الكاتب: جورج كرزم
شح المساحات المخصصة للبناء، الازدحامات المرورية الخانقة في جميع المدن الفلسطينية، أسعار الوقود المتفاقمة والأزمة المالية الحكومية اللانهائية، حَري بها أن تدفع الجهات الرسمية والحكومية إلى التخلي عن سياسة تشجيع الناس على استعمال المركبات الخاصة، وبخاصة السيارات الفارهة؛ لصالح تحفيز حقيقي للمواصلات العمومية.
إنها اللحظة الحرجة التي تستطيع فيها الحكومة الفلسطينية الإعلان عن تحول شامل ونوعي في قطاع المواصلات.
الحقيقة أن إدمان الفلسطينيين على السيارات الخاصة بلغ حداً لا يطاق. بل إن العديد من الناس المنتمين إلى الشرائح الاجتماعية الوسطى والعليا، حققوا، خلال العقود الأخيرة، حلمهم "الأمريكي" المتمثل في بناء "فيلا" بضواحي المدن الفلسطينية؛ إلى جانب سيارتين عائليتين أو أكثر في موقف سيارات المنزل الفخم.
إنه الحلم الاستهلاكي الاستعراضي المكلف، اقتصادياً وصحياً، والملوث بيئياً، والخطِر، بل والمميت على صعيد الخسائر البشرية الهائلة التي نراها يومياً في الشوارع.
المفارقة، أن الضفة الغربية وقطاع غزة لا تتمتعان بمساحات الأراضي الشاسعة كما في أستراليا أو كندا أو كاليفورنيا، كما أننا لا نملك صناعة سيارات؛ بل ما هو متاح لنا مجرد رقع صغيرة من الأراضي المعزولة عن بعضها البعض، كثيفة السكان والمحاصرة بالمستعمرات والقواعد العسكرية والجدار الكولونيالي. لذا، يفترض، منطقياً، بفلسفة وسياسة قطاع المواصلات، أن تعكسا هذا الواقع.
نظام المواصلات الفلسطيني المعطوب مكلف جداً، من حيث التلويث الكبير للهواء، التلوث بالضجيج، شق الشوارع والطرقات المستنزفة لمساحات واسعة من الأراضي المفتوحة، إنشاء مواقف السيارات التحت أرضية، حوادث طرق يومية، تبذير الوقت، تكلفة وقود مرتفعة وغير ذلك. فالسيارة التي يفترض بها خدمتنا، تحولت إلى عبء لا يطاق.
لذا، آن الأوان لاتخاذ قرار استراتيجي واضح وشجاع، بإهمال وتهميش الاهتمام بالسيارات الخاصة، والتركيز بقوة على تشجيع المواصلات العمومية، وبخاصة الحافلات.
أفكار ومبادرات مبتكرة
في غياب البنية التحتية المناسبة، ووجود مواصلات عامة غير فعالة، من السهولة بمكان اتهام الجهات الرسمية المعنية والحكومة بالتقصير والإهمال.
لكن، ليس بالضرورة أن ننتظر تغير البلد حتى نبدأ بتغيير عاداتنا. بل يمكننا البدء، على مستوى أماكن العمل والمؤسسات والشركات، بخطوات عملية سهلة، تهدف إلى التقليل كثيراً من استخدام السيارات الخاصة والعامة التي تشكل سبباً أساسياً في التشوهات الحاصلة في البنية التحتية للمواصلات.
وبهدف إحراز تخفيض كبير في مدى استعمال السيارات الخاصة، لا بد أن ينفذ الناشطون حملات ضاغطة مكثفة (ورشات عمل، تدريب، مسيرات، اجتماعات، مراسلات...) في أوساط المؤسسات الأهلية والوزارات والجهات الحكومية وشركات القطاع الخاص؛ لحثها على استخدام وسائل بسيطة ورخيصة، مثل: تشجيع العمل من المنزل، سفر الموظفين والعمال والطلاب بالمشاركة أو بالحافلات والمركبات العمومية، استعمال الدراجات الهوائية في الجزء الأعظم من التنقلات القصيرة؛ علاوة على المشي الذي يُعد خياراً آخر للتوفير في استخدام الوقود ويمنحنا شعوراً فعلياً بالاعتماد على الذات، ناتجاً عن اعتمادنا على طاقتنا الجسمية الخاصة؛ ما يضمن انخفاضاً إضافياً في مدى استعمال السيارات الخاصة.
فاستعمال السيارة، على حساب المشي أو ركوب الدراجة، يؤدي إلى ارتفاع كبير في نسبة الناس الذين يعانون من الوزن الفائض والسمنة ومن شح النشاط الجسماني.
وفي السياق نفسه، لا بد من القيام بحملات للضغط على راسمي السياسات ومتخذي القرار (من خلال الاجتماع المباشر معهم)، كي يتخذوا الإجراءات اللازمة لتحفيز الناس على استعمال المواصلات العامة، والعمل على إشاعة استعمال الحافلات والمركبات العمومية داخل وبين المدن والبلدات، وبأسعار شعبية، فضلاً عن توفير البنية التحتية المناسبة من شوارع وطرقات ومحطات خاصة للمركبات العمومية.
