الكاتب:
د. نايف جراد
حمى الانتخابات واضحة وجلية في الساحة الفلسطينية، وكأنها تحاكي حمى أجسامنا في مقاومة فايروس كورونا، الذي أخذ يفتك بها دون رادع في ظل غياب المناعة واللقاح الفعال. وتتمظهر هذه الحمى في احتدام الجدل والحوار بين القوى السياسية وتجاذباتها والحديث عن تحالفاتها، وفي الجدل عن سبل إنجاح الانتخابات ونزاهتها وشفافيتها، وفي ازدياد حراك الترشح للانتخابات وتشكيل كتل انتخابية، وفي اندفاع شرائح وفئات اجتماعية ومهنية عديدة وأفراد كثر للدفاع عن مكانتهم وحقهم في التمثيل، وفي اللهاث وراء عضوية التشريعي، والازدحام والصراع على أخذ مكانة مضمونة في القوائم الانتخابية، وما يرافق ذلك من البحث والتوافق على الشروط والصفات اللازمة لهذه المكانة واعتباراتها. وبالنسبة لي هي حمى طبيعية، شبيه بحمى جسم الانسان الذي يرفع من التمثيل الغذائي في عضلاته وكبده للحصول على درجة حرارة أعلى تمكنه من قتل الجراثيم والفيروسات المسببة للمرض، ولكنها هنا يجب أن تفهم وتدرك باعتبارها حمى سياسية-اقتصادية-اجتماعية-ثقافية، أكثر تعقيدا من حالة الحمى البيولوجية والفيسيولوجية، لأنها على درجة أرقى من الحركة، يتدخل فيها الوعي وتؤثر عليها الارادات والعواطف المرتبطة بالمصلحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية ذات العمق الطبقي. وهي حمى طبيعية أيضا، نظرا لغياب الانتخابات العامة طوال خمسة عشر عاما مضت على آخر انتخابات، أثرت دون شك على شرعية الهيئات القائمة، وأدت إلى انقسام النظام السياسي، وإلى خلل في علاقة السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحدثت فيها تغيرات عميقة في بنية المجتمع والعلاقات الوطنية وموازين القوى الداخلية وأدت إلى نشوء فاعلين جدد سياسيا واجتماعية، وشهدت الوصول الى احتدام الصراع مع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي يسابق الزمن ويستخدم كل الإمكانيات مستثمرا الظروف المتردية والمؤاتية محليا وإقليميا ودوليا لحسم صناعة وجوده وتحقيق حلم الصهيونية التاريخي بالاستيلاء والسيطرة على كل فلسطين التاريخية، وإقامة "إسرائيل الكبرى" عبر مد نفوذ الدولة الاستعمارية المصطنعة وهيمنتها على كل المنطقة، والذي عبر عنه بالمواقف الإسرائيلية المتزمتة تجاه الحل السياسي مما أوقف المفاوضات عام 2014، وبالاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة ونقل السفارة اليها بتاريخ 6 كانون أول/ ديسمبر 2017، الأمر الذي أدى إلى وقف العلاقات الفلسطينية مع الإدارة الأمريكية، وبالإعلان عن ما سمي بمبادرة السلام والازدهار المعروفة ب"صفقة القرن" في 28 كانون ثاني/ يناير 2020، وفي قرار الضم الإسرائيلي في 20 نيسان/ أبريل 2020، وفي توقيع اتفاقيات التطبيع مع دولة الاحتلال من قبل بعض الدول العربية والتي بدأتها الامارات في 13 تموز/ أغسطس عام 2020 وتبعتها البحرين والسودان والمغرب. وذلك الى جانب ما رافق ذلك من ضغوطات اقتصادية على الشعب الفلسطيني واستمرار الحصار، وما حدث من أزمة ناتجة عن جائحة كورونا التي أثرت على الصحة العامة، وكان لها تداعيات خطيرة على الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والمناعة الوطنية.
