجدٍ وُضِعَ لعبادة الله في الأرض، فارتباط المسلمين بالمسجد الأقصى المبارك ارتباط عقدي وليس ارتباطاً انفعالياً عابراً، ولا موسمياً مؤقتاً ، فهو مسرى نبينا محمد – صلّى الله عليه وسلّم - حيث صَلَّى فيه رسولنا الأكرم – صلّى الله عليه وسلّم - إماماً بإخوانه الأنبياء والمرسلين –عليهم الصلاة والسلام- في ليلة الإسراء والمعراج، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تُشَدّ إليها الرِّحَال، كما أَنَّ للمسجد الأقصى المبارك مكانة عظيمة في قلوب المسلمين، وتعميقاً لقيمته في قلوبهم، فقد ضاعف الله فيه أجر الصلاة.
وفي جنبات المسجد الأقصى المبارك رفع الصحابي الجليل بلال بن رباح الأذان بصوته النَّدي، وفي ظلّ هذا البيت دُفِن العديد من الصحابة الكرام، وعلى رأسهم عبادة بن الصامت أول قاضٍ للإسلام في بيت المقدس، وشدَّاد بن أوس، وغيرهما من عشرات الصحابة –رضي الله عنهم أجمعين-، وما من شبرٍ من أرضه إلاّ وشهد ملحمة أو بطولة تحكي لنا مجداً من أمجاد المسلمين.
ومن الجدير بالذكر أن العرب والمسلمين قد أولوا المسجد الأقصى المبارك والمدينة المقدسة عناية كبيرة عبر التاريخ، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يخرج من الجزيرة العربية إلا إلى القدس في رحلة الإسراء والمعراج، كما أنّ سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الذي فُتحت في عهده مصر ودمشق وبغداد، لم يذهب لاستلام مفاتيح أية عاصمة، وإنما جاء إلى القدس في إشارةٍ منه
إلى مكانة هذه المدينة في عقيدة الأمة، كما جاءها مئات الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين-.
إِنَّ مدينة القدس في هذه الأيام تتعرض لِمِحْنَةٍ من أشدّ المِحَنِ وأخطرها، فالمؤسسات فيها تُغلق، والمرجعيات الشرعية والشخصيات الوطنية تُلاحق، والبيوت تُهدم، والأرض تُنهب، والمقابر تُدَمّر، والمناهج التعليمية تُزَوّر، والضرائب تُفرض، والهويات تُسحب، وكلّ معلم عربي يتعرض لخطر الإبادة والتهويد، والعالم وللأسف يُغلق عينيه، ويصمّ أُذنيه عما يجري في مدينة القدس.
إِنَّ الإعتداءات الإسرائيلية والإقتحامات اليومية للمسجد الأقصى المبارك تُشكل حلقة من المخطط الاحتلالي الإجرامي لتهويد المدينة المقدسة، وفرض السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى المبارك من خلال محاولة تقسيمه زمانيًا ومكانيًا تمهيدًا لإقامة ما يُسَمّى بالهيكل المزعوم على أنقاضه
لا سمح الله، وما الحصار الذي يجري فرضه على المسجد الأقصى المبارك بين الحين والآخر لمنع المصلين من الوصول إليه، بذريعة جائحة كورونا وتحت حُجَجٍ واهية أخرى عنا ببعيد!، وكذلك الحفريات الإسرائيلية المُدَمِّرة والأنفاق المتعددة التي تَسَبَّبَتْ في تقويض بنيانه وزعزعة أركانه، وإننا نُؤَكِّد على أنَّ جميع المحاولات التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي لفرض أمرٍ واقعٍ في المسجد الأقصى المبارك، لن تنجح إِنْ شاء الله في تغيير الحقائق وطمس المعالم والمقدسات الإسلامية في المدينة المقدسة، فمدينة القدس ستبقى إسلامية الوجه، عربية التاريخ، فلسطينية الهوية، ولن يسلبها الاحتلال وجهها وتاريخها وهويتها مهما أوغل في الإجرام وتزييف الحقائق.
إِنَّنا نُشيد بصمود أهالي المدينة المقدسة وتمسّكهم الدائم بالدفاع عن أقصاهم ومقدساتهم، وتصدّيهم المستمر لِمُخَطّطات سلطات الاحتلال الإسرائيلي، فمسئولية الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك ليست مسئولية الشعب الفلسطيني وحده وإِنْ كان هو رأس الحربة في الذّود عنه، إِنّما هي مسئولية العرب والمسلمين جميعاً في مساندة هذا الشعب المرابط والوقوف بجانبه ودعم صموده؛ للمحافظة على أرضه ومقدساته، خصوصاً في هذه الأيام التي يتعرض فيها المسجد الأقصى المبارك لمؤامرات خبيثة.
لذلك فإننا نناشد أبناء الأمتين العربية والإسلامية أَلاَّ ينسوا مسرى نبيهم محمد- صلّى الله عليه وسلّم- وأهله، وأن يعملوا جاهدين على المحافظة على هذه المدينة المباركة و حماية أقصاها ومقدساتها، فالواجب عليهم دعم أشقّائهم المقدسيين في شَتَّى المجالات كي يبقوا مرابطين ثابتين فوق أرضهم المباركة؛ لأنّ المواطن المقدسي هو الذي يُدافع عن الأقصى والقدس والمقدسات صباح مساء.