الأحد: 17/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

دروس كوڤيد-19 وما بعده.. هل تعلمنا؟

نشر بتاريخ: 17/03/2021 ( آخر تحديث: 17/03/2021 الساعة: 11:21 )

الكاتب: سعد داغر

خاص بآفاق البيئة والتنمية

فاجأ الجميع منذ أكثر من عام بظهوره وانتشاره وآثاره المستمرة منذ نهاية عام 2019. أحدث تغييرات عميقة في حياتنا وخلّف وما زال يخلّف آلاماً، غَيَّرَ في علاقاتنا وأصبحت إن حاولت الاقتراب من شخص أكثر من متر أو اثنين يبتعد عنك خطوات كأنك الأجرب وهو السليم؛ وإن حاول آخرٌ الاقتراب منك ترتد للخلف كأنه هو الأجرب وأنت تحمي نفسك بخطوتين للخلف.

عجلة الاقتصاد في تراجع، وقناع الوجه يزكم الأنوف وحكومات متخبطة، وفسادها يصل حدود اللامعقول في التعاطي مع هذه الكارثة المجتاحة للبشرية، تغيرت أنماط حياتنا وابتعدنا عن كل الأنشطة الجماعية، توقفت صالات الرياضة، والأفراح ومشاركة الأتراح والأحزان، وكلٌ ارتد وانكفأ على نفسه.

عانى الناس ويعانون أزمات نفسية عميقة جراء هذه الجائحة فالاكتئاب نتيجة عيش حالة اللايقين والنظر للمجهول وانكفاء الأحلام وتوقف الخطط.

ازدادت حالات العنف داخل العائلة الواحدة، وتلقت المرأة والأطفال عبء ذاك العنف في معظم الحالات، ودراسات تشير إلى تزايد حالات الانتحار ففي الأردن ازدادت الحالات بمعدل %28، فيما سجلت فرنسا تزايداً مرعباً في حالات الانتحار بين أصحاب المطاعم والمحال التجارية، أما ألمانيا فقد كان المعدل فيها انتحار شخص كل 30 دقيقة ليصبح في العام الأخير شخص كل 20 دقيقة أي ما معدله 72 شخص كل يوم. قد نصل يوماً يجد فيه علماء النفس أنفسهم أمام مرض نفسي جديد يطلقون عليه "صدمة كوڤيد" أو ما شابه.

لقد جاء انتشار كوڤيد-19 مفاجئاً للأفراد والشعوب والحكومات، في وقت لم تكن البشرية مستعدة لمثل هذه الجائحة، التي أخذتنا على حين غرة.

لم نكن مستعدين للانكفاء نحو الذات، لم تكن الدول مستعدة لإغلاق الحدود، لم نكن ندرك إمكانية تدفق السلع من عدمها، لم نكن على استعداد لآثار توقف التنقل بين المدن والقرى والبلدات، لم نكن مستعدين لاحتمال النقص في الغذاء وقد حصل كل ذلك.

واليوم، وبعد أكثر من عام على بدء الجائحة، ما زلنا نسير نحو المجهول، مع ظهور سلالات جديدة من كوڤيد، وكأن البشرية بحاجة إلى ركود اقتصادي أكثر مما نحن فيه.

ربما تكون الجائحة فرصة تدفعنا لنتعلم فن البقاء، ومن لم يتعلم دروس الجائحة لا يتقن فن البقاء. لقد رأينا كيف أن بعض الدول في بداية الجائحة أوقفت تصدير بعض السلع الغذائية التي تنتجها وتصدرها لبلدان أخرى، وهنا يكون السؤال: ماذا لو استمر توقف تدفق بعض السلع الأساسية من مكان إنتاجها إلى أماكن استهلاكها؟ ماذا سيكون مصير الناس المستهلكين؟ ماذا سيحصل للفقراء حين ترتفع أسعار الغذاء؟ أسئلةٌ كثيرة تحتاج أن توضع على طاولة البحث على المستويات الوطنية للبلدان، لكن الأهم أن توضع على طاولة النقاش لكل أسرة.