وهكذا فإن الانتخابات الفلسطينية تأتي في ظل أوضاع معقدة ومأزومة على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي تعني أن فايروسات كثيرة تهاجم الجسد الوطني الفلسطيني، ولذا من الطبيعي أن يتداعى الجسد بحمى من أجل مقاومتها. ولأن الانتخابات العامة هي دائما ذات صلة بالخصوصيات الوطنية، ولا تتم اعتباطا، بل تأخذ بعين الاعتبار مختلف المتغيرات والظروف المحيطة، ونوعية الاستحقاق الانتخابي وغاياته، وتغير الفاعلين السياسيين والتحولات الطارئة على الحقل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومستوى تأثير العوامل الخارجية، وما يرتبط بذلك من استقطابات وتدخلات، ومن تحديات ومخاطر وتهديدات. وفي ظل واقع فلسطيني متنوع ومتعدد الانتماءات السياسية والاجتماعية والفكرية، ونسيج اجتماعي يعاني من غياب اللحمة والوحدة، ويتأثر بالعلاقات التقليدية، العشائرية والذكورية والمناطقية، وضعف بنية مؤسسات السلطة وهشاشة المجتمع المدني وتشظي النخب الفلسطينية وتأثرها بالعولمة، وحداثة التجربة الحزبية الديمقراطية، والتأثير المتزايد لوسائل الاتصال والتقنيات الحديثة وما يرافقها من انفجار معلوماتي ومعرفي، وغيرها من العوامل المؤثرة على العمليات الجارية في الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي، ومع استشعار الجميع، بالمخاطر المحدقة، بغض النظر عن مدى تحديدها الدقيق والنظرة اليها، من الطبيعي أن نشهد حمى انتخابية، معبرا عنها بحراك واسع، حزبي داخلي وشعبي.
وأحاول في مقالتي هذه مجتهدا، أن أكشف عن تحديات وتهديدات هذه الحمى الانتخابية ومكانتها في السياق الفلسطيني الخاص، وما قد تشير له وتوفره من فرص. وأجادل هنا بأن ثمة صلة وثيقة لحمى الانتخابات بالصراع الدائر بين المشروع الوطني الفلسطيني التحرري الديمقراطي والمشاريع المعادية، ومنها مشروع نتنياهو للسلام الاقتصادي، الذي يستهدف تلميع وتجديد حيوية الاحتلال وتأبيد وجوده واحكام سيطرته وتحكمه بالسيادة والأمن، وهي ما تتضمنه "صفقة القرن"، وما تبعها من مخطط للضم واتفاقات التطبيع التي طرحت بدائل للقيادة السياسية والنظام السياسي الفلسطيني القائم، والتي لا زال يجري تطبيقها على الأرض بشكل ممنهج على الرغم من تغير الإدارة الأمريكية ورحيل ترامب.
ففي إطار المشروع الوطني التحرري الديمقراطي، وبغض النظر عن المواقف المتباينة للفرقاء وعن التفاصيل، شهدت الساحة الفلسطينية جدلا واسعا حول ضرورة تجاوز الانقسام وتحقيق المصالحة الوطنية. وأكد خطاب الجميع، بغض النظر عن حقيقة النوايا، على هذا الهدف، ولكن اختلف على مداخله وطرق تحقيقه. وفي هذا السياق جاءت مبادرة الفصائل الثمانية في 19 أيلول/ سبتمبر 2019، والتي تضمنت الدعوة لتفعيل المنظمة وتشكيل حكومة وحدة وطنية على طريق الوصول إلى إجراء انتخابات شاملة، تشريعية ورئاسية وللمجلس الوطني، في منتصف سنة 2020. ولئن كانت "حماس" ولأسباب تكتيكية قد عبرت عن موافقتها على المبادرة، لم تعتبرها حركة "فتح" مدخلا صالحا لتجاوز الانقسام وتحقيق المصالحة، مطالبة بتنفيذ اتفاق أكتوبر 2017 بين فتح وحماس الذي أكد على تمكين حكومة الوفاق الوطني من القيام بمهامها في قطاع غزة وتوفير حلول للقضايا المطروحة كقضية الموظفين والمعابر وتنظيم الأجهزة الأمنية. وتعبيرا عن تكتيك هجومي يؤكد شرعية المؤسسة القيادية الفلسطينية ووحدة تمثيلها الوطني أمام التشكيك بها وبديمقراطيتها من قبل الإسرائيليين وأتباع الرئيس الأمريكي ترامب، أعلن الرئيس محمود عباس في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر أيلول 2019، دعوته لإجراء انتخابات عامة شاملة بإشراف دولي، وهو ما قوبل بترحاب فلسطيني من جميع الأطراف. وقد حركت هذه الدعوة المطالبة بإجراء الانتخابات والجدل حولها، وازداد هذا الحراك والجدل، بعد أن طرحت صفقة القرن واعلن عن قرار الضم ووقعت اتفاقيات التطبيع، والتي أريد ولا يزال يراد منها حسم صناعة الوجود الاستيطاني الصهيوني على الأرض تحقيقا لأطماع الحركة الصهيونية وأهدافها التاريخية، واغلاق الدائرة نهائيا على حل الدولتين، بتكريس وجود دولة واحدة ذات سيادة وسيطرة تامة على كل فلسطين، مع السماح لوجود إدارات حكم ذاتي محلية فلسطينية في جزر ومعازل في الضفة دون القدس، مع وضع خاص لقطاع غزة، يجعل منه مركزا لدولة فلسطينية، يمكن القبول بإنشائها، على أسس فيدرالية او كونفدرالية، اذا ما استوفت شروط التسوية الإسرائيلية الامريكية. وأمام اعلان انتصار هذا المشروع (حسم صنع الوجود) تبقت غايتان: الأولى وتتمثل باستكمال امتلاك الكيان الصهيوني لكل مقومات القوة اللازمة للاستغناء عن الدعم المقدم من المركز الامبريالي (الدولة الأم)، والثانية، حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني بإستدخال روح الهزيمة واليأس وفقدان الأمل لدى الفلسطينيين والعرب وفرض استكانتهم واستسلامهم أمام المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، وبالتالي القبول بوجوده كجسم طبيعي في المنطقة وإقامة علاقات طبيعية معه، مع التسليم بكل شروط هذا الوجود. وإن تحقيق حسم صناعة الوجود للكيان الصهيوني على أرض فلسطين وإعلان انتصار المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين وشرعنة نشاته ووجوده واستمراريته وتطوره كوجود طبيعي، وهو ما يتطلبه تطبيق صفقة القرن، والتي وافق المطبعون العرب على اعتبارها اطارا للحل، مما يعني أن التطبيع شكل ويشكل خطرا وجوديا على المشروع الوطني الفلسطيني، حيث أنه يكرس الحلول التصفوية للقضية الفلسطينية عبر الانقلاب على أسس التسوية السياسية التي قامت على أساس الأرض مقابل السلام ليحل محلها مبدأ "السلام مقابل السلام"، بل فعليا السلام مقابل الاستسلام، وهو يسقط الحاضنة العربية الرسمية للقضية الفلسطينية مضعفا الموقف الفلسطيني وسالبا إياه لعناصر قوة كان يمتلكها سابقا بوجود تلك الحاضنة مما يعزل الشعب الفلسطيني عن عمقه العربي، بل وعزل الرواية التاريخية لجذر وأسباب الصراع في المنطقة، وهو يقفز عن التمثيل الفلسطيني الشرعي طارحا بديلا للقيادة الفلسطينية. وبالطبع أن الغاية المتوخاة من كل ذلك، هي دفع الفلسطينيين للقبول بالحلول المسخ التي تنتقص من الحقوق الوطنية المشروعة غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، وبالتالي اضعاف المطالب الفلسطينية من المجتمع الدولي وإحداث ثغرات في المسعى الفلسطيني لتدويل الصراع وملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين والتحرك الفلسطيني الساعي إلى بناء حائط صد سياسي لإحباط "صفقة القرن" ومخطط الضم، وانعكاسات اتفاقيات التطبيع، التي يراد منها في نهاية المطاف نزع الشرعية عن نضال وكفاح الشعب الفلسطيني لانتزاع الحقوق الوطنية المشروعة، وفرض الهزيمة والاستسلام عليه في نهاية المطاف. وقد عبر نتنياهو عن ذلك بأقواله في خضم توقيع اتفاقيات التطبيع: "لن ننسحب من أي ارض" و "لن نعطي شيئا للفلسطينيين"، و "لن نتخلى عن ضم الضفة الغربية"، و "لا نريد بعد اليوم ان يحدثنا أحد عما يسمى حدود 67"، و "هذا سلام بدون ارض، سلام مقابل سلام" و"سلام انتزعناه بالقوة".
أمام هذا الخطر، والذي يحمل فايروسات تسبب وباءا قاتلا للجسد الفلسطيني، والذي باعتقادي أنه استُشْعر من الجميع، من الرئيس أبو مازن والسلطة الوطنية وقيادة فتح ومن حماس أيضا وبقية الفصائل- بغض النظر عن درجة ذلك الاستشعار، كان لا بد من سياسة اعتراضية، تقاوم بالإمكانيات المتاحة وتبحث عن تفعيل الإمكانيات والقدرات الكامنة، فلسطينية وعربيا واسلاميا ودوليا، متسلحة بما طرأ على الساحة الدولية من تغيير بسقوط ترامب في الانتخابات الأمريكية ومجيء إدارة جديدة برئاسة جو بايدن، ومواقف دول مختلفة عارضت صفقة القرن والضم والقفز عن العامل الفلسطيني، ومن هنا جاء الذهاب الى الانتخابات كمدخل لتفعيل دور الوحدة الوطنية والتمثيل الوطني الجامع وتجاوز الانقسام وتجديد الشرعيات الفلسطينية والبنية المؤسساتية الديمقراطية، لتعزيز القدرة على مواجهة التحديات، ومن أجل التكيف مع الظرف الطارئ، والتوقعات من احياء وتنشيط العملية السياسية بعد مجيء بايدن، وتلبية مطالب بعض الدول الصديقة، وخاصة الأوروبية، الممول الرئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية، بإجراء انتخابات فلسطينية. وفي هذا السياق جاء اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في 4 أيلول/ سبتمبر 2020، واللقاءات والاتفاق بين "فتح" و"حماس" في استانبول في 24 أيلول/ سبتمبر 2020، ومن ثم صدور المرسوم الرئاسي في 15 كانون ثاني/ يناير 2021 بإجراء الانتخابات التشريعية بتاريخ 22/5/2021 على أساس التمثيل النسبي الذي حدده مرسوم رقم 1 لعام 2007، وإجراء الانتخابات الرئاسية بتاريخ 31/7/2021، على أن تعتبر نتائج انتخابات المجلس التشريعي المرحلة الأولى في تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، وأن يتم استكمال المجلس الوطني في 31/8/2021 وفق النظام الأساس لمنظمة التحرير الفلسطينية والتفاهمات الوطنية، بحيث تجرى انتخابات المجلس الوطني حيثما أمكن، وتبع ذلك حوارات القاهرة بين الفصائل وصدور مرسوم الحريات ومن ثم ميثاق الشرف وغيرها من القرارات والإجراءات، التي تدل دون أدنى شك، أن إجراء الانتخابات العامة امر واقع لا محالة، وأن هنالك ثمة إصرار فلسطيني على تجاوز كل المعوقات والعقبات التي تعترض طريق اجراء وإنجاز الانتخابات التشريعية، والذهاب فيما بعدها لحكومة وحدة وطنية ولتعزيز التمثيل الوطني في منظمة التحرير وتجديد بنيتها وتفعيل دورها.
وهكذا فثمة حمى انتخابية من فوق، غايتها تمكين المؤسسة الوطنية وتعزيز مكانتها وتعزيز الصمود الفلسطيني في مواجهة التحديات الوجودية ومنع محاولات تجاوز المرجعيات الوطنية في أي تمثيل أو حل يتعلق بمصير الشعب الفلسطيني. ولا شك أن جزءا من هذه الحمى له علاقة بإظهار الطابع الديمقراطي للسلطة وشرعية القيادة وإظهار الاستعداد للانفتاح على الأفق المأمول لتغيير قواعد اللعبة السياسية واستعادة الدعم المنقطع. ولا تتوقف المسائل عند هذا الحد، فللحمى علاقة أيضا بموازين القوى الداخلية وما قد تحتمله الانتخابات من تغيير على هذا الصعيد. حيث أن خلافا تاريخيا كان بين المنظمة وحماس، ومختلف القوى، يتعلق بحجم تمثيلها في المؤسسات والهيئات الوطنية، يعود الى ما قبل قيام السلطة حين طالبت حماس بنسبة 40% من التمثيل في المنظمة ورفض ذلك من فتح، وهو ما تسلحت به لاحقا ورفعت من سقفه بعد أن حصلت على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي في انتخابات عام 2006، وهو ما شجعها بدعم أطراف اقليمية لمنازعة فتح والمنظمة على القيادة والتمثيل، وعملت على تعزيزه بإنشاء منظمات شعبية