الكاتب: د. حسن عبد الله
استخدمت في العنوان كلمة تعارضات ولم استخدم كلمة صراع أو تناقض ، لأن الصراع أو التناقض فيه تضاد ، وقطبية جذرية ، لدرجة أن طرفاً من طرفي الصراع من شأنه أن يشطب الآخر. أما التعارض فهو بسبب اختلاف في الرؤى والمصالح والتوجهات والأولويات التكتيكية ، في ظل الاجتهاد للوصول إلى الهدف . الصراع يصعب لجمه مادام يجري بين قطبين متضادين، بينما التعارض في الرؤى والتوجهات قابل للحوارات والتسويات والتحالفات. ترتفع وتائر العلاقة بين محوري التعارض وتنخفض ، تشتد وتبهت ، وربما يتمخض عن الحوارات والتجاذبات توافقات مرحلية أو أبعد من مرحلية.
التباين والتعارض والتحالف ، توصيف موضوعي للعلاقة الفتحاوية مع اليسار الفلسطيني. التعارضات مردها أسباب ايدولوجية وطبقية وبرامجية . أما مبررات التحالف ، لأن ما جمع فتح واليسار عبر المسيرة التاريخية أكثر بكثير مما فرق، ولولا ذلك لأخفق الجانبان في التعايش خمسة عقود في مؤسسات مشتركة - منظمة التحرير والمجلس الوطني والمجلس المركزي والصندوق القومي والمنظمات الشعبية، ولما تسنى لفتح وثلاث قوى يسارية قيادة الانتفاضة الكبرى التي انطلقت في العام ١٩٨٧م.
ما هي العوامل التي أنتجت المرونة الفتحاوية في التعامل مع اليسار وما أسباب الانفتاح اليساري التاريخي على فتح ؟
أولاً الموقف الوطني التحرري. ثانياً طرحت فتح نفسها كحركة واسعة، وتعددية تستوعب الاتجاهات والأفكار ، فجمعت تحت إطارها المتدين والماركسي والقومي والليبرالي، و كانت الغلبة عبر بعض محطات مسيرتها لقياديين تداخلوا فكرياً بين اليساري الذي يجاهر بيساريته والقومي العروبي المتشبث باعتقاده.
ثالثاً التقت التحالفات الخارجية للطرفين فتح واليسار في السبعينيات والثمانينيات حتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي ، في العلاقة القوية مع دول المنظومة الاشتراكية ودول عدم الانحياز وحركات التحرر على مستوى العالم.
رابعاً لم تبرز تعارضات عميقة بين فتح واليسار في البرامج الاجتماعية ، وظلت نقاط الالتقاء أكثر من نقاط الاختلاف.
خامساً قادت فتح الانتفاضة الأولى بالشراكة الكاملة مع ثلاث قوى يسارية هي الشعبية والديموقراطية وحزب الشعب من خلال القيادة الموحدة.
سادساً أسست فتح وقوى اليسار الفلسطيني منذ العام ١٩٦٧ تجربة رائدة للحركة الأسيرة، وخاضت فتح واليسار وبشكل مشترك محطات نضالية وإضرابات مفصلية عن الطعام.
سابعاً أما التجربة النضالية الميدانية والمؤسساتية المشتركة في لبنان فعبرت عن نفسها في الاجتياحات والحرب الداخلية التي كانت القوى الفلسطينية جزءا من مكوناتها وتحالفاتها.
برزت في المسيرة تعارضات جدية وصلت حد التنافر والقطيعة المؤقتة، وعلقت الشعبية عضويتها في اللجنة التنفيذية غير مرة، في حين كانت تعارضات القوى اليسارية الأخرى مع فتح في منظمة التحرير أقل مقارنة بالشعبية. عملت عوامل الجذب على إعادة الأمور إلى سياقها الطبيعي ، بالاستناد إلى حجم الخطر الخارجي الذي يستهدف الكل الوطني، وليتغلب التحالف على التعارضات والخلافات في امتحانات كثيرة.