البذور البلدية الأصيلة والأشتال

اشتد الطلب عندنا وتنافس الناس بداية الجائحة لتظهر أزمة كبيرة في توفر البذور والأشتال، فقد أدرك الناس حينها أهمية الزراعة الذاتية، (كل شخص/أسرة/مجموعة) تزرع لذاتها، كان هناك نقص كبير وحاولت الجهات الزراعية أن تساعد في حل المشكلة، لكن بنواياها الطيبة خلقت مشكلة ليست هي السبب فيها، بل مفاجأة الجائحة لنا هي السبب، عندما بدأت المؤسسات الرسمية وغير الرسمية بتوزيع ملايين الأشتال على الناس في المدن (أولاً) والقرى والمخيمات. وكانت الأشتال بحالة سيئة أولاً، ثم التوزيع كان على الناس في الشقق (وهذا جيد من ناحية) ومع عدم معرفة غالبية الناس بكيفية التعامل مع النباتات، فشلت عملية الزراعة في معظم الحالات، وفرغ السوق والمشاتل من الأشتال، ولم يعد بإمكان المزارعين المنتجين الحصول على الأشتال للزراعة من ناحية أخرى! ولم يجد الناس البذور، لأنهم لم يخزنوها أصلاً، بما في ذلك معظم المزارعين.

إذن الدرس الأول على النحو الآتي: أنتج واحفظ بذورك بنفسك وتعلم فنون الزراعة وإنتاج الغذاء، فالجائحة فرصة وبعدها سنمر كبشرٍ بالنكبات، ونحن في فلسطين وفي المنطقة العربية نمر بالنكبات منذ عقود، وفي العقد الأخير أصبحت معظم الدول العربية تعاني؛ منها تونس وليبيا ومصر وسوريا، ولا ننسى العدوان على اليمن ومجاعة العصر التي تضرب شعبه ومآسي لبنان...

قنوات التسويق القصيرة

وبالأمس القريب مررنا بظروف قاهرة، تقطعت بنا الطرق بفعل محتلٍ غاصب، وعشنا لسنوات خلال وبعد الانتفاضة الثانية، وكان الوصول من مكان إلى آخر يشكل رحلة عذاب، ونقل المواد بما فيها الغذاء شقاءٌ ما بعده شقاء، وقبلها كانت الانتفاضة الأولى وحُوصر الناس في مدنهم وقراهم، ثم جائحة كورونا ومنع التنقل بين المدن والقرى، والقرى نفسها، وكانت تلوح في الأفق أزمة غذاء، ربما لم يشعر بها الكثيرون، لكن الفقراء عاشوها، وبدأت بعض الأسر تتكشف غذائياً. غير أن الملاحظ عودة الغالبية للحياة وكأن أمراً لم يحدث، فيما العقل يقول أن أزماتنا المتكررة لن تتوقف في الأفق المنظور.

ما يقوله العقل أمام مشهد كهذا؛ أن الغذاء يجب أن يُنتج أو جزءاً رئيسياً منه في نفس المنطقة، عندها ستتمتع الأسر بالمرونة اللازمة لتجاوز آثار أزمة ما تلوح في الأفق. هذه المرة كوڤيد 19 وقبلها انتفاضات وحصار والقادم مجهول وإن كان بعضه متوقعاً.

الإنتاج المحلي في نفس أماكن السكن وقنوات التسويق القصيرة تشكل "الاستجابة الذكية" لما قد يطرأ من ظروف تُشلّ فيها الحركة، أو تصبح شديدة التقييد أو يصبح وصول الغذاء من أماكن بعيدة أمراً صعباً، عندها ستكون المجموعات البشرية القادرة على الاستمرار هي تلك القادرة على توفير احتياجاتها بنفسها، وتلك التي تستطيع الحصول على الغذاء من أماكن قريبة، فقنوات التسويق الطويلة غير مضمونة، فيما قنوات التسويق القصيرة، ستكون هي الاستجابة الفعلية في ظل أزمات مستمرة.

الطبيعة - فيها الشفاء ومنها الغذاء

رافق بدايات الأزمة حالات انهيار نفسية عميقة وظهرت على السطح، وعانى الكثيرون من القلق والإحباط وصولاً إلى حالات الاكتئاب، وأدت هذه الحالات إلى ارتدادات اجتماعية في علاقات بعض الناس وداخل الأسر. وما يزال الناس في حالة ترقب المجهول القادم.

في هذه الظروف كان حضن الطبيعة مفتوحاً للناس، الطبيعة التي فيها الشفاء من كل داء، كانت الطبيعة تنادي أن في أحضاني طمآنينة وراحة وانطلاق نحو الحياة.

