الكاتب: جمال زقوت
تستند نظرية ما يسمى بالتأطير لجوزيف چوبلز "وزير الدعاية الألماني إبان حكم هتلر"، إلى مقولته الشهيرة "اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس".
كما أن هتلر نفسه كان يقول “لو كان لدي مائة دولار لصرفت جلها على الدعاية وأبقيت القليل منها للأمور الأخرى”.
وتعتمد نظرية التأطير الچوبلزية على وضع الأحداث والأشخاص في إطار معين مع تغييب العوامل التي لا تخدم مصلحة الطرف المتحكم في الإعلام وتحوير المعلومات التي تصله مما يقود الطرف المتلقي إلى اتخاذ أحكام وفق ما تصنعه نظرية التأطير. هذه هي تماماً قصة ما بات يعرف بقروض الموظفين من البنوك، و كيف خضعت لتلك النظرية باحتراف جوهره التضليل إن لم يكن الأسوأ من ذلك.
فهذا ما حاولت مجموعة صغيرة من المتضررين من سياسات الاصلاح المالي التي كان قد اعتمدتها حكومة السلطة الوطنية في عهد رئاسة سلام فياض لها و تسلمه لوزارة ماليتها، سيما بعد أن تحالفت هذه المجموعة مع بعض "أصحاب المال الجشعين" والذين كان عليهم أن يتخلوا عن إمتيازات ما عرف بقانون تشجيع الاستثمار و لو لفترة مؤقتة ، وذلك عندما قرر فياض فرض سياسة العدالة الضريبية التصاعدية أي اعفاء ذوي الدخل المحدود حتى ثلاثة آلاف شيكل شهرياً، وتخفيضها على متوسطي الدخل و زيادتها تصاعدياً على الأفراد و الشركات من ذوي المرتفع وفق شرائح اقترحتها وزارة المالية في حينه ، و فتحت الحكومة في حينها حواراً واسعاً مع مختلف أطراف المجتمع ؛ و للأسف توحدت الجهات المتضررة من هذه السياسة مع أولئك الذين تضررت مصالحهم بسبب الشفافية المالية ووقف أو حتى تقليص تعديات هؤلاء على المال العام ، و الغريب في حينه انضمام جوقات معزولة حتى عن فكرها الاشتراكي أو الاجتماعي المعلن لهذه المجموعة التي قررت في حينه إدخال البلد في حالة من الفوضي و جندت لها الأموال للخلاص من هذه السياسات التي تقلم أظافرها و من صاحبها إن تمكنت، لتعيد البلد إلى حالة من الفوضى و تدهور مؤشرات النمو الاقتصادي و ارتفاع نسب البطالة و البدء تدريجياً في التجرؤ على حقوق موظفي القطاع العام سيما من أبناء و بنات القطاع الذين لا يمتلكون القدرة بسبب الابتعاد الجغرافي عن الدفاع عن حقوقهم التى وصلت حد اختراع ما يسمى بالتقاعد المالي في شهر نيسان عام 2017و غيرها من الاجراءات الظالمة .
ترافقت تلك الفترة بموجة منظمة من نظرية چوبلز بمحاولة اغتيال معنوي لكل الانجازات المالية و المصداقية التي تحققت على صعيد الشفافية التي ميزت تلك الحقبة ، و كان الهدف الجوهري ضرب الثقة و الشفافية المالية من أجل العودة لحالة الفوضى و التسيب التي توفر للقائمين على الأمر تسهيل مهمتهم ؛ و كان الهدف الجوهري هو ليس فقط اطلاق النار على حالة الاستقرار و الثقة الماليتين و النمو الاقتصادي الملحوظ، بل شيطنة هذه الثقة و الاستقرار و تحويلهما إلى عدو يجلب الكوارث و ليس عنصر نجاح باهر عاشه الناس يومياً و شهد له العالم .
لقد شكلت مسألة التسهيلات والقروض البنكية للشعب الفلسطيني مطلباً دائماً لجميع شرائح المجتمع الفلسطيني في الضفة و القطاع، وكانت البنوك ترفض ذلك و تستثمر ودائع الشعب الفلسطيني خارج الوطن. وبعد نجاح جهود الاصلاح المالي والاقتصادي الذي قادته حكومة السلطة الوطنية برئاسة سلام فياض واستقرار الوضع المالي وانتظام صرف الرواتب والمخصصات في البنوك قرر الجهاز المصرفي تغيير سياسته والبدء باعطاء تسهيلات وقروض في الداخل الفلسطيني بما يشمل الموظفين. فقرار التسهيلات لم يكن يوما بيد وزير المالية أو رئيس الوزراء وانما صلاحية ادارات البنوك العاملة في فلسطين والتي تشرف سلطة النقد على تنظيمها.