ومهنية بديلة للقواعد الشعبية لمنظمة التحرير في الشتات وصولا لتشكيل المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج في 24-26 شباط/ فبراير 2017، والذي اعتبرته حماس لم يكن ممكنا لو أن المنظمة تمثل كل الشعب الفلسطيني وأنه كمؤتمر يشكل خطوة استراتيجية في مهمة تطوير دور فلسطينيي الخارج ومشاركتهم في القرار السياسي الفلسطيني المستند لإعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية. وهكذا فحمى الانتخابات تعبر عن حالة الاستقطاب السياسي في الساحة الفلسطينية أيضا، وهي في ظل اعتماد التمثيل النسبي الكامل، فرصة لإظهار الحجوم الحقيقية للقوى، وهو ما سيعتمد عليه أيضا لاستكمال عضوية المجلس الوطني، وخاصة أن انتخابات التشريعي هي المرحلة الأولى من انتخابات المجلس الوطني وان أعضاء التشريعي المنتخبين هم أعضاء طبيعيين في المجلس، وأن استكمال انتخابات المجلس الوطني ستجري حيثما يمكن، وهو الممكن الصعب، والذي سيجري تجاوزه بالتفاهمات التي لن تخرج عن إطار تمثيل القوى حسب حجومها التي ستكشفها الانتخابات. ولأن كل المعطيات تؤكد بأن شعبية حماس، قد تراجعت نتيجة لسوء ادارتها وحكمها لقطاع غزة، وبسبب تزايد خلافاتها الداخلية أيضا، وأن ثمة ملاحظات عديدة حول حكم وإدارة فتح للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وتعاملها مع ملف غزة، وثمة تراجع لدور اليسار الفلسطيني وانحسار كبير لدور بعض الفصائل، وثمة محاولات إسرائيلية وخارجية لتقديم بدائل للقيادة الفلسطينية مستغلة الهموم المعيشية المتزايدة وتردي الأوضاع والانقسامات، لهذا كله تزداد حمى الانتخابات من فوق في الوسط السياسي، وهو ما يعبر عنه بطرح أفكار حول قائمة مشتركة بين فتح وحماس، وحول تحالفات وتكتلات لأطر عريضة، والتأكيد على الاستعداد لحكومة وحدة وطنية بعد الانتخابات بغض النظر عن نتائجها في محاولة لتفادي أزمة في الشرعية قد تنتج عن عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات، وكذلك التأكيد على وحدة كل فصيل، وبالتالي سعي كل طرف وصراعه مع الآخرين لكسب الناخب الفلسطيني التواق لممارسة حقه الديمقراطي والدستوري في اختيار ممثليه، والذي تصل نسبة من لم يشارك منه في الانتخابات التشريعية سابقا إلى اكثر من 50% من عدد الناخبين الحاليين.
وتجد هذه الحمى تجسيدا لها من أسفل نتيجة التنوع والتعددية التي تعيشها الساحة الفلسطينية، ونتيجة للانقسام، تزيدها حرارة التجربة المرة في العلاقة الملتبسة بين التحرر الوطني والبناء الديمقراطي الاقتصادي والاجتماعي، وبين الحرية والنظام، بين حق وواجب المواطنة، واهتزازات الثقة بالمؤسسة القيادية ونظام العدالة نتيجة العجز وسوء الإدارة والفساد والترهل، وما اعترى ويعتري نسيج المجتمع الفلسطيني من تشظيات، وما شهدته الفصائل الفلسطينية من تراجع في عملها التحرري الوطني وفي نوعية بنيتها القيادية والتنظيمية الحزبية، وما شهدته منظمات المجتمع المدني من تحولات جعلتها أقرب إلى بنية المنظمات غير الحكومية الممولة من الخارج، مندفعة تحت مغريات التمويل وشروطه للابتعاد عن المقاومة والتعامل مع الواقع كحالة "دولة ما بعد النزاع"، ناهيك عن المعانيات المتفاقمة جراء تردي الأوضاع الصحية والاقتصادية، نتيجة الحصار الإسرائيلي و سياسات الاحتلال الاستيطانية والقمعية المتزايدة بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، وقيامه عمليا بانتهاج علاقة مباشرة مع المواطن الفلسطيني بعيدا عن وساطة السلطة، الأمر الذي يجعله يتحكم بالكثير من مجريات الأمور ويؤثر على اتجاهاتها.
