الكاتب: د. محمد نعيم فرحات
بنت القوى المتنفذة في الغرب الأوروبي فالأطلسي ،والتيار الأنجلوسكسوني فيه على وجه التحديد ،موقفا عدائيا إزاء العالم العربي والإسلامي ، قام على سوء فهم مقصود ومنحرف جرى تحويله قدما مع الزمن لسوء فهم مقدس، له أطروحاته المتجددة وحامليها في كل الأزمنة. كما كانت له مؤسساته وأطره المتوارثة، واستطاع أن يعبر عن نفسه وموقفه بعدوانية متأصلة في كل الصّعد والمستويات.قليلون جدا في الغرب هم الذين كان لهم موقف موضوعي في تحليل العالم العربي والإسلامي وعموم الشرق.
حروب الفرنجة على المنطقة كانت تعبيرا قديما عن هذه العدوانية،جددت نفسها بعملية استعمار العالم العربي أثناء وخلال وبعد تفكك وتفكيك الإمبرطورية العثمانية، و كلمات الجنرال غورو قائد الحملة الفرنسية لاحتلال سوريا في عشرينات القرن الماضي أمام شاهد قبر صلاح الدين الايوبي"ها قد عدنا يا صلاح الدين"لم تكن لحظة زهو شخصي عند جنرال يكتسح أرضا، بل كانت صدىً عميقا لصورة المنطقة وشعوبها ومعناها كما تقيم في الوعي الجمعي الغربي عموما وتعبيرا عن استئناف تاريخي للصراع الممتد.
ذروة العدوانية الغربية المتواصلة بلغت مداها العالي، من خلال الدور الحاسم الذي كان للغرب المترامي من تخوم أوروبا حتى أقاصي أمريكا بإقامة دولة إسرائيل في صميم العالم العربي جغرافيا وروحيا، وتزويدها بكل أسباب الدعم والحماية الشاملة، ورعايتها منذ كانت فكرة حتى صارت دولة عاتية.
لتحقيق الهيمنة الغربية الظالمة واستدامتها على العالم العربي والإسلامي توسلت العدوانية فيما توسلت: تنمية التخلف والتبعية.واستثمار قابليات معينة عند عرب ومسلمين كثر، نخبا وحكاما وعامة للاستتباع والتواطؤ على الذات، وتشكيل بيئة حليفة للغرب بين ظهرانيهم، اغتنمها الغرب على نحو خطر واستل منها حركات وتيارات وكيانات مدمرة لمعنى العرب ومبناهم وروحهم وثقافتهم . كما بذل الغرب جهودا منظمة وحثيثة لمقاومة الآمال والأحلام والنوايا في التحرر والانعتاق عند بعض العرب ، على غرار ما كان في مصر أيام جمال عبد الناصر والجزائر والعراق وسوريا وفلسطين واليمن وغيرها. وطوال قرون كان العالم العربي والإسلامي بندا أساسيا على جدول أعمال الغرب التاريخي كما لم يكن أي مكان أخر أو ثقافة أخرى.
***
على مدار كل أزمنة المجابهة لم تعدم عدوانية الغرب ظهور صوت أو راية أو قوة مقاومة لها في المنطقة ، مقاومات سعت وحاولت، نجحت ولو جزئيا وعرفت الكسيرة، لكنها كانت قادرة على أن تتجدد وتتجاوز، فيما عدوانية الغرب ولؤمها المدجج بالسلبية واللاموضوعية واللاخلاقية معا ، كانت هي الأخرى تتطور في إشكالها من حقبة لأخرى وتستخدم كل الطاقات الممكنة للحيلولة دون شعوب المنطقة وممارسة حقوقها المشروعة ، ومحاربة كل قوة استقلالية تظهر فيها، وبددت عن وعي كل إمكانيات التفاهم مع كل الزعامات والدول والحالات التي قامت في المنطقة ، والتي كانت مستعدة لتحقيق المصالح المشتركة على نحو معقول وموضوعي ومتوازن. وتعمدت تحطيم البنى الحية في المنطقة لصالح بنى التبعية في لعبة قصيرة النظر كما تقول التطورات المتراكمة على مدار العقود الماضية. والمتغير الذي يتعين ملاحظته هنا، هو تحول العدوانية الغربية اللئيمة إلى عدوانية خرقاء وحمقاء من حيث إستراتيجيتها ومن حيث ملائمتها وجدواها في التعامل مع الواقع القائم وقضاياه والقوى الحاملة لها، وإذا كان صحيحا بأن الغرب يملك قوة عاتية في مستويات هامة ، إلا أن طاقته على الفعل والاستباحة تتعرض لمقاومات متصاعدة في المنطقة على نحو يسبب لها في لحظة حرجة ضائقة إستراتيجية تتفاقم رويدا رويدا وبدأت تتعرف على حالة غل اليد ، ويوما تلو أخر تتسع الهوة بين قوتها من جهة وقدرتها على استخدام هذه القوة من جهة أخرى، وهذا المعطى،أي، الفرق بين القوة والقدرة على استخدامها هام في التاريخ، وفي قراءة المسارات والاحتمالات والعوامل التي أدت إليه.ولطالما عمل كمؤشر على أفول ادوار الدول وتقلص مكانتها.