جوهر هذه الحملة التي استهدفت الانجازات الاقتصادية و الاصلاح و الاستقرار المالي حمل في طياته أيضاً استخفافاً بعقول المقترضين الموظفين و غيرهم الذين شعروا بفعل هذا الاستقرار بأن بإمكانهم أن يستفيدوا من تلك التسهيلات البنكية للتعامل مع احتياجات ضرورية توفر عليهم الاجرة الشهرية الباهظة التي يدفعونها لاستئجار بيوت سيما للأسر الجديدة و الشابة، فثقتهم بحالة الاستقرار المالي و التسهيلات المقدمة جعلتهم يفكرون بشراء شققهم بقروض طويلة الأجل ، في وقت أن قيمة القسط الشهري تعادل أو تقل عن الاجرة الشهرية التي كان يدفعها الموظف أو الموظفة. هذا لا يلغي أن بعضهم استخدم هذه القروض لاغراض استهلاكية اطلاقاً ليست ضرورية بفعل التسهيلات البنكية للقروض والتي هي مصلحة اساسية للبنوك و في الواقع هي قرار شخصي، و مرة أخرى مسؤولية تنظيمها هي حصرا لسلطة النقد .
هكذا اعتقد الچوبلزيون أنهم نجحوا في شيطنة الانجاز و صاحبه و تحولت سياسة "اكذب و اكذب و اكذب حتى تصدق كذبك وربما يصدقك بعض الناس ".
مشكلة فياض أنه عندما غادر الحكومة و رغم توقعه لما كان يُحضَّر لتمزيق النهج و الانجازات ، فقد اتبع سياسة نبيلة بأن قرر عدم الرد على مثل تلك الترهات و غيرها، مؤمنا بضرورة عدم التشويش على من حلَّ بعده ليترك لهم الميدان للتعامل مع القضايا التي لم تكن سهلة، و آخر ما تحتاجه هو استمرار المقارنة بين ما آلت إليه الأمور مقارنة بما كانت عليه إبان حكومة فياض .
ذلك السلوك بالانقضاض على الانجازات السابقة هو الذي فتح أيضاً ثغرة الدفرسوار في جدار الإنجاز الأهم وهو قانون الأسرى ، والذي شُرع و نفذ في تلك الحقبة، ويتعرض اليوم للاطاحة ليس فقط به و بمكانة الشهداء والأسرى في النضال الوطني، بل وبالانجاز الآخر المتصل بمخصصات اسر الشهداء بعد أن تم رفع الحد الأدنى لها لمًا يزيد عن أربعمائة و خمسين دولار، وبما يساوي بينها و بين الساحات الخارجية سيما في لبنان الذين يعلمون كيف كانت رواتبهم الشهرية لا تكفي لشراء ربطات الخبز على مدار الشهر ،و كيف صارت دفعة واحدة عشرة أضعاف لتوفر الحد الأدنى من العيش الكريم ، و معهما يستهدف من نحن كشعب يناضل من أجل الحرية و يحترم نضالات و احتياجات العيش الكريم لمناضليه و لأسر شهدائه.
لست خبيراً مالياً و لكنني أدعي كلاجئ و من أسرة فقيرة، وينتمى لمدرسة الفكر الاشتراكي و قريب من نبض الناس و احتياجاتهم أن جوهر تلك السياسات المالية هي سياسات ديمقراطية اجتماعية سعت لتوفير و توسيع شبكات الأمان الاجتماعي و انحازت بمضمونها لما يمكن تسميته بالاقتصاد المقاوم، و ركيزته الأساسية تعزيز صمود المواطنين و قدرتهم التنافسية في القدرة على البقاء و ما يتطلبه ذلك من توفير مقومات ذلك البقاء من سياسات جوهرية لم يكن آخرها ما عرف بموازنة حراس الأرض ، بل و بآلاف المشاريع التي استهدفت تنمية القدرة على الصمود وبلغت قيمتها الاجمالية حوالي ملياري دولار خلال السنوات الستة من عمر تلك الحكومة، لتنفيذ مشاريع في المناطق المهددة بالمصادرة و الاستيطان و الجدار في مجمل المنطقة المسماة "ج" و حتى خلف الجدار وفي داخل القدس المحتلة نفسها . لقد سؤلت ذات مرة من الصحفي الفرنسي تشارلز أندرلاين و الذي نقل صور مقتل الطفل محمد الدرة للقناة الفرنسية الثانية، و التي كان التقطها المصور الصحفي البارع طلال أبو رحمة ، عن سبب عملي مستشاراً مع فياض بينما كنا في زيارة تفقدية لعرب الجاهلين في محيط القدس ؛ فكان جوابي التلقائي "لاستكمال ما لم تُمكَّن الانتفاضة الكبرى من تحقيقه على طريق الحرية و الاستقلال الوطني !"
و للحديث بقية،،،