وفي صلب خلفية هذه الحمى من أسفل، تأتي التغيرات البنيوية التي طرأت على المجتمع الفلسطيني نتيجة الارتباك في التعامل مع تعقيدات الحالة الانتقالية المركبة من السيطرة الكولونيالية والنيوكولونيالية التي شهدتها فلسطين بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، والتي أوصلت الأمور إلى حد التكيف مع متطلباتها رسميا وشعبيا إلى حد كبير. ويعود ذلك لأسباب كثيرة، أهمها قوة آليات تلك السيطرة الكولونيالية والنيوكولونيالية، وهشاشة المجتمع المدني الفلسطيني، وضعف بنية الحركة الوطنية الفلسطينية وترهلها وانقسامها، وأزمة النظام السياسي الفلسطيني وعجز سياساته التنموبة، وهو ما عني تراجع المشروع الوطني التحرري وخضوع العملية التنموية الفلسطينية لمبادئ وقيم وشروط الحاكمية الدولية الليبرالية والنيوليبرالية، التي رسخت وترسخ أقدامها عبر دور أوساط التمويل والدعم الخارجي من دول ومنظمات ووكالات دولية حكومية وغير حكومية، أوجدت لها قاعدة وحاضنة اجتماعية فلسطينية في صفوف البرجوازية الفلسطينية الكومبرادورية والبيروقراطية والنخب المعولمة، وجد تجلياته الواضحة في تكريس المناهج النيوليبرالية في الحكم والتنمية والعمل المجتمعي ونمط الحياة والمعيشة، الذي راح ينساق وراء السوق والاستهلاك، بكل ما يعنيه ذلك من معنى. فمن المعروف أن النيوليبرالية قد زرعت وتزرع وهم ان أسباب التخلف ومعضلات البلدان النامية أو التي تعيش مراحل انتقالية هي داخلية بالأساس، ولذا فإن جهود الحكومات، كما في الحالة الفلسطينية، يجب أن يتجه نحو مكافحة واقتلاع العقبات الداخلية التي تحول دون حوكمة وتمكين الدولة والمجتمع وسيادة القانون ومنع العنف والحفاظ على الأمن الداخلي، ويحتاج ذلك لترويج خطاب يتملك عقول الناس، ويساهم من خلال اسقاطاته الاجتماعية في ضبط اتجاهاتهم وسلوكهم. وأما خصخصة السوق المرتبطة بالنيوليبرالية، والتي وجدت تطبيقها في فلسطين، فإنها أدت وتؤدي إلى خصخصة الصراعات الاجتماعية والسياسية الجماعية لتتحول إلى صراعات فردية لها علاقة بالحرية الشخصية والفردية وبالإمكان إيجاد حلولها في السوق. وبهذا فهي كرست وتكرس الفردانية وحرية الاختيار، وبالتالي يتحول كل صراع ناتج عن قمع بنيوي ومتجذر إلى صراع فردي له علاقة باختيارات الفرد وسعيه لتلبية مصالحة الفردية، وبالتالي اهمال أسباب وجذور الهيمنة والسيطرة الاستعمارية التي تخنق المجتمع الفلسطيني وتسبب معاناته أفرادا وجماعة.