***
رغم أن الإقليم والعالم يعبر في نقطة التحول الحرجة، إلا أن الذهن الغربي ظل مخلصا لتصوراته القديمة وعاداته في التفكير ولم يشأ أن يرى التبدلات الحاصلة في البيئة الإستراتيجية التي عملت فيها هيمته وكيف أنها تتغير على نحو عميق وتكف يد ه عن الاستباحة والبطش كما تعود عليها في السابق، وهذا يعني بأن الغرب يتعاط بذهنية غير ملائمة مع أوضاع ومتغيرات ومعطيات من نوع أخر تتبلور في المنطقة تقوم على قيمة الاستقلال والانعتاق والتحكم في المصير.
إن أخطاء القراءة الإستراتيجية العميقة وشوائب الوعي عند الغرب العاتي التي تحكم موقفه وتصرفه إزاء الوضع القائم في المنطقة، بأبعاده الإقليمية والدولية والمحلية، تلعب دورا خطرا في دفع المنطقة نحو حرب مفصلية، حرب تتوج المعارك القائمة حاليا من الهلال الخصيب إلى اليمن وهنا وهناك، لأطرافها ومحاورها وقضاياها عناوين واضحة. وتتكفل الأخطاء وخلفياتها في تحويل الحرب لضرورة لا مجال لتجنبها لحل ومعالجة ملفات المنطقة وإعادة ترتيب وصياغة شكل العالم.
قراءة كف منطقة الشرق الأوسط ، بدون الحاجة لطاقة المنجمين وقدراتهم، تقول: إن المحور الذي سيربح في الصراع المركب القائم، هو الذي يتمتع بالمناعة الوجودية، وبالأحقية التاريخية والأخلاقية،والمستعد لشروط الانعتاق ومتطلباته، وصاحب الخيال الاستراتيجي الذي يوظف الإرادة والمعرفة والمهارة في إدارة الصراع.
***
لقد كان بمقدور الغرب أن يرى الشرق كما هو وليس كما صنعه و بناه وتخيله وتعسف معه، وأودع ذلك في موروث هائل من الكتب والدراسات والأفكار والوصايا والصور النمطية والمقولات الراسخة والسياسات والممارسات، التي فككها ذات يوم على نحو نبيه شجاع وصارم، إدوارد سعيد الذي كان يقود واحدة من أهم الجبهات خلف خطوط العدو وفي متنه.
كما كانت دعوة شارل ديغول التي تحث على "الذهاب إلى الشرق المعقد بأفكار بسيطة" متاحة للغرب ذاته وفي متناوله. والشرق في خيال ديغول يفترض أن يكون مجال شاسع من الحقيقة والخيال والتاريخ والروح ، يمتد من شواطئ عكا إلى شواطئ بحر الصين العظيم، وما يوجد بين دفتيها من عوالم عصية على اختزالات برنارد لويس المرضية ورهطه من مفكرين وجنرالات، أما الذهاب بفكرة بسيطة لقراءة الشرق المعقد، فتحتمل تحقيق فهم ايجابي موضوعي عقلاني ما، تكون له فوائد. لكن ديغول ذهب لكن الوارثين لم يقتفوا اثر الموعظة.
الغرب العاصي، لا يشاء وهو غير مستعد ولا يريد معا، انتهاج مقاربة أخرى موضوعية في رؤية للشرق العربي والإسلامي وقضاياه وحقوق شعوبه، ولا زال مخلصا لثقافة الرماد، اسألوا ديفيد فرومكين عن مسؤولية الغرب وصنائعه التي حولت الشرق الأوسط لبلاد تولد بشيء من التكرار حروبا من أجل البقاء.إنه يدفع نحو خيار واحد: الصعود إلى المجابهة الكبرى.
*كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين.