الكاتب: جمال زقوت
لعل تدهور الأوضاع في كل من الضفة الغربية و قطاع غزة تجعل من قائمة المطالب والأولويات طويلة و متعددة تبدأ و لا تنتهي . فهدر طاقة أربعة عشر عاماً من الانقسام وقبلها حوالي ربع قرن من الفشل لا يمكن معالجتها بمجرد وعود انتخابية خلال شهرين. فالواقع أكثر تعقيداً مما يعتقد البعض أن بإمكانه اختطاف التفويض للاستمرار بمزيد من التيه تارة؛ أو اطلاق الوعود التي ليس لها أي رصيد في الواقع تارة أخرى.
فأحوال البلاد و العباد تئن ألماً تحت وطأة الاحباط الذي خططت له اسرائيل بما أسمته استراتيجية "كي الوعي"و نفذته في أتون دهاليز كارثة الانقسام القوى التي هيمنت على المشهد مستبدلة المصالح الوطنية بمصالحها الفئوية على ضفتي الانقسام .
كما أن حال أهل القطاع في غاية المأساوية، حيث يُحكم الحصار قبضته على حياتهم كما يحكم البولاد في اللحم الحي، إذ يشعر المواطن أنه خُلق وحيداً في هذه الحياة يكابد ألاعيب أطراف اللعبة الدائرة متحكمة و إن بدرجات متفاوته في كل شؤون حياته ؛ فحكومة الاحتلال الاسرائيلي التي مهدت الميدان بانسحابها الأحادي من قطاع غزة للانقسام في أعقاب الانتخابات الماضية ، بما مكَّن حماس من اعلان انتصارها و الادعاء بأن خمسة أعوام من المقاومة هزمت عشرة أعوام من المفاوضات؛ الأمر الذي كان يشى بمضمون الاهداف الحقيقية للانتفاضة الثانية من بعض الاتجاهات الفلسطينية كحالة صراع على ميزان القوى الداخلي، أو كأن حماس هي الوحيدة التي كانت تقاوم الاحتلال و المقاومة بدأت فقط منذ تأسيسها.
تلى ذلك انقضاض اسرائيل على القطاع و أهله معلنة عنه كياناً "إرهابياً" معادياً شنت ضده خلال الأربعة عشر عاماً الماضية ثلاثة حروب ونصف ليس لأي هدف سوى تحويل القطاع إلى حالة كيانية انفصالية تقصم ظهر مشروع الكيانية الفلسطينية الدولاني في هذه البقعة التي طالما كانت رافعة للوطنية الفلسطينية في مواجهة كل مخططات طمس و تذويب الهوية و الكيانية الفلسطينية منذ النكبة وحتى اليوم .
تحت حراب جيش الاحتلال الاسرائيلي الذي يحاصر القطاع ، تُرك المواطن الفلسطيني يصارع الحياة بين شعوره بقلة الحيلة و تخلي قيادته الشرعية عنه يكابد معاناته،و بين سلطة الأمر الواقع التي تدفعه نحو عوز الحاجة لأبسط مقومات الحياة و هي لا تقدم له سوى وعود لا تغني أو تسمن من جوع مرددة شعارها الفارغ "الجوع و لا الركوع"، و رافضة الاعتراف بفشل الحركة من تقديم الحد الأدنى من الاحتياجات الانسانية لأهل القطاع ، و فقط المكابرة و انقسام الرأي داخل الحركة هو ما كان يمنعها من اعلان هذه الحقيقة كي لا توصف حماس " و من خلفها حركة الاخوان المسلمين " بالفشل ، ذلك كله على حساب حياة الناس و مستقبل شبابها كرامتهم الإنسانية.
خرج أهل القطاع عن بكرة أبيهم عدة مرات بحثاً عن الضوء في نهاية النفق، كان ذلك مباشرة بعد سيطرة حماس على الحكم في ذكرى رحيل أبو عمار زعيم الثورة و مؤسس أول سلطة وطنية، وتكررت عدة مرات في ذكرى انطلاقة الثورة في مسيرات مليونية كانت أقرب للاستفتاء الشعبى على رفض حكم حماس و تحكمها بحياة الناس منها لاعلان الولاء لفتح . وكانت تنتظر أن يأتيها الفرج من حكومة الوفاق التي تشكلت بين حماس و فتح برئاسة الحمد الله، فكانت حرب صيف 2014 التي شنتها اسرائيل على القطاع مخلفةً أعداداً هائلة من الضحايا الأبرياء ودماراً رهيباً في البنية التحتية و ممتلكات المواطنين و المنشآت الاقتصادية ، و تلاها اجراءات قاسية من حكومة كانت بمثابة نهاية الأمل لأهل القطاع بتغيير أحوال البلاد و العباد ، وبدل أن تكون تلك الحكومة عوناً للناس على مصيبة الحصار الاسرائيلي و دمار حروبه و ظلم الحكومة الربانية؛ سرعان ما بدأ مسلسل العقوبات الادارية و المالية، و كأن من صمم تلك الاجراءات كان يدفع بأهل القطاع نحو نفق مظلم لاخضاعهم لقوة الأمر الواقع وتكريس شعورهم بتخلي المنظمة وسلطتها عنهم و عن متطلبات خلاصهم، و ليس كما كانت الادعاءات بأن الهدف هو دفعهم للخروج على ظلم حماس.فأصبح أهل القطاع بين كماشة بندق ثلاثية، الأمر الذي جعل الأربعة عشر عاماً الماضية من حيث آثارها الاقتصادية و الاجتماعية بل و الثقافية والنفسية و كأن القطاع يعود نحو مرحلة القرون الوسطى .
غزة ليست حمولة زائدة ؛ ولكن !
لم يكن واقع حياة الناس في الضفة الغربية أفضل حالاً، فالانقسام ظل العتلة التي تقصم يومياً ظهر المشروع الوطني،و التي تمكن المشروع الاستيطاني العنصري من التمدد يومياً. و رغم ما تحقق من انجازات على صعيد اعادة بناء المؤسسات في اطار ما عرف بالحكم الرشيد و ترشيد الانفاق الحكومي وتسديد جميع التزامات الحكومة دون تمييز لجميع الموظفين و رفض التعامل مع قطاع غزة و كأنها حمولة زائدة، بالإضافة إلى إنهاء حالة الفوضى و الفلتان المدمرة، وتنفيذ آلاف مشاريع تعزيز قدرة الناس على الصمود معظمها في المناطق المصنفة ج سيما المهددة بالمصادرة والاستيطان و الجدار في الأعوام 2007-2013 ، إلا أن هذه الانجازات وبالمقارنة مع أهدافها المرحلية المعلنة لبناء مؤسسات الدولة ، ظلت معطلة من الناحية السياسية الاستراتيجية بين فشل التسوية السياسية واستمرار تآكل الموقف الفلسطيني من ناحية ،و حبيسة الدائرة الجهنمية لحالة الانقسام الذي منع توحيد تلك المؤسسات ومد حوكمتها و مسؤولياتها للتعامل الفعَّال و الملموس مع احتياجات أهلنا في القطاع من ناحية أخري ، و التي سرعان ما تم الاطاحة بها فور مغادرة فياض ، حيث عاد اعلاء شأن عصا الأمن و تكميم الأفواه و حالة الفوضى بدلاً من اعلاء شأن المواطن و تعزيز قدرته على الصمود في معركة الدفاع عن البقاء و مواجهة مخططات الضم التي وصلت ذروتها في عهد ادارة ترامب و على خلفية الانقسام الذي بدى و كأنه بلا نهاية أو قاع .
أمام هذه الوقائع و الواقع المؤلم الذي يعيشه المواطن، و استمرار التغول على حقوقه وليس فقط عدم الإلتفات لمعاناته من سياسات وجرائم الاحتلال ؛ وصل المواطن الفلسطيني حداً من الاحباط دفعه إلى الزوايا المظلمة والخلفية من دائرة الصراع مع الاحتلال فاقداً القدرة و الثقة و الأمل بامكانية تغيير هذا الواقع .
عشرات القضايا في الصحة و التعليم والبطالة و التمييز في تكافؤ الفرص ومجمل الحقوق المدنية للمواطنين وصلت حد الاستيلاء على لقاحات كوفيد 19 من الجهة التي من المفترض أن تؤمن للناس هذا اللقاح للوقاية من الجائحة الوبائية التي تفتك بحياة الناس، و توزيعها على المحاسيب ، و الفشل الذريع في معالجة الآثار الاقتصادية و الاجتماعية للجائحة خلال عام كامل من التخبط و غياب الخطة و معهما الحد الأدنى من سبل تشجيع التكافل و التضامن الاجتماعي الاسهام في الحد من تلك الآثار. وترافق ذلك كله مع تحطيم هيبة القضاء و منظومة العدالة ومحاولة احتواء ما تبقى من امكانيات خدماتية تقدمها مؤسسات المجتمع المدني عبر سلسلة من القوانين التي تشكل اطلاقاً اتوماتيكياً للنار على أقدام النظام نفسه، وتعزز من عزلته عن المجتمع والناس.
هناك وجهتا نظر ازاء التعامل مع احتياجات المواطن الأولى تحاول محاكاة غرائز الحياة المشروعة والاحتياجات المعيشية و كلها محقة، و كأن من يعلن جاهزيته لتقديمها يمتلك مفتاحاً سحرياً لفتح بوابة السماء لحلول إلهية لن تأتي سوى بوعود مخادعة عهدها الناس على جلودهم و معاناة أسرهم، والثاني بمحاولة معالجة السبب الجوهري لتدهور الحال ممثلاً بتفكك الكيانية الجامعة ومؤسساتها الوطنية و الحكومية التي من المفترض أن تقدم الاجابات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية التي تفتح باب الواقع الذي صنعناه و أغلقناه بأيدنا في الصراع على امتيازات السلطة و ليس رعاية مصالح المواطنين و استنهاض طاقتهم في الدفاع عن المصير الوطني .
إن تقديم مقاربة واقعية لانهاء الانقسام وإستعادة وحدة المؤسسة الوطنية الجامعة ومعها صون الوحدة التعددية في اطار المنظمة وانقاذها من التفرد و الاقصاء، في اطار يربط بين مهام التحرر الوطني و الحقوق المدنية من خلال حكومة وحدة وطنية تعالج الملفات المزمنة التي خلفها الانقسام سيما لأهلنا في القطاع و المناطق المهددة بالضم والتهويد في القدس و الأغوار و سائر المناطق المسماة "ج"
النجاح في في إقناع المواطن بالخيار الثاني هو بوابة الحل من أجل التغيير الحقيقي في بنية و أولويات النظام السياسي، الذي يُمكِّن الناس من استعادة الأمل، فمن يستطيع أن يقنع المواطن أن استعادة مكانته في العملية الوطنية و البناء المدني الديمقراطي هي بوابة هذا الأمل المغدور في ثنايا الانقسام و بين ضلوع و قلوب الصبايا و الشباب و المقهورين و المهمشين ؛ فهم وحدهم قاطرة التغيير . دون اغفال جميع القضايا المعيشية و المدنية التي يئن تحت وطأتها الناس، يظل الأمل بالتغيير والكرامة هو ما يحتاجه المواطن و يسعى لاستعادته خلال هذه الانتخابات و بالتاكيد مع هذا الأمل سيكون الناس، و ببرنامج حكم تسهر على تنفيذه قيادة رشيدة، قادرين على تحقيق و مراكمة النهوض بحقوقهم المدنية الاقتصادية منها و الاجتماعية و الثقافية و غيرها في خطوة تُعزز من قدرتهم على الصمود و تعدل ميزان القوى في الصراع مع المحتل من أجل استرداد حق شعبنا في العودة و ممارسة حقه في تقرير المصير .
فهل سينجح المواطن في ذلك؟! من هنا نبدأ.