بعد اوسلو تعمقت الخلافات ودخل الإسلام السياسي بقوة، وصار الاتجاهان الرئيسان فتح العمود الفقري للسلطة وقوى الإسلام السياسي التي استنفرت طاقاتها وإمكانياتها لتكون بديلاً ايدولوجياً وسياسياً ومجتمعياً وميدانياً وصولاً إلى انقسام الساحة. في المقابل تراوحت مواقف قوى اليسار من اوسلو بين الرفض في البداية ومشاركة بعض الفصائل اليسارية لاحقاً في تشكيلات حكومية هي في الأصل نتاج اتفاقيات أوسلو، حيث شاركت قوى يسارية مرة أومرات في الحكومة باستثناء الشعبية التي اكتفت بإعطاء مرونة معينة لعدد من كوادرها للعودة إلى الوطن مستفيدة من بعض المتغيرات ، إلا ان علاقة الشعبية بفتح ظلت تتراوح في السنوات الأخيرة بين التوتر والانفراج النسبي، مع محافظة قوى اليسار الأخرى على علاقات تحالفية مع فتح.
في خضم الإعداد للانتخابات التشريعية وما تتطلبه من من تحضيرات ، وفي ظل الحديث عن قوائم مشتركة وغير مشتركة، أرى أن الشعار السياسي عند القوى الفلسطينية بات متشابهاً إلى حد كبير ، وإنْ اختلفت اللغة والدبلجات الكلامية ، لاسيما وأن فتح وقوى اليسار بمرجعية سياسية وبرامجية مستمدة من وثيقة الاستقلال في دورة المجلس الوطني / الجزائر /١٩٨٨ م، أي إقامة الدولة المستقلة في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس الشرقية. و في رأيي أن حركة حماس وهي تستعد للمشاركة في الانتخابات وتتطلع للعبور إلى الساحة الدولية، فإن طرحها السياسي لا يخرج عن نطاق وثيقة الاستقلال ، حيث تم التعبير عن ذلك في السنوات العشر الأخيرة من خلال تصريحات ومواقف. وسواء جاء الطرح ضمن التكتيكي أو غيره ، فإنه لا يلغي حقيقة أن السقف السياسي العام أصبح واضحاً ، بيد أن الاختلاف سيتمحور في البرنامج المجتمعي، إذْ يصعب حشر فتح وحماس في برنامج مجتمعي واحد بسبب الأيدولوجيا والاختلاف في الرؤى المجتمعية، وإذا تم لَي عنق الحقيقة واجتمعت الحركتان في قائمة مشتركة، سوف يتم تسكين المواضيع الاجتماعية الخلافية مرحلياً لأغراض انتخابية لتطفو الخلافات على السطح بعد الانتخابات مباشرة، فالمجتمعي بالنسبة إلى حماس ليس موضوعا هامشياً أو عابراً.
الانتخابات كما هو واضح وبمعزل عن الديباجات والاختباء خلف اللغة يتم الدخول إليها من بوابة أوسلو وليس من أية بوابة أخرى، وسيكون من الصعب على القوى المتسابقةانتخابياً أن تتمايز في البرنامج السياسي ، غير أن التمايز يصبح أكثر وضوحاً في البرنامج المجتمعي أولاً لأنه يعكس فكر هذا الفصيل أو ذاك. ثانياً القدرة على اقناع الجمهور ببرنامج مجتمعي واضح يخفف من معاناة الناس ولا يزيدها صعوبة.
أعتقد أن هناك في قوى اليسار من يجد نفسه بسهولة شريكاً مع فتح في البرنامج المجتمعي من مداخل علمانية لا تشكل مشكلة لدى فتح، فهي حركة مرنة ، لكن هذا لا ينسحب بالمطلق على كل اليسار ، خصوصاً إذا انحازت فتح لقائمة ثنائية مع حماس. أما إذا أسقطت حماس خيار القائمةالمشتركة استجابة لضغوط قاعدتها التي تفضل حتى اللحظة الذهاب إلى الانتخابات بشكل فردي، فإن خيار تحالف فتحاوي / يساري سيصبح متاحاً ، و من شأن قائمة موحدة أن تنتج اصطفافاً مقنعاً على المستوى الجماهيري. يقابل هذا خيار آخر لقوى اليسار بتشكيل تحالف مشترك فيما بينها ببرنامج يساري خالص، لكن واعتماداً على قراءة للوضع ومعرفة بواقع هذه القوى أرجح أن ينقسم اليسار بين كتلتين واحدة ستخوض الانتخابات بشكل مستقل ، والثانية ستدخل في تحالف تلقائي مع فتح.
وفي حال كتلة فتحاوية يسارية مشتركة ، أو تحالف فتحاوي مع بعض قوى اليسار ، أو كتلة يساريةكلية ، لا يسقط ذلك أن العلاقة بين اليسار وفتح في الحاضر وربما لسنوات قادمة ستظل تحكمها معادل / التباين / التعارض/ التحالف.