الكاتب: د. فاهوم الشلبي
لم يعد خافيا على أحد، بأن التعليم في فلسطين: مدارس وكليات متوسطة وجامعات ينحدر بتسارع كبير الى الأسفل ويتراجع مستوى نوعيته وجودته عما كان عليه قبل عشرات السنين!!! ونحن الأكاديميون أصبحنا نشتكي بأن التعليم لم يعد أولوية عند السلطة الوطنية الفلسطينية وذلك لعدم تخصيص الموازنات المالية السنوية الكافية للتطوير ولتراجع الدعم الحكومي المالي للجامعات العامة الفلسطينية، على عكس الدول التي بدأت نهضتها بمراجعة سياساتها التعليمية وتقويمها وتخصيص المال الكافي لتنفيذها، ايمانا منها بأن التقدم في التعليم سيعكس تقدما في كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذا ما فعلته ماليزيا مثلا.
عندنا، لم تتجاوز نسبة الموازنة السنوية المخصصة للتعليم (مدارس وجامعات) عن حوالي 18% من مجموع الموازنة الكلية، وعن 3.6% من اجمالي الناتج القومي الفلسطيني (تقارير معهد ماس، وتقارير الوزارة غير المنشورة) ومعظمها رواتب وتقاعد وتشغيل وتبقى نسبة لا تكاد تذكر للتطوير والذي عادة يستعاض عنه بالمساعدات الدولية. فالتوسع والتجديد الحاصل في بعض المدارس الحكومية، هو في المعظم نتاج لدعم وتبرع من اهالي القرى والبلدات ومن المساعدات الخارجية، وإذا تعلق الامر بشراء مراوح أو صوبات للتكيف مع الصيف والشتاء في غرف التدريس فتتم من الاهالي او من فاعل خير وهكذا للعديد من امور الصيانة!!!
وعلى صعيد الجامعات العامة (غير الحكومية وغير الخاصة والمولودة قبل مجيء السلطة) فمخصص لها 20 مليون دولار سنويا من موازنة السلطة بند الطوارئ،لكنها لا توزع جميعها بل بنسبة تتفاوت من سنة لأخرى ما بين 40% و60% تقريبا. علما ان متوسط العجز السنوي التشغيلي عندها يزيد عن 28 مليون دولار سنويا (دراسة غير منشورة,2015). وبالتالي تلجأ الى كسر كافة معايير النوعية من زيادة في حجم الطلبة في الشعبة الواحدة وزيادة العبء لعضو هيئة التدريس وتعيين جزئي وهكذا دون التفكير برفع الاقساط بما لا ينسجم مع المستوى الاجتماعي- الاقتصادي لمعظم أسر الطلبة والذي قد يترتب عليه تعليقات دوام واضرابات وما شابه.
ولم تقتصر الحالة على الأمور المالية فحسب،فهناك أمور حاكمية وإدارية تعتبر أكثر حدية. فإلى متى سيبقى مدير المدرسة لا يملك صلاحية اتلاف مقعد مدرسي في مدرسته لأن الصلاحياتفي يد لجنة اتلاف مركزية!!! والى متى ستبقى المدرسة تتحمل وجود بعض المدرسين/ات المنقولين/ات اليها عقابا لهم/ن بحكم مخالفاتهم/ن أو تقصيرهم/ن؟!! والى متى سيبقى هذا النظام الإداري المركزي؟؟ ما الخطأ في تحويله ولو تدريجيا الى لامركزي على مستوى المديريات والمواقع الجغرافية ولاحقا على مستوى المدرسة!!! متى ستأخذ المدرسة التي هي "المطبخ الرئيسي" للتعليم والتعلم مجدها ومقدرتها على معالجة احتياجاتها والنهوض بنفسها؟ متى ستأخذ المكان الصحيح كجهة منفذة في الخطط التنفيذية للاستراتيجيات المتوسطة المدى التي تعتمدها الوزارة؟ متى ستعود العلامات المدرسية بما فيها علامات التوجيهي تقيس مستوى الطالب الحقيقي؟ فلا غرابة ان يكون معدل ثانوية عامة 92% مثلا هذه السنوات يعادل معدل 82-85% قبل عشرة سنوات!!! متى سيعطى الطلبة الأقل حظا الانتباه الكافي من المعلمين للتفاعل معهم ومعرفة مشاكلهم والتركيز عليهم ليكون الجميع داخل الصف المدرسي مجال الاهتمام وبدون تحيز للمجتهدين فقط!!!
وعودة لقطاع التعليم العالي، فمؤسساته خاصة العامة منها، تتنافس فيما بينها على قبول أكبر عدد ممكن من الناجحين في الثانوية العامة بمعدلات تزيد عن 65%، وهو المعيار الوحيد حاليا، وتعمل جاهدة على تطوير برامج جديدة لتمنح درجة الماجستير ودرجة الدكتوراه كي تحصل الأقساط والرسوم المربحة من دون مشاكل طلابية، لكن في تخصصات أدبية وإدارية ولا تحتاج مختبرات وأجهزة ومعدات، وذلك لعدم توفر بيئة بحث علمي حقيقية مدعومة بوفرة مالية!!! الملخص أن الأقساط الطلابية المحصلة غير كافية لتغطية العجز المالي فيها، ويجب على السلطة الوطنية أن تخصص الموازنة المطلوبة لسد العجز باعتبار التعليم والصحة أولوية، فما الخطأ من تخصيص 1% أو نصف % من عائد ضريبة السجاير لهذا الغرض وطمأنة الجامعات العامة بذلك حتى تعمل على إعادة هندسة واقعها وتقوم بواجباتها تجاه مجتمعها الحاضن لها وتجاه الإنسانية بتطوير المعرفة والتكنولوجيا لتحسين حياة البشرية.
واذا لم يتحقق ذلك، خاصة لا سمح الله مع استمرار انتشار جائحة كورونا، والاستمرار بالتعليم الإلكتروني الذي لم يجرب محليا في السابق، والذي يصعب فيه التفاعل والمناقشة بين الطالب وعضو هيئة التدريس، ويصعب ضبط الامتحانات ووسائل تقويم تحصيل الطلبة، واحتمالية الغش ستكون عالية في معظم الامتحانات خاصة في ظل اعداد طلبة هائل بحكم تهافت الجامعات على قبول طلبة جدد طمعا بالأقساط والرسوم التي سيدفعونها، فبكل مرارة اقولها، ان مخرجات التعليم بمثل هذه الأحوال ستكون رديئة، والمخرجات المقصودة والمرجوةسوف لا يتم تحقيق الا القليل منها، وبالتالي سيواجه القطاع الخاص المشغل وكذلك العام المشغل، مشكلة حقيقية في إيجاد الخريج الممتلك للمهارات التي يحتاجها العمل. فالتوصية للقطاعات المشغلة بأن تعمل جهود إضافية في اختبار الخريجين الجدد، لتحديد مستوياتهم وقدراتهم، وعمل برامج التدريب المناسبة لتأهيلهم ومن ثم تشغيلهم.
من هذه الخلفية، نقترح اجراء "العمليات الجراحية" لإنقاذ التعليم في فلسطين.