وللأسف كان وراء ذلك أناس تسلموا زمام السلطة في فترات سابقة، كالدكتور سلام فياض، وبعض الوزراء من رجال الأعمال في حكومته وحكومات لاحقة، وهم ممن يسعون لتشكيل وترؤس كتل انتخابية اليوم، حيث قاموا بتنفيذ سياسات البنك الدولي، المعبرة عن منهج نيوليبرالي معولم، يعزو العجز الفلسطيني عن تحقيق الاستقلال لأسباب ذاتية، تماما كما يعزى بذلك فشل التنمية في الدول النامية، وبالتالي فإن الحل ب"الخصخصة"، أي الحل الفردي من خلال انسحاب الدولة من التدخل في التنمية الاقتصادية واستبدال التخطيط المركزي بآليات السوق الحر المُحرِّرة للاقتصاد، وإحالة مهمة التنمية للمجتمع المدني تحت غطاء مفاهيم التمكين والدعوة للحكم الرشيد والديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الانسان. وقد روج لهذه السياسة في الظرف الفلسطيني باعتبارها شروطا مسبقة وسبيلا قويما لتحقيق الاستقلال. وهو ذات الخطاب المعولم، تماما، الذي نجده، في تفاصيل ما يسمى ب"صفقة القرن" في شقها الاقتصادي. وأجدني هنا متفقا تماما مع ما ذهب اليه رجا الخالدي وصبحي سمور (الخالدي وسمور (خريف 2011): برنامج إقامة الدولة الفلسطينية وإعادة تكوين الحركة الوطنية الفلسطينية: النيوليبرالية بصفتها تحرراً. ترجمة يولا البطل. مجلة الدراسات الفلسطينية، عدد 158، ص 6-25.) في أن تلك السياسة أعادت تعريف النضال التحرري الفلسطيني وحرفت مساره عن مقاومة وتحدي الاحتلال، وذلك من خلال "الحوكمة النيوليبرالية" في ظل الاحتلال، القائمة على تحقيق النمو والازدهار، جاعلة منها بديلاً لاستراتيجية مقاومة وتحدي الاحتلال والنضال الأشمل في سبيل الحقوق الوطنية، وهي سياسة تعكس أجندة السياسة الاقتصادية المعلنة في عقيدة ما اصطُلح على تسميته "إجماع ما بعد واشنطن (PWC)، الذي تجسده مؤسسات بريتون وودز (BWI)، ومجموعة البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي. ولهذا فإن هذه السياسة "الفياضية" كانت بعيدة كل البعد عن وصفها ب “ديمقراطية اجتماعية" وأنها سعت وانحازت ل"الاقتصاد المقاوم"، كما يقول وللأسف الصديق جمال زقوت (أنظر مقال جمال زقوت جمال زقوت "نظرية چوبلز وشائعة القروض البنكية!"، المنشور في "معا" بتاريخ: 13/03/2021) بل كانت في صلب السياسات النيوليبرالية التي شكلت ضربة قوية للنضال الوطني الجماعي الذي كان يمكنه أن يعزز الاقتصاد المقاوم ويشكل خشبة خلاص لتنمية تحررية.
وللأسف فإنها ذات السياسة التي يجري إعادة ترويجها اليوم، تحت أغطية كثيرة، ومنها أن الأولوية هي للبرنامج الاقتصادي والاجتماعي، وليس للسياسي، وأن على القوى السياسية والكتل الانتخابية أن تركز على ذلك من أجل توفير حلول لمشاكل وهموم واحتياجات الناس الملحة وبناء المؤسسة "المحوكمة" الرشيدة، وهو كلام حق، لكنه يتناسى عن قصد أو غير قصد أولوية السياسة والبرنامج السياسي في ظل احتدام الصراع مع الاحتلال وجرائمه الفظيعة بحق الأرض والانسان الفلسطيني، والمتجلية اليوم بالهجمة الاستيطانية المحمومة والتطهير العرقي في الأغوار والقدس، وبالتالي فإن هذه السياسة تصب؛ سواء أراد أصحابها ومروجوها ام لم يريدوا، في مشروع نتنياهو للسلام الاقتصادي و"صفقة القرن"، مشكلين بذلك خير وسيلة لإعادة زراعة الوهم من جديد وحرف الشعب الفلسطيني عن غايته في الخلاص من الاحتلال ونيل الحرية والاستقلال. وتجد هذه السياسة تبني لها من بعض رجال الأعمال الفلسطينيين ومن نخب مدنية وأكاديميين وبعض الحراكات الشعبية. وكما حاولت وتحاول البرجوازية الفلسطينية أن تجد لها موطئ قدم في الحكم وتتحكم بمسار النضال الوطني والتنموي الفلسطيني، تحاول منظمات "الأنجزة" وبعض النخب الفاسدة أن تفعل الشيء نفسه اليوم، تحت أغطية كثيرة.