انطلق الناس إلى الجبال والأودية، إلى الحقول والحواكير، واسترجعوا بعض الشيء شعور السكينة والأمان بفعل التوازن النفسي الذي تخلقه الطبيعة، بدأت تظهر في الجبال عِزبٌ وبيوت ريفية زراعية، ورُدت الروح للحقول وأخذ الناس يرممّون علاقتهم بالأرض والطبيعة، وعاد الإدراك لأهمية الإنتاج الذاتي للغذاء.

وبمتابعة ما يجري خارجياً، فإن هذه الظواهر انتشرت في كل البلدان وكانت حالة عالمية عامة، وأيقن الناس أن شيئاً ما يجب إعادة ترميمه في داخلنا، شيء مرتبط بإدراك البشر لحقيقة الانفصال التي نعيشها.

انفصال بيننا وبين الطبيعة، انفصال أودى بنا إلى أزمات نفسية عميقة، وحان الوقت لإعادة بناء العلاقة، التي ترجع لنا التوازن النفسي والروحي. بَحَثَ الناس عن ملجأ يهربون إليه من حالة الضياع والحزن، حالة الخوف من المستقبل ومن القادم الخفي، الأمر لا يرتبط بــ الڤيروس فحسب، بل المستقبل الاقتصادي والاجتماعي والحركة والعمل وتدفق النقد والغذاء، والخوف على كبار السن من الأهل. وفي خِضَمِّ البحث كانت الطبيعة فاتحةً ذراعيها للناس مناديةً أنْ فيَّ الشفاء وستجدون عندي الغذاء.

لم تكن الطبيعة بمفهومها الواسع فقط ما تحوّل لملجأ بل كل ما له علاقة بها، ففي المدينة كانت شرفة منزل أو شبابيك بيت كافية لبعض الناس أن يستشعروا قربهم مما فيه شفاءٌ لنفوسهم، أماكن زرعوا فيها بعضًا من بذورٍ وأشتال الخضار، يتابعونها برعايتها رياً ومراقبةً وانتظاراً للثمار. كانت ثماراً ممزوجةً بالحُب والفرح وسعادة الإنجاز.

لم تكن الأعمال الزراعية وحدها ما أخرج الناس للطبيعة، بل ازدادت مجموعات المشي في الجبال، وبدأ من خلالها الكثيرون يكتشفون ذاتهم وليس فقط الطبيعة، ومرة أخرى، تكون الطبيعة هي الملجأ وفيها الشفاء، شفاء النفس مما يكتسيها من غبار الاضطراب النفسي.

وحين نتحدث عن الطبيعة، لا بد وأن نُعرِّج على الزراعة، ذلك أن الزراعة في الأصل ممارسة في الطبيعة، رغم كل محاولات الحرف عن المسار؛ بالترويج لزراعات خارج الطبيعة، مثل أشكال الزراعة الهوائية والزراعة المائية.

كنت قد كتبت مقالاً في عام 1992 بعنوان "الملجأ وقت الأزمات"، ولم يكن المقصود في ذلك المقال أن نلجأ للزراعة "وقت الأزمات"، وإنما كنت أعني أنها يجب ألا تكون كذلك أبداً، بل ينبغي لنا أن نجعلها منهج حياة متواصل وليس في ظل الأزمات، نمارسها بكل إيمان، ونعيش حياةً فلاحية بكل مضامينها في الاعتماد على الذات، وحياة التعاون والتضامن الشعبي، ونمط الغذاء وعلاقات الناس ببعضهم وبالطبيعة والحقل وشجرة الزيتون وشواء الفريكة والحصيدة. الفهم العميق لمعنى الحياة الريفية الفلاحية تعني أن تكون الزراعة "الملجأ في كل الأوقات" وليست الملجأ وقت الأزمات، وإلا لن تتحقق الأهداف العميقة لممارسة الزراعة والأهم عيش جوهر الحياة الفلاحية. وفي مقام آخر، يقول المثل المغربي "فلاح مَكْفي سلطان مخفي"، فعندما يكون الفلاح منتجاً ما يكفيه، لن يقدر الحاكم على التحكم فيه.. وتلك هي الحرية.