كما يمكننا توفير محفزات تشجع على تقليل استخدام المركبات، وبالتالي التوفير في استهلاك الوقود. ومن بين تلك المحفزات: تخصيص سقف محدد شهري من الكيلومترات لكل موظف (بما في ذلك استخدام سيارته الخاصة أثناء العمل). وفي نهاية الشهر يتسلم الأخير تقريراً يفصل كيفية استعماله السيارة، وبالتالي تتم محاسبته مالياً.
ففي حال سافر الموظف أقل من السقف المخصص له، يُحوّل المبلغ الفائض إلى حسابه البنكي. أما إذا كان استخدامه للسيارة أكثر من السقف المخصص، فيتم عندئذ خصم القيمة المالية الزائدة من راتبه الشهري.
وقد أثرت هذه الطريقة بشكل مثير للإعجاب على عادات السياقة لدى العمال والموظفين في العديد من المؤسسات والشركات في الدول الأوروبية. بل إن بعض الشركات التي طبقت بنجاح هذه الطريقة الهادفة إلى تغيير الأنماط السلوكية المتصلة بالمواصلات، تمكنت من تقليص عدد موظفيها الذين يصلون إلى مكان عملهم بسياراتهم الخاصة إلى أقل من ثلث إجمالي الموظفين في الشركة.
إذن، تختزن مثل هذه النشاطات والمبادرات المبتكرة طاقة تغيير جذري في أنماطنا السلوكية المتعلقة بالمواصلات. ومن الواضح أنه كلما ازداد عدد الناس الذين يستخدمون المواصلات العمومية ومواصلات صديقة للبيئة، قلت الانبعاثات الكربونية وبالتالي تقل أيضاً تَبعيتنا لاستيراد الوقود من الاحتلال الإسرائيلي أو من مصادر خارجية أخرى تتحكم في أسعار الوقود وكمياته وكيفية توزيعه.
تصب هذه الفلسفة الإيكولوجية مباشرة في طاحونة تخفيف تأثر المجتمع الفلسطيني من استهلاكه للوقود القذر، ومن الانبعاثات الغازية والكربونية السامة الناتجة عن المواصلات الملوثة للبيئة والمؤذية للصحة العامة، وبالتالي تشجيع الناس نحو التحول إلى المواصلات النظيفة.
وفي المحصلة، سيقلل الناس من استعمال سياراتهم الخاصة وسيارات العمل، ويتجه التركيز بقوة نحو المواصلات العمومية، وبخاصة الحافلات والسيارات العمومية، الدرجات الهوائية والمشي.
ويمكن تطبيق النشاطات المقترحة سابقا (أو غيرها أيضاً)، على عينة من المؤسسات الأهلية، والوزارات والشركات الخاصة، في بعض المدن الفلسطينية؛ وذلك كمشروع نموذجي طليعي، يمكن تعميمه مستقبلاً على شرائح مؤسسية واجتماعية إضافية، ومناطق جغرافية أخرى.
البعد الاقتصادي الوطني
في الحالة الفلسطينية، بالإضافة للبعد البيئي-المناخي والصحي لمسألة المواصلات، هناك أيضاً البعد الاقتصادي الوطني؛ إذ من الضروري تخفيض استهلاك وقود السيارات، والذي يتم شراؤه من الاحتلال الإسرائيلي (البنزين والسولار وغيرهما).
كما أن الأزمة الاقتصادية والمالية القاسية والمزمنة التي يمر بها المجتمع الفلسطيني، بسبب جائحتي كورونا والاحتلال، تعد فرصة مناسبة جداً للبدء في تغيير أنماطنا السلوكية المتعلقة بالمواصلات؛ إذ في أوقات البحبوحة الاقتصادية، يصعب إقناع الناس والمؤسسات والمنظمات والشركات بأن تسلك هذا الطريق البيئي - الصحي والاقتصادي.
بينما في الأيام الصعبة معيشياً واقتصادياً، تزداد الحاجة الملحة لأن يَقتصد الجميع في استهلاك الوقود وفي النفقات المرافقة لاستخدام المركبات، بما في ذلك النفقات المتصلة باهتلاك السيارة وصيانتها وترخيصها وتأمينها واستخدام مواقف السيارات.
وذلك أفضل بكثير من اضطرار المؤسسات والشركات تسريح بعض عامليها لأسباب مالية.
لقد آن الأوان كي نقلل تبعيتنا المبالغ بها للسيارة الخاصة، ونتحرر بالتالي من "عبوديتنا" لها، ونزيد اعتمادنا على البدائل الأكثر صداقة للإنسان والبيئة.
إن أعداداً كبيرة من العاملين والموظفين الفلسطينيين يصلون إلى أماكن عملهم بسياراتهم الخاصة، والقلة هي التي تستخدم المواصلات العامة، بل الأقل منها أيضاً من تستخدم أرجلها للمشي. وللمقارنة، 12% فقط من العاملين في لندن يصلون إلى أماكن عملهم بسياراتهم الخاصة، بينما يستخدم 81% منهم المواصلات العمومية.