وعليه فإن مسألة تشكيل كتل انتخابية اليوم، تحت مسميات ودواعي عديدة، وإن كان حقا مشروعا بالقانون، فهو لدى البعض حق يراد به باطل، ولدى آخرين نوايا حسنة للإصلاح، لكنها قد تصب في غير غايتها. والخوف كل الخوف أن يوصل هذا المسعى ممثليه للهيئة التشريعية ولاحقا للحكم محمولين على التمويل المشبوه، الذي يتدفق من أطراف إقليمية مختلفة تسعى لخلق بدائل للحركة الوطنية الديمقراطية التحررية، مستغلا حاجات الناس الملحة وأوضاعهم الصعبةـ ليشتري ذممهم وأصواتهم بأموال أسياده الذين يتسابقون على الاستثمار في الاستيطان الاستعماري الصهيوني.
كل ذلك يوضح أسباب وعوامل ودلالات وأبعاد الحمى الانتخابية، ولماذا تتخذ قرارات صارمة في هذا التنظيم أو ذاك لتأكيد وحدته، ولماذا نشهد هذا الحراك الواسع لتشكيل قوائم للمستقلين والنخب ولبعض القطاعات والفئات الاجتماعية كالشباب والنساء والأكاديميين وذوي الإعاقة والفنانين ورجال الأعمال والمزارعين واللاجئين، وحتى للمناطق كالقدس وغزة، وللعشائر والعائلات. وهو ما يوضح أيضا، وجود محاولات خبيثة ومشبوهة، سواء من الاحتلال أو من غيره، لزج أعوانهم للتأثير في العملية الانتخابية واللعب على الانقسامات والصراعات واستغلالها لاختراق الصف الوطني.
كل ذلك يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في التعامل مع العملية الانتخابية، بل وباستطاعة القوى الحية من شعبنا الفلسطيني، وهي كثيرة وتشكل الأغلبية، أن تجعل من ذلك ليس نقمة، بل نعمة، وذلك بتحويل هذا الحراك وهذه الحمى لتعزيز حيوية المجتمع الفلسطيني وديمقراطيته وتكريس تعدديته والتزامه بالتداول السلمي للسلطات، وتعزيز الصمود الوطني والمناعة الوطنية بالحرص على تجديد البنى المؤسساتية، وتحقيق الاستقرار المطلوب بديلا للتشظي والانقسام بتكامل عضوي وشراكة وطنية في مواجهة الاحتلال والمشاريع التصفوية، وتأكيد وحدة المؤسسة الوطنية الجامعة التي تمثل كل الشعب الفلسطيني داخل الوطن وفي الشتات، وصاحبة الحق بالتقرير في المسائل التي تمس المصير الوطني، على طريق الخلاص من الاحتلال وتحقيق حلم عودة اللاجئين، ونيل الحرية والاستقلال الناجزين في دولة فلسطين المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس. ولا شك أن الوصول الى ذلك يجب ان يترافق مع تعرية وكشف زيف المتطفلين على الشرعية الوطنية المارقين عنها أصلا، والساعين لاختراق الصف الوطني وحرف الانتخابات عن غاياتها الوطنية المنشودة.
وباعتقادي أن هذه الفرصة المشار اليها، لا تتأتى الا بتعامل حكيم مع اكراهات العملية الانتخابية لتحقيق الفعالية الوظيفية المتوخاة منها، ببناء تفاهمات وتوافقات وتأطير الخلافات باعتبار الانتخابات الوسيلة الممكنة لحلها ومنح الشرعية، وتوفير ضمانات المشاركة العادلة والتمثيل العادل لمختلف القطاعات والفئات والنخب على أسس ومعايير واضحة، تأخذ بعين الاعتبار أن الهيئات المراد انتخابها ليست خدماتية كالمجالس البلدية، او حقوقية مهنية كالنقابات والاتحادات والجمعيات الشعبية والأهلية، وليست خيرية بالطبع، بل تشريعية ورقابية وتقريرية ذات علاقة بالصراع مع المحتل والبناء الوطني والمصير الوطني، وباعتبار أن تحقيق الانتخابات لغاياتها يتطلب اعتبارها جزءا لا يتجزأ من مسار متكامل، يستهدف الوصول للمعنى المنشود في ترسيخ الديمقراطية والوحدة واللحمة الوطنية والصمود والاجتماع المدني المقاوم والبنية المؤسساتية الوطنية الكفؤة المعززة بالشرعية الديمقراطية الانتخابية والمشروعية الوطنية والدستورية في ظل دولة فلسطين الحرة المستقلة ذات السيادة.