"اللامركزية" حلول لا حصر لها

جانب آخر يدعونا للتأمل في ظل الارتدادات المصاحبة للجائحة، مرتبط بقدرة الأنظمة المركزية على معالجة ما ينشأ من أزمات.

وفي يومٍ، حين نشهد إنهياراً للأنظمة المركزية، المرتبطة بحياة الناس سنشهد معها ارتدادات اجتماعية سياسية غير محسوبة. ويبدو أننا غير واعيين أو لا مبالين بالمستقبل المجهول، لكنه المستقبل الممكن توقعه.

ولأن السلطات المركزية في الأنظمة الشمولية، والأنظمة الفاسدة لا تأبه بمستقبل حياة الناس، فإنها لا تكترث برسم طريق الحماية ووضع أسس الاستعداد للقادم. بينما في ظل أنظمة غاية اهتمامها توفير حياة الكرامة للناس، يبدو المشهد مختلفاً.

في آواخر ثمانينيات العقد الماضي استشعرت الدولة الكوبية الانهيار المستقبلي القادم لمنظومة الدول الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوڤيتي، التي كانت تعتمد عليها في الحصول على معظم احتياجاتها من النفط والغذاء والكيماويات الزراعية وغيرها من الأمور، فبدأت الدولة الكوبية الاستعداد لذاك التغير القادم، الذي جاء أسرع مما توقع الكوبيون، فماذا فعلت الدولة الكوبية؟

تنويع الإنتاج الزراعي الذي كان قبل ذلك إنتاجاً معتمداً في الأساس على قصب السكر، لتتحول كوبا إلى إنتاج المحاصيل المتنوعة التي يحتاجها الناس، من خضار وفاكهة وحبوب. وأصبح الإنتاج معتمداً على المزارع الكثيرة المنتشرة في كل الأرجاء، وليس على الإنتاج المركزي لمحاصيل محدودة، فانتقل الإنتاج الغذائي من المركزية إلى اللامركزية، وأصبحت المناطق تنتج الغذاء للناس المقيمين في تلك المناطق لتقليل الحاجة للنقل البعيد.

هذا من جانب، ومن جانب آخر أصبح معظم المزارعين يربون الحيوانات كالأبقار وكذلك الدواجن، واستعملت مخلفات الحيوانات والطيور لإنتاج غاز حيوي يستخدم للطبخ والاضاءة وتشغيل بعض الأجهزة، كما اعتمد البعض على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لإنتاج الكهرباء، وبذلك تراجعت الحاجة إلى محطات الكهرباء المركزية، وكذلك الحال مع الرعاية الصحية والتعليم حيث أصبح لكل حي أو قرية أو تجمع صغير مركزهم الصحي الذي يعمل على مدار الساعة.

التحول إلى اللامركزية يخلق حلولاً لا حصر لها لأزمات كثيرة تعيشها البشرية، ويقلل الضغط على الدولة المركزية، فاللامركزية في إنتاج وتوزيع الغذاء والطاقة والماء تقدم الجواب لما يجب عمله في ظل الأزمات، كما يرفع هذا التحول من قدرة الناس على مواجهة المستقبل. نظام المزارع الصغيرة والحدائق المنزلية أثبت فاعلية أكبر في ظل الإغلاق، وهو نظام لا يخلق أزمات تسويقية إذا ما تم توجيهه بوعي، وهو أيضاً نظام لا يعتمد على مدخلات إنتاج تنتقل إلينا من مسافات بعيدة، وبالتالي هنا هو أيضاً نظام أكثر مرونة في ظل الأزمات.

مما سلف يمكننا الاستنتاج أن كوڤيد 19 جاء لنا كفرصة ليحضرّنا لأزمات مستقبلية أكثر قسوة، وهو من ناحية أخرى فرصة لنا للتأمل داخل ذاتنا، فرصة للعودة للذات، وكأنه يخبرنا أن هذا هو وقت التحول الحقيقي، هو فرصة لكي يخرج من كل واحدٍ فينا أجمل ما فيه من أجل الحياة، هو عامل التغيير للأفضل إن أحسنا تعلم الدرس، وربما هذا ما أرادت لنا الطبيعة أن نتعلمه كدروسٍ من هذه الأزمة، وتبدو أنها بملء الفم قالت "من لم يتعلم من الكارثة/الجائحة لا أمل له في البقاء".