الخميس: 23/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

عن الذي حدث في طورة الغربية

نشر بتاريخ: 15/02/2021 ( آخر تحديث: 15/02/2021 الساعة: 10:40 )

الكاتب: د. أحمد رفيق عوض

كانت الفضائيات تنقل ببث حي ومباشر صوراً لجنود الاحتلال الاسرائيلي وهم يعملون ببرود وحيادية في هدم منزل محمد كبها من قرية طورة الغربية الواقعة غرب جنين. شدني المشهد الى كل تفاصيله، فالجنود الذين ينفذون مهمة اعتادوا عليها منذ عشرات السنوات، لم يشغلوا أنفسهم على الاطلاق بماذا يفكر اهل القرية او بماذا يشعرون. فهم لا يعرفون ان طورة الغربية محاصرة بالمستوطنات من كل جانب، وان الجدار العنصري الفاصل سلخ عن قريتهم واحلامهم وفضائهم غابة العمرة، وهي من اكبر غابات الاراضي الفلسطينية التي احتلت عام1967، وان هذا الجدار فرم اراضيهم وقطع صلاتهم بأحبائهم ومنع عنهم ارزاقهم وقيد حركتهم وجعلهم يعيشون الخوف والترقب ببوابات وجنود وبنادق. الاحتلال له شكل عنيف وآخر ناعم، واذا كان عنف الاحتلال ينتهي بإنجاز المهمة، فإن الاحتلال الناعم لا ينتهي، ان البوابات والمكعبات والاسيجة والكاميرات المبثوثة في كل مكان هي احتلال دائم، قد لا يجرح ولكنه يحول حياة الناس الى جحيم، ان سلخ غابة العمرة عن حياة طورة الغربية وايقاع يومها وفضاء حياتها، ليس مجرد تضييق المكان( وان كان تضييق المكان هو تضييق في الوعي ايضاً)، وليس مجرد حرمان اخر او استيطان يوفر مساحة امنة للمستوطنين، ان سلخ هذه الغابة هو تغيير في تطور الناس وتقدمهم ومستقبلهم، وان نشر البوبات والكاميرات والمكعبات والتحكم في اوقات النشاط اليومي للناس لهو قمة الاهانة للنفس البشرية.

ان الحاجز الاحتلالي- بكل انواعه واشكاله- لا يهدف الى الحصار فقط ولكنه يهدف الى النمذجة والتأطير والاخضاع من خلال تكريس الواقع وتحويله الى مقبول ومعتاد.

ان الحاجز الاحتلالي الذي يحمل في طياته الحجز والتضييق والتأطير وتوقع ردات الفعل يهدف الى تفكيك النسيج الاجتماعي ونشر الانانية وباقي اخلاقيات العبيد.

الحاجر الاحتلالي ناعم ولكنه يملك قدرة هائلة على تعويد الناس على ما لم يكونوا قادرين على تصوره، وهو اداة باردة ومحايدة ولكنها قادرة على تعطيل المصالح وتأخير التقدم واهدار الطاقة والوقت.

طورة الغربية، هي القلب ومرتع الصبا ،في غابة العمرة عاش ابطال القصص التي قرأتها، وكل الرومنسيات العذبة التي تخيلتها في القصائد. هناك، وتحت اشجارها الوارفة والكثيفة اعتدنا ان نبحث عن لسان العجل وعن الزعمطوط وعن الفقع، وهناك كان ابناء القرية الصغيرة الوادعة يلعبون العابهم ويحكون اسرارهم ويكبرون بين يدي هذه الغابة وحضنها. هذه القرية التي كلما كان والدي رحمه الله يأخذني اليها لزيارة اقاربنا في العيد، كنت اعتقد انها خلقت من البركة والنماء، اهلها الطيبون من ال العبادي وال كبها وال الخطيب، هم جزء من طبيعة مكانهم الرخي والرضي، كانوا يكملون المشهد بمزروعاتهم ومواشيهم واغانيهم وحكاياتهم عن ابطالهم الذين يستدعون الفخر والعز.

فجأة، امتلأ المكان بالأسيجة والبوابات والكاميرات، فجأة، يأتي أحد ما، ليقص احد اجنحة القلب، ويصادر الحضن الاخضر، عابة العمرة، ويفصل ظهر المالح عن طورة التي لم تفصل منذ ايام الامبراطورية البيزنطية، وفجأة تبقى شجرة العروس وحيدة على رصيف الشارع المتجه الى ام الفحم، ليستعيد الكاتب نسيم قبها رواية الشجرة في كتاب له جميل ورائع.

الفضائيات التي كانت تبث مشهد نسف البيت، جعلني أؤمن تماماً ان الاحتلال الاسرائيلي لم يتعلم شيئاً، لا من تجاربه ولا من تجارب الامم الاخرى.

لن يتوقف القتل ولا الهدم بهذه العقلية وبهذا الفضاء، هناك حلول وتسويات اخرى على الاحتلال ان يدركها.

لا حد يعرف خسارة البيت الا من بناه. البيت غالٍ جداً.