الخميس: 23/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

مزيونة ترشح نفسها للإنتخابات

نشر بتاريخ: 08/02/2021 ( آخر تحديث: 08/02/2021 الساعة: 09:42 )

الكاتب: عيسى قراقع

جاءها في المنام من ينادي ويقرأ على حلمها ما خبأه الغيم من مطر، أخذ بيدها، مسك عكازتها ودلها على ماوراء الجبل، قال لها: سيري يا مزيونة حتى تتراءى أمام عينيكِ نيران تقذفها الأرض والسجن والسماء والمخيم.
مزيونة المرأة الثمانينية والدة الأسير ناصر أبو سرور الذي يقضي 29 عاماً داخل سجون الاحتلال الاسرائيلي، على مدار هذا العمر تعلمت أبجديات جديدة: أن تحصل كل ستة شهور أو سنة على تصريح لزيارة ولدها، أن تثبت لدى أجهزة الأمن الاسرائيلية ان لها صلة قرابة بإبنها، أن تصعد الى الحافلات منذ ساعات الفجر الأولى حاملةً بعض الكتب والأمنيات، أن تقف على حاجز عسكري وتدور في جهاز آلة التفتتيش خشية ان يكون في قلبها قنبلة موقوتة، ان تقف امام الزجاج الفاصل في غرفة الزيارة مبتسمة رغم الحزن الذي يسيل على وجهها، ان تقنع ابنها انها تراه جيداً رغم انها فقدت النظر.
مزيونة ترشح نفسها لانتخابات المجلس التشريعي، تحاول ان تقنع ابنها بأنها لازالت قوية احتملت كل خيبات الأمل عندما لم يفرج عنه في الدفعة الرابعة، وعليه ان يصدق انها لن تموت قبل ان يتحرر من السجن وانها ملتزمة بالاتفاق معه بأن تنتظره قبل مجيء الأجل.
مزيونة ترشح نفسها للانتخابات، طمأنت ابنها ناصر انها تضع ساطوراً قرب وسادتها حتى تطرد ملاك الموت اذا ما جاء، هذا الساطور ورثته من زوجها المرحوم الذي كان يعمل جزاراً، وانها زرعت الورد والاشجار فوق سطح البيت لاستقباله قريباً قريباً، الأشجار عالية يا ناصر، الأشجار هي الاغاني التي تلوح بألحانها لكل الاسرى العائدين، تقول له: كن كما انت لا تسمح للجدار ان يسكنك، انت حرٌ في قلبي، لا زمن يغطيك سوى زمني، لنا عمرٌ واحد لا يلتقي إلا في فضاء الحياة.
مزيونة ترشح نفسها للانتخابات، هي بحاجة الى انبياء سياسيين يجيبون على كل الاسئلة، انبياء يجعلون من الاوجاع قصائد شعرية من بيت واحد، قرار واحد، لغة واحدة، يجعلون نبوءة كل سجين هي عودة، انبياء يتكلمون بلهجة نفهمها ويجعلون من صداها قضية، انبياء ينزلون الى الارض العطشى ولا يكتفوا بالتحليق في الأعالي، انبياء غاضبون مبشرون مقاتلون أوفياء رحماء.
مزيونة قررت ان ترشح نفسها للانتخابات، تملك أكثر مما تملكه كل التنظيمات والفصائل والقوى المستقلة، تملك ناصر فلذة كبدها، تحمل صورته وأشعاره وأغلاله وتمضي في طريق الخلاص حتى النهاية، واشترطت من اراد ان يكون في قائمتها فعليه ان يكسر القيد أولاً، ان يسير معها من زنزانة الى زنزانة حتى تعثر على اولادها ناصر ومحمود ومروان وربيع واشرف وكريم ووليد وما أكثر أولادها، تعود بهم الى المخيم.
مزيونة ترشح نفسها للانتخابات وتسأل: من يطلق النار على وقت المؤبد؟ من يطلق سراح الساعة ويخرجني من دائرة الوقت؟ من يشفي الأسرى من الأمراض المزمنة ومن ضجيج القمع والابواب المغلقة؟ من يأخذ صوتي ليكسر النهاية حتى نبدأ.
مزيونة تجمع كل أمهات الاسرى الاحياء منهن والأموات، تقول: 29 عاماً مرت على اتفاقيات اوسلو، و29 عاماً مرت على قضاء ابني في السجن، من أصدق الاتفاقيات التي لم تجلب لنا سوى الدمار والمستوطنات والاعتقالات والنكبات أم أصدق الحقيقة الوحيدة التي تشتعل في دمي؟ هذه الحقيقة لا تحتاج الى نظريات ومفاوضات والتي تقول ان ابني لازال في السجن في زمن الحرب وفي زمن السلام، في زمن القانون الدولي ومبادئ حقوق الانسان مع الالاف من زملائه الذين يحاولون ان لا يتجمدوا في رطوبة تلك الجدران.
مزيونة ترفع شعار الحرية أولاً، ومن اراد الحرية فليأتِ حاملاً حجراً وفأساً ومفتاحا وشمعة، من اراد الحرية فليقلب المعادلة: تحرير الانسان وليس الانتخابات والمهرجانات والخطابات والاستقطابات والمحاصصات، هدم السجن وليس تخفيف اعباء السجان.
كتب ناصر ابو سرور:
في السجن
انعتاقك من كل ما سيأتي فلا شيء
يأت
وكل ما هو قادم انت
انت المكان وانت الزمان
انت وحدك
في السجن انت
صاحب كل شيء
ولا